كيفَ تتجلّى الأسماءُ الحُسنى في أهلِ البيت
قالَ تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيبِ لَا يَعلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحرِ ۚ وَمَا تَسقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرضِ وَلَا رَطبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) كما نعلمُ أنَّ صفاتِ وأسماءِ اللهِ مُتجلّيةٌ بأهلِ البيتِ عليهم السّلام . نريدُ أدلّةً لو سمحتُم وتفسير هذهِ الآيةِ بهِم سلامُ الله عليهم إذا أمكنَ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
لمعرفةِ كيفَ تتجلّى الأسماءُ والصّفاتُ في أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) لابُدَّ منَ التّقديم ببعضِ الأمور.
أوّلاً: إنَّ اللهَ تعالى يتّصفُ بصفاتِ الكمالِ والجمالِ لكونِه مُستحِقّاً لها بذاتِه، وما دونَه يتّصفُ بها بالعرضِ والتّبعِ، فالمخلوقُ مُضطرٌّ في وجودِه للهِ تعالى فضلاً عَن كمالاتِه الوجوديّةِ، وعليه كلُّ ما يتّصفُ بهِ المخلوقُ مِن كمالاتٍ هيَ منَ اللهِ قبضُها وبسطُها بيدِه تعالى، فحقيقةُ اللهِ هيَ الكمالُ المُطلَقُ وحقيقةُ المخلوقِ هيَ الفقرُ المُطلَقُ، وقَد أكّدَت الآيةُ التي أشارَ لها السّائلُ إلى هذهِ الحقيقةِ في قولِه تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيبِ لَا يَعلَمُهَا إِلَّا هُوَ) فالغيبُ المُطلَقُ عندَ اللهِ تعالى ولا سبيلَ لغيرِه إليه، ومعَ ذلكَ قَد يتفضّلُ اللهُ على بعضِ خلقِه بأن يُظهرَ لهُم بعضَ غيبِه، قالَ تعالى: (عَالِمُ الغَيبِ فَلا يُظهِرُ عَلَى غَيبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارتَضَى مِن رَسُولٍ)
ثانياً: إنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى لا تُحيطُ بهِ العقولُ ولا تُدركُه الأبصارُ، ولا طريقَ إلى معرفتِه إلّا بتعريفِه تعالى نفسَه للعبادِ، فهوَ الذي فطرَ العبادَ على معرفتِه ودلّهُم على توحيدِه، حيثُ لم يجعَل طريقاً إلى معرفتِه إلّا بالعجزِ عَن معرفتِه، فهوَ الدّالُّ على ذاتِه بذاتِه، ومُنزّهٌ عَن مُجانسةِ مخلوقاتِه، وهوَ المُتفضّلُ على العبادِ بتعريفِ نفسِه، معرفةً تُخرجُه عنِ الحدّينِ: حدُّ التّعطيلِ وحدُّ التّشبيهِ، بمعنى إثباتِه دونَ إدراكِه، بحيثُ يمتنعُ وصفُه وتسميتُه، ولولا أنَّ اللهَ سمّى نفسَه بأسماء ووصفَها بأوصافٍ؛ لما جازَ لنا أبداً وصفُه وتسميتُه، ومِن هُنا نفهمُ النّصوصَ التي تنهى عَن وصفِ اللهِ بما لَم يصِف بهِ نفسَه، فالإنسانُ إذا أرادَ أن يصفَ شيئاً فلا بُدَّ أن يكونَ ذلكَ الشّيءُ معلوماً مُتصوّراً للعقلِ، أمّا إذا كانَ العقلُ يعجزُ عَن معرفتِه وتصوّرِه، فحينئذٍ محالٌ أن يصفَهُ بصفةٍ، ولو تمرّدَ الإنسانُ وسعى لوصفِ اللهِ سُبحانَه بعقلِه، فهوَ في واقعِ الأمرِ لا يصفُ ربّه وإنّما يصفُ ما يتصورُه وهوَ غيرُ اللهِ، كما يقولُ الإمامُ الباقرُ (ع): (كلّما ميّزتموهُ بأوهامِكُم في أدقِّ معانيهِ مخلوقٌ مثلُكم مردودٌ عليكم) .
