مناهجُ البحثِ التاريخيّ ومغالطاتُ المادّيّين

يدّعي بعضُ الباحثينَ العرب والمتأثّرينَ بالمُستشرقينَ الغربيّين أمثال نبيل فيّاض وفراس السوّاح أنّه لا أدلّةَ تاريخيّةَ وأركيلوجيّة على وجودِ النبيّ محمّد صلّى اللهُ عليهِ وآله..ومنهم مَن ألّفَ كتباً يدّعي بها أنَّ الإسلامَ نشأ في بلادِ الشام وطوّرَهُ العبّاسيّون.. هل مِن نقضٍ لذلك؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجوابُ:

أكّدنا في أكثرَ مِن إجابةٍ على أنّنا مُكلّفونَ بمناقشةِ الفرضيّاتِ العلميّة، ولا نتحسّسُ مِن إثارةِ أيّ فرضيّاتٍ علميّةٍ مُخالفةٍ لِما نؤمنُ به ونعتقدُ بصحّتِه، أمّا الادّعاءاتُ المُجرّدةُ والافتراضاتُ المُعبّرةُ عن المواقفِ الإيدلوجيّة فمِنَ الصعبِ حصرُها والردُّ عليها.

فمثلاً:

التشكيكُ في الشخصيّةِ التاريخيّةِ للنبيّ الأعظمِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، أو التشكيكُ في البعثةِ زماناً ومكاناً، أو التشكيكُ في غيرِ ذلكَ منَ الحقائقِ التي وثّقتها جميعُ المصادرِ التاريخيّة ونقلَت بالتواترِ عبرَ جميعِ الحقبِ التاريخيّة، فإنَّ مثلَ هذه التشكيكاتِ لا يمكنُ الإلتفاتُ إليها، إلّا إذا كانَت ترتكزُ على شواهدَ ووثائقَ ترجّحُ كفّةَ النفيّ على كفّةِ الإثبات، وهذا أمرٌ يستحيلُ الاستدلالُ عليه.

فحتّى لو افترَضنا عدمَ وجودِ آثارٍ مادّيّةٍ لشخصيّةِ النبيّ أو آثارٍ تؤكّدُ زمانَ ومكانَ البعثةِ النبويّةِ فإنَّ ذلكَ لا يُعدُّ دليلاً مُناهضاً لبقيّةِ الأدلّةِ التاريخيّةِ الأخرى.

والمغالطةُ التي يرتكزُ عليها بعضُ المُشكّكينَ هيَ الايحاءُ بأنَّ المنهجَ التاريخيّ يرتكزُ على مُفردةٍ واحدةٍ وهيَ الآثارُ المادّيّة، وهذه مغالطةٌ مفضوحةٌ تعتمدُ على جهلِ الطرفِ الآخر بمنهجِ البحثِ التاريخيّ، فإذا قُمنا بتحديدِ المنهجِ التاريخيّ نجدُ أنّه يقومُ على جمعِ البياناتِ التاريخيّة ومِن ثمَّ تحليلها والتأكّد مِنها، وهذه البياناتُ تشملُ كلَّ ما له صلةٌ بالتاريخِ المبحوثِ سواءٌ كانَت نقولاتٍ شفهيّةً أو نقوشاً قديمةً أو وثائقَ مكتوبةً أو آثاراً مادّيّة.

وعليهِ: فإنَّ الآثارَ المادّيّةَ هيَ واحدةٌ منَ القرائنِ وليسَت كلّها، وغيابُها لا يكونُ مُبرّراً للتشكيكِ في الحدثِ التاريخيّ طالما قامَت على إثباتِه قرائنُ أخرى.

