هل التخلي عن الدين والاعتماد كلياً على العلم جعل العالم احسن؟ "
الجوابُ:
يرتكزُ هذا السؤالُ على أنَّ العلمانيّةَ وفصلَ الدينِ عن الدولةِ هوَ الذي مهّدَ الطريقَ أمامَ الحضارةِ الحديثة، ويبدو أنَّ ذلكَ اختزالٌ مخلٌّ للطموحِ السّامي الذي يسعى الإنسانُ لتحقيقِه، وفي نفسِ الوقتِ تحجيمٌ للإسلام وأبعادِه عن الأدوارِ الأساسيّةِ في الحياة، فالإسلامُ ليس مُجرّدَ هويّةٍ مجتمعيّةٍ يمكنُ تبديلُها بهويّةٍ أجنبيّةٍ وإنّما يمتلكُ الإسلامُ رؤيةً معرفيّةً وإطاراً فكريّاً شديدَ التأثيرِ والفاعليّة، فمُصادرتُه تعني مُصادرةَ الإنسانِ بكلِّ ما يحملُ مِن تاريخٍ وحضارةٍ وخبرةٍ طويلةٍ في المجالِ الفِكري والثقافي، فالإسلامُ كنظامٍ معرفيّ ومبادئ قيميّةٍ يستعصي على التهميشِ والإهمال، والفشلُ الذي رافقَ الفكرَ الكَنسي في قُدرتِه على الصّيرورةِ والمواكبة، لا يمكنُ تعميمُه على الإسلام، وبالتالي نقلُ تجربةِ الصّراعِ العلمانيّ مع الكنيسةِ إلى الصّراعِ معَ الإسلام محاولةٌ غيرُ ناضجة؛ لأنّها تنطلقُ مِن فهمٍ غيرِ حقيقيٍّ للإسلام عملَ على مُقايسةِ الإسلامِ بالمسيحيّة، فالكنيسةُ شكّلَت في تلكَ الفترةِ عقبةً حقيقيّةً أمامَ التقدّمِ العِلمي في حينِ أنَّ الإسلامَ وبكلِّ مبادئِه وتوصياتِه يشجّعُ على البحثِ العِلمي ويفتحُ الطريقَ أمامَ إبداعِ العقلِ الإنساني، وإشكاليّةِ العلمانيّةِ العربية هو إصرارها على تعميم الموقف الكنسي على الإسلام، فالعلمانيّةُ العربيّةُ مُستلبةٌ فكريّاً وثقافيّاً بما حدثَ في عصرِ التنويرِ في أوروبا، فبدلَ أن تعملَ على تأسيسِ خطابِها الخاصِّ المُتناسبِ معَ البيئةِ الثقافيّةِ للإنسانِ المُسلم، نجدُها تصرُّ على استيرادِ ذلكَ الخطابِ الذي انتجَه عصرُ التنويرِ في قبالِ الكنيسة، فكرّسَت جهدَها على مُحاربةِ الإسلام بحُجّةِ أنّهُ مخالفٌ للحداثةِ والتطوّر، في حينِ أنَّ السلامَ لم يمنَعهم مِن ذلك ولم يقِف حجرَ عثرةٍ أمامَ تطلّعاتِهم كما فعلَت الكنيسةُ.
ومنَ الأمورِ التي يروّجُ لها الفكرُ العلمانيّ هوَ تحديدُ الإسلامِ وحصرُه بالقراءةِ السلفيّة، لكي يسهلَ ضربُه ومصادرتُه عندَما يفشلُ أمامَ مُتطلّباتِ الحاضرِ، وهذا تحاملٌ غيرُ مُبرّرٍ لأنَّ الإسلامَ ضمنَ القراءاتِ الأخرى يتمتّعُ بقُدرةٍ كبيرةٍ على استيعابِ المُتغيّرات وتوظيفها حضاريّاً، وبالتالي هناكَ مقارباتٌ إسلاميّةٌ أكثر نُضجاً وفهماً لتحديّاتِ الواقعِ المُعاصر، كلّها تسعى لتقديمِ تصوّرٍ للإسلامِ يتّسمُ بالأصالةِ والانفتاح، وما تعنيهِ الأصالةُ ليسَ تحجّراً ورجعيّة؛ وإنّما أصالةُ الدينِ المُنبعثِ مِن أصالةِ القيم، وما يعنيهِ الانفتاحُ ليسَ تبعيّةً واستسلاماً؛ وإنّما انفتاحٌ ببصيرةِ العقلِ المُستبصرِ بالوحي.