ثالثاً: جعلَ اللهُ الأسماءَ والصّفاتَ وسيلةً يتقرّبُ بها الإنسانُ للهِ تعالى، وذلكَ لكونِ المعرفةِ التي فُطرَ بها الإنسانُ هي إثباتُه معَ نفي التّشبيهِ، أي تنزيهِه سبحانَه مِن كُلِّ حدٍّ، وصورةٍ، وصفةٍ، وإسم، ورسم، فكانَ لا بُدَّ أن يُسمّي لنا نفسَه بأسماء ويصفَها بصفاتٍ؛ لأنَّ معرفتَنا بهِ تجعلنا عاجزينَ عَن أن نُسمّيهِ بإسمٍ أو نصفَهُ بصفةٍ، بَل ليسَ لنا آلةٌ ننالُ بها ذلكَ، فإن سمّيناهُ بعقولِنا تصوّرناهُ، وإن حاولنا بأوهامِنا تخيّلناهُ، فخلقَ اللهُ لنا هذهِ الأسماءَ وسيلةً بينَه وبينَ خلقِه، بوصفِها مُعبّرةً ومُذكِّرةً ومُرشدةً إلى اللهِ القدّوسِ، الخارجِ عنِ الحدّينِ الظّاهرِ بذاتِه، بعدَ مرتبةِ تعريفِه تعالى نفسَه للعبادِ وليسَ إيقاعاً على الغائبِ المجهول.
رابعاً: قالَ تعالى (وَللهِ الأَسماءُ الحُسنى فَادعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلحِدُونَ فِي أَسمائِهِ سَيُجزَونَ ما كانُوا يَعمَلُونَ) قَد أكّدَت الآية على المُفارقةِ بينَ الله المعبودِ حقّاً وبينَ أسمائِه بقولِه تعالى: (للهِ الأسماءُ)، والغيريّةُ واضحةٌ في النّصِّ، فاللهُ شيءٌ والأسماءُ شيءٌ آخر، وقولُه: (فادعوهُ بها) تأكيدٌ على هذهِ المُباينةِ، فالمقصودُ بالدّعاءِ هوَ اللهُ وليسَ الأسماء، فمَن دعا الأسماءَ قاصداً أنّها اللهَ فقد كفرَ بلا شكٍّ، أمّا مَن دعا اللهَ بالأسماءِ فتلكَ حقيقةُ التّوحيدِ.
ولكِن كيفَ تكونُ هذهِ الأسماءُ طريقاً إلى عبادتِه؟ وما المقصودُ منَ الدّعاءِ بتلكَ الأسماءِ؟
بشكلٍ مُختصَرٍ هذهِ الأسماءُ هيَ آياتُ الكمالِ التي يجدُها الإنسانُ ظاهرةً في الخليقةِ، فعندَما نقولُ: عليمٌ، قديرٌ، رحيمٌ، سميعٌ، بصيرٌ، حيٌّ، قيومٌ ... لا نقصدُ مفاهيمَ ذهنيّةً وصوراً عقليّةً، وإنّما حقائقَ نجدُها ظاهرةً واضحةً في الخلقِ، فإسمُ القُدرةِ: هوَ الذي يجدُه كلُّ إنسانٍ مُتجلّياً في وجودِه الشّخصيّ، وكذا إسمُ العلمِ، فإنَّ اللهَ صنعَ الإنسانَ بقُدرةٍ وبعلمٍ، وهكذا كلُّ أسمائِه، فإنّها تجلّياتٌ في عالمِ الخلقِ.
ومِن هُنا أمرَنا اللهُ بالتّفكّرِ في آياتِ الكونِ، لكَي يجدَ الإنسانُ أسماءَهُ الحُسنى ظاهرةً مُتجلّيةً في خلقِه. فالأسماءُ هيَ حقيقةُ الوجودِ وسرُّ بقاءِ الخليقةِ، ولو رفعَ اللهُ هذهَ الأسماءَ لتلاشى الخلقُ وتحوّلَ إلى عدم.
خامساً: إنَّ حقيقةَ الإنسانِ وسرَّ وجودِه نابعة مِن أسماءِ اللهِ الحُسنى، وإنَّ قيمتَه بمقدارِ ما يحملُه مِن تلكَ الأسماءِ، فإسمُ العليمِ، والقديرِ، والحيّ، والرّحيمِ، والسّميعِ، والبصير.. لها تجلّياتٌ في واقعِ الإنسانِ، فما يجدُه الإنسانُ في نفسِه منَ العلمِ، والقُدرةِ، والسّمعِ، والبصر، والحياةِ، والرّحمةِ، والإيمان...هيَ مِن تلكَ الأسماءِ، لأنّها فعلُ اللهِ في الإنسانِ، وهيَ حقيقةُ الإنسانِ وسرُّ بقائِه، فلو رفعَها اللهُ منهُ لكانَ نسياً منسيّاً. وعليهِ الإنسانُ وما عندَهُ مِن كمالاتٍ إنّما يُحقّقها عبرَ أسماءِ اللهِ الحُسنى وهيَ غيرُ اللهِ تعالى، فمهما بلغَ الإنسانُ منَ الكمالِ عبرَ هذهِ الأسماءِ يظلُّ عبداً فقيراً للهِ تعالى مُحتاجاً إليهِ في كُلِّ خطوةٍ مِن خطواتِ كمالِه، وفي نفسِ الوقتِ لا يمكنُ للعبدِ أن يتشبّهَ باللهِ لأنَّ هذهِ الصّفاتَ والأسماءَ غيرُ اللهِ وإنّما هيَ فعله تعالى، فإذا تجلّى العلمُ في إنسانٍ بحيثُ أصبحَ يعلمُ ما كانَ وما سيكونُ، أو أصبحَ لهُ منَ القُدرةِ بأن يقولَ للشّيءِ كُن فيكون، أو غيرِ ذلكَ، فإنّهُ لا يشاركُ اللهَ أو يُشابهُه أو ينازعُه في صفةٍ مِن صفاتِه؛ وذلكَ أنَّ كمالَ الإنسانِ عبرَ الأسماءِ الحُسنى وهذهِ الأسماءُ غيرُ اللهِ تعالى وإنّما هيَ فعله سُبحانَه.
