ما معنى قولِ الإمامِ الحُسين ع :( أمّا بعدُ فكأنَّ الدّنيا لم تكُن و كأنَّ الآخرةَ لم تزل )؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : يبدو أنَّ هذهِ الرسالةَ هيَ آخرُ ما كتبَه الإمامُ الحُسين (عليهِ السلام) مِن كربلاءَ إلى أخيهِ مُحمّدٍ بنِ الحنفيّةِ حيثُ جاءَ فيها: (منَ الحُسينِ بنِ عليّ إلى محمّدٍ بنِ عليّ ومِن قَبلِه بني هاشم: أمّا بعدُ، فكأنّ الدّنيا لم تكُن! وكأنَّ الآخرةَ لم تزَل! والسّلام)، وهيَ رسالةٌ قصيرةٌ في كلماتِها لكنّها عميقةٌ في معناها، حيثُ لخّصَ الإمامُ الحُسين (عليهِ السلام) بهذهِ الكلماتِ حقيقةَ الحياةِ الدّنيا، وأنّها ليسَت شيئاً في قبالِ الآخرة، فقولهُ عليهِ السلام: (كأنَّ الدّنيا لم تكُن) ليسَ نفياً لكينونةِ الدّنيا بشكلٍ مُطلق؛ وذلكَ لأنَّ الدنيا في الواقعِ كائنةٌ بشهادةِ الجميع، وإنّما نفى بذلكَ أن يكونَ للدّنيا كيانٌ مُستقلٌّ مُنفصلٌ عن الآخرة، فإذا نظَرنا للإنسانِ بوصفِه محوراً لهذهِ الحياةِ نجدُ أنَّ حياتَه إمّا أن تكونَ محدودةً بحدودِ الدّنيا وإمّا أن تكونَ مُمتدّةً بأمدادِ الآخرةِ، وفي الحالةِ الأولى تكونُ الدّنيا هيَ البدايةُ والنهاية، أمّا في الحالةِ الثانيةِ تصبحُ الدّنيا مُجرّدَ نُقطةٍ في خطِّ مسارٍ يبدأ مِن عالمِ الذرِّ ليستمرَّ بشكلٍ لا نهائي في حياةٍ أبديّةٍ في الآخرة، وبهذا المعنى يصبحُ تعلّقُ الإنسانِ بالدّنيا بوصفها أساساً للحياةِ مُجرّدَ تعلّقٍ زائف؛ وذلكَ لأنّها في الحقيقةِ لم تكُن وليسَ لها كيانٌ مُستقلٌّ، بينَما تصبحُ الآخرةُ هيَ الكائنيّةُ والتي لم تزَل موجودةً، ولذا قالَ عليهِ السلام (وكأنَّ الآخرةَ لم تزل)، وهذا المعنى هوَ خلاصةُ ما جاءَت بهِ جميعُ الرّسالاتِ السّماويّة، ففلسفةُ الرسالاتِ قائمةٌ على لفتِ انتباهِ الإنسانِ إلى الحياةِ الحقيقيّةِ وهيَ الحياةُ في الآخرة، قالَ تعالى: (وَمَا هَٰذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا إِلَّا لَهوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ ۚ لَو كَانُوا يَعلَمُونَ)  وقد جسّدَ الإمامُ الحُسين (عليهِ السلام) هذا المعنى في كربلاء بأفضلِ ما يكون، فقدّمَ نفسَه الشريفةَ وكلَّ ما يملكُ ليثبتَ بشكلٍ عمليٍّ أنَّ الدّنيا ليسَت لها قيمةٌ في قبالِ الآخرة، وقد صرّحَ بذلكَ لأصحابِه في طريقِه إلى كربلاء، حيثُ قالَ: (عليه السلام): (إنَّه قد نَزَلَ بنا منَ الأمرِ ما قد تَرَونَ، وإنّ الدّنيا قد تغيَّرَت وتنكَّرَت، وأدبَرَ مَعروفُها، واستمرَّت حذّاء، ولم تبقَ مِنها إلّا صبابةٌ كَصبابةِ الإناء، وخَسيسُ عَيشٍ كالمَرعى الوَبيل. ألاَ تَرَونَ إلى الحقِّ لا يُعمَلُ به، وإلى الباطلِ لا يُتناهى عنه، ليرغبَ المؤمنُ في لقاءِ ربِّه مُحقّاً، فإنّي لا أرى الموتَ إلّا سعادةً، والحياةَ معَ الظالمينَ إلاّ بَرَماً)