فليسَت الإشكاليّةُ الثقافيّةُ هيَ عدمَ الاعترافِ بالصيرورةِ فحَسب كما عندَ السلفيّة - وإن كانَ عدمُ الاعترافِ بها جموداً وتخلّفاً ورجعيّةً - وإنّما الإشكاليّةُ الأخطر هيَ الإيمانُ بالصيرورةِ دونَ الإيمانِ بوجودِ قيمٍ كُبرى ناظمةٍ لها ومُتحكّمةٍ فيها كما هوَ حالُ العلمانيّة، فالصيرورةُ من دونِ تلكَ القيمِ هيَ مُجرّدُ حركةٍ عبثيّة، والإنسانُ الذي تجرُّه المُتغيّراتُ دونَ هُدىً ولا بصيرةٍ إنسانٌ فاشلٌ تصنعُه الظروفُ دونَ أن يصنعَها.
صحيحٌ ليسَ منَ البساطةِ تكوينُ هذا الوعي والأمّةُ مُثقلةٌ بكلِّ هذه الإحباطات، وصحيحٌ أيضاً بأنَّ القفزَ مِن سفينةِ الإسلامِ قد يكونُ أسهلَ الحلولِ عندَ البعض؛ لأنَّ الركونَ للحياةِ والاستسلامَ لضغوطِها لا يحتاجُ إلى عناءٍ أو حافز، ومعَ ذلكَ فإنَّ خسارةَ الإنسانِ لدينِه ليسَ خسارةَ هويّةٍ فحسب، وإنّما خسارةُ الإنسانِ لكلِّ شيءٍ حتّى إنسانيّتَه. فقيمةُ الإنسانِ بالقيمِ التي تتحلّى بها روحُه، والكلامُ عن القيمِ هوَ ذاتُه الكلامُ عن الروحِ لا يستقيمُ أمرُهما إلّا معاً، ومِن هُنا لا يمكنُ قبول أيّ تصوّرٍ ثقافيّ يهملُ القيمَ الكُبرى والمُثلَ العُظمى التي يُنادي بها الإسلام، لأنَّ عندَها سيكونُ تصوّراً ناقصاً لا يُعبّرُ عن حقيقةِ الإنسان.
وعليهِ فإنَّ الإسلامَ لا يتجاوزُه الزمنُ لأنّه كالشمسِ يشرقُ كلَّ يومٍ على واقعٍ جديد، والإسلامُ كقيمٍ ناظمةٍ للحياة لا يمكنُ أن يستغنيَ الإنسانُ عنها مهما تطوّرَت الحياةُ وتقدّمَت.
ويبدو أنَّ السببَ في هذه النظرةِ المشوّهة التي تعملُ على إبعادِ الإسلامِ عن الساحةِ السياسيّةِ والاجتماعيّة تنطلقُ منَ التجربةِ التاريخيّة للمُسلمين، فالبحثُ في التاريخِ السياسيّ في العالمِ الإسلاميّ أو البحثِ بينَ الخياراتِ الإسلاميّةِ المطروحةِ في واقعِنا المُعاصِر قد يقودُنا إلى صورةٍ مُنفّرة، إلّا أنّنا إذا ابتعَدنا عن هذا الواقعِ وبحَثنا في النصِّ الديني بعيداً عن ثقافتِنا المُنهزمة وما يحملهُ الواقعُ مِن خيباتٍ وتعامَلنا معه بوصفِه قيماً ومعاييرَ أخلاقيّةً لا يسعُنا إلّا الاعترافُ بكونِه هوَ الحل، فأسبابُ تخلّفِ الأمّة هوَ في ابتعادِها عن القيمِ الحضاريّةِ التي نادى بها الإسلام، فالعلمُ والعملُ والتقدّمُ والتطوّرُ والعدلُ والحُرّيّةُ والمساواةُ والتنميةُ وغيرُ ذلك مِن قيمِ النهوضِ تُمثّلُ قيماً إسلاميّةً لا تتمُّ العبادةُ إلّا بها، كما أنَّ الضميرَ الأخلاقيَّ الذي يُنمّيه الدينُ في نفسيّةِ الأمّةِ هو الضامنُ لحصانةِ الأمّةِ منَ الانحراف، إلّا أنًّ الأمّةَ تخلَّت عن قيمِها وعن ضميرِها الأخلاقي فكانَ هذا هوَ حالها.