سادساً: إنَّ حقيقةَ العبادةِ هيَ تكاملُ الإنسانِ عبرَ هذهِ الأسماءِ فكلّما تجلّت الأسماءُ في العبدِ كلّما تقرّبَ مِن ربّه، فالطّريقُ الوحيدُ لتكامُلِ البشر هوَ معرفتُه تعالى، ومِن ثمَّ معرفةُ أسمائِه، ويتكاملُ الإنسانُ بمقدارِ وجدانِه لتلكَ الأسماءِ. وليسَ لهذا التّكاملِ حدٌّ ينتهي إليه، يقولُ تعالى: (وَفَوقَ كُلِّ ذِي عِلمٍ عَلِيمٌ)، لأنَّ عطاءَ اللهِ بلا نهاية، ولذا حثَّ الدّينُ على العلمِ والتّعلّمِ ومدحَ اللهُ العُلماءَ. وهكذا كلُّ أسمائِه، فالقدرةُ ليسَ لها حدودٌ، فكما أعطى اللهُ القُدرةَ للإنسانِ التي بها قوامُ حياتِه، فليسَ هُناكَ مانعٌ أن يجعلَ لآصف بنِ برخيا قدرةً يُحضِرُ بها عرشَ بلقيس، قبلَ أن يرتدَّ طرفُ سُليمان، وكذلكَ السّمعُ، فسمعُ سيّدنا سليمانَ للنّملةِ ليسَ بمقدارِ ما منحَهُ لكُلِّ إنسانٍ مِن سمعٍ، وقَد جاءَ في الحديثِ: (عبدي أطِعني تكُن مثلي، أقولُ للشّيءِ كُن فيكونُ وتقولُ للشّيءِ كُن فيكون). وفي روايةِ البُخاري عَن رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم: (وَمَا يَزَالُ عَبدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحبَبتُهُ كُنتُ سَمعَهُ الذي يَسمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبطُشُ بِهَا، وَرِجلَهُ الَّتِى يَمشِى بِهَا، وَإِن سَأَلَنِى لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ استَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ) .
وقَد تفضّلَ اللهُ تعالى فعلاً على أوليائِه وخاصّتِه، بالمنزلةِ العاليةِ والدّرجةِ الرّفيعةِ، وكرّمَهُم بعلمِه وإجتباهُم بفضلِه، وجعلَهُم حملةَ أسمائِه ومستودعَ سرّه ووعاءَ مشيئتِه. وبذلكَ نفهمُ سببَ ما أشكلَ بهِ على الشّيعةِ، في علمِ الأئمّةِ وعصمتِهم وفضلِهم ومكانتِهم، وهوَ ظنُّهم أنَّ ذلكَ يجعلُ الأئمّةَ ينازعونَ اللهَ في صفاتِه وأسمائِه وهُم يغفلونَ بذلكَ عَن كونِ هذه الأسماءِ والصّفاتِ هيَ خلقُ اللهِ وفعله، أمّا اللهُ قبلَ أن يخلُقَ الخلقَ فهوَ غنيٌّ بنفسِه لا يحتاجُ إلى إسمٍ أو صفةٍ وإنّما نفسُه هوَ وهوَ نفسُه، وإنّما خلقَ الأسماءَ والصّفاتِ لكي يتكاملَ بها خلقُه ويتقرّبَ بها عبادُه إليه، والأئمّةُ مِن أهلِ البيتِ (عليهم السّلام) يُمثّلونَ معَ الأنبياءِ والرّسلِ المصداقَ الأتمَّ والنّموذجَ الأمثلَ في عبادةِ اللهِ تعالى.
اترك تعليق