وعليهِ السياسةُ في الإسلام يجبُ أن تكونَ حركةً أخلاقيّةً تسعى لبناءِ مُجتمعٍ تقومُ روابطهُ على قيمِ الحقِّ والفضيلة، وتعملُ على رفضِ كلِّ المظالمِ بما فيها الاضطهادُ السياسيُّ والاستئثارُ بالسلطة، وتسعى لتحقيقِ العدلِ والمساواةِ وإقامةِ الحقوقِ وتحقيقِ الرفاهِ والتنمية، والدفعِ بالأممِ والمُجتمعات إلى الأمام، لتحقيقِ تكاملِ الإنسان وبناءِ حضارةِ الإسلام، وتتوسّلُ السياسةُ في الإسلامِ لتحقيقِ ذلك بالصّدقِ والإخلاصِ وكلِّ قيمِ الفضيلةِ والأخلاق. وهذا الواقعُ الطموحُ هوَ الذي يجبُ أن يتمسّكَ به الجميع؛ لأنّهُ يُمثّلُ الفهمَ الذي يتعاملُ مع الإسلامِ بوصفِه رسالةً للحياة وليسَ رسالةً تتعاملُ معَ الإنسانِ فقط بعدَ الموت وفي عالمِ الآخرة.
فالإنسانُ في النظرةِ العلمانيّةِ والمادّيّةِ يختلفُ عن الإنسانِ في نظرةِ الرسالاتِ السماويّة، ومِن خلالِ هذا التباينِ بينَ النظرتين تتباينُ القيمُ الناظمةُ لحياةِ الإنسان، وحينَها لا يمكنُ إيجادُ قواسمَ مُشتركةٍ أو معاييرَ مُتّفقٍ عليها يمكنُ أن تُرجّحَ لنا بينَ النظرتين، الأمرُ الذي يوسّعُ دائرةَ الحوارِ ليعودَ بنا مِن جديدٍ للسؤالِ الفلسفيّ الكبير، ما هوَ الإنسانُ ولماذا وجدَ وما هوَ الهدفُ مِن وجوده؟ ويبدو أنَّ إهمالَ هذا السؤالِ أو الإجابةَ عنه في إطارِ البُعدِ المادّي هوَ السببُ وراءَ الاختلافِ بينَ الإسلامِ والعلمانيّة.
ومنَ الصعبِ التفصيلُ هُنا في البناءِ الفلسفيّ للإسلام ومِن ثمَّ المقارنة بينهُ وبينَ الفلسفةِ المادّيّةِ التي حصرَت الإنسانَ في بُعدِ اللذّةِ والشهوةِ وتسخيرِ الإنسانِ مِن أجلِ السّعي الدائمِ للحصولِ على المزيدِ منَ المكاسبِ المادّيّة، إلّا أنّنا نؤكّدُ فقط على أنَّ الإسلامَ يحتفظُ بمعانٍ خاصّةٍ للإنسانِ وللمُجتمعِ وللحياة وللسعادة، ومنَ المعيبِ مُصادرةُ تلكَ المعاني لصالحِ معانٍ أخرى أوجدَتها العلمانيّةُ المادّيّة، فمثلاً نمطُ الحياةِ الغربيّة بوصفِها الصورةَ المثاليّةَ للعلمانيّةِ ليسَت إلّا تشويهاً للإنسانِ ومسخاً للحياةِ وتدميراً للمُجتمعِ في نظرةِ الإسلام.
وعليهِ نحنُ لا نُسلّمُ بأنَّ العلمانيّةَ هيَ الخيارُ المثاليُّ للإنسان كما لا نسلّمُ بالتقييماتِ العلمانيّةِ لصورةِ الحياةِ الاجتماعيّةِ والسياسيّة، وفي نفسِ الوقتِ لا ندافعُ عن الوضعِ الراهنِ أو التاريخيّ للإنسانِ المُسلم، فالعلمانيّةُ قد تمكّنَت مِن صُنعِ واقعِها الاجتماعيّ والسياسيّ الذي ينسجمُ معَ رؤيتِها الفلسفيّة، في حينِ أنَّ المُسلمينَ لم يصنعوا بَعد واقعَهم السياسيّ والاجتماعيّ الذي يتماشى مع فلسفةِ الإسلامِ حولَ الإنسانِ والمُجتمع، وهذا عجزٌ نعترفُ به ونسعى لتفاديه إلّا أنَّ الصورةَ الكاملةَ للمُجتمعِ الإسلامي سوفَ تكتملُ عندَ ظهورِ الإمامِ المهدي المُنتظر وحينَها ستتّضحُ المسافةُ الفاصلةُ بينَ الإسلامِ وبينَ كلِّ التوجّهاتِ المادّيّة.
"
اترك تعليق