وقد عُرفَ منهجُ البحثِ التاريخيّ ""بالطريقةِ أو الأسلوبِ المُستخدمِ في بلوغِ المعارفِ والحقائق، وذلكَ عن طريقِ مُطالعةِ المعلوماتِ أو البيانات التي دُوِّنَت في الفتراتِ الماضية، وتنقيحِها ونقدِها بحيادٍ وبموضوعيّة؛ للتأكّدِ مِن جودتِها وصحّتِها، ثمَّ إعادة بلورتِها للتوصّلِ إلى النتائجِ المقبولة، والمُدعّمةِ بالقرائنِ والبراهين""، وكلُّ هذهِ الشروطِ مُتحقّقةٌ عندَ إثباتِ التاريخِ الإسلاميّ حيثُ تضافرَت المدوّناتُ وكثرَت النقولاتُ وتعدّدَت القرائنُ الدالّةُ على شخصيّةِ الرسولِ ومكانِ وزمانِ بعثتِه، بل تواترَ ذلكَ عبرَ الأجيالِ حتّى باتَ منَ البديهيّاتِ التي لا يُشكّكُ فيها عاقل.

فالتاريخُ الإسلاميّ لهُ وثائقُه الخاصّةُ التي نجدُها عندَ المؤرّخين المُهتمّينَ بتوثيقِ أخبارِه وأحداثِه، ولا يقالُ لأنّهم مُسلمونَ فلا مصداقيّةَ لخبرِهم؛ لأنَّ ذلكَ سوفَ ينسحبُ على كلِّ التاريخِ الإنسانيّ، فما مِن مؤرّخٍ إلّا ويؤرّخُ للحضارةِ أو القوميّةِ أو البلدِ الذي ينتمي إليه وبالتالي لا يكونُ موثوقاً في نقلِه.

والمنهجيّةُ التاريخيّة قد تجاوزَت مُشكلةَ الوثوقِ في المصدرِ التاريخيّ مِن خلالِ وضعِ ضوابط علميّةٍ لتصديقِ القضايا التاريخيّة مثلَ وثاقةِ الرواةِ، ووثاقةِ المؤرّخِ، وتواترِ الأخبار، والمقارنةِ بينَ المصادرِ المُختلفة، والمؤيّداتِ الحسّيّة، وغيرِ ذلكَ مِنَ الطرقِ التي يعتمدُها الدارسُ للتاريخ.

ومِن أهمِّ الدلائلِ التي تؤكّدُ وجودَ حدثٍ ما في التاريخِ هوَ تناقلهُ عبرَ التواترِ الاجتماعيّ، بحيثُ يظلُّ تأثيرهُ حاضراً جيلاً بعدَ جيل.

ووجودُ النبيّ الأعظمِ في التاريخ مِن هذا القبيل، حيثُ ما زالَ لوجودِه التاريخيّ حضورٌ واضحٌ عبرَ الأجيال إلى يومِنا هذا.

فوجودُ المُسلمينَ واتّصالُهم التاريخيّ عبرَ الأجيالِ يؤكّدُ بشكلٍ قطعيّ وجودَ صاحبِ الرسالة التي ينتسبونَ لها.

وعليهِ فإنَّ تأثيرَ النبيّ محمّد (صلّى اللهُ عليهِ وآله) الملحوظَ في مسارِ تاريخِ المُسلمين يؤكّدُ على وجودِه الفعليّ في التاريخ، وحينَها لا يكونُ لوجودِ الأثرِ المادّيّ أو عدمِه إضافةٌ واقعيّةٌ لثبوتِ ما ثبتَ بالتواتر، فتاريخُ النبيّ محمّد (صلّى اللهُ عليهِ وآله) يمثّلُ موروثاً مُتكامِلاً عقائديّاً وأخلاقيّاً وتشريعيّاً وحضاريّاً، وبالتالي لا يمكنُ إثباتُ كلِّ ذلكَ مِن خلالِ العثورِ على آثارٍ مادّيّةٍ هُنا أو هُناك.

أمّا آثارُ النبيّ الحسّيّةُ التي ما زالَت شاهدةً على وجودِه فيمكنُ اختصارُها كالتالي:

1- القرآنُ الكريم، وهوَ مِن أهمِّ الآثارِ الحسّيّةِ الشاهدةِ على وجودِ النبيّ الذي نزلَ إليه وبلّغَه للأمّة، وقد تلقّتهُ الأمّةُ بالاهتمامِ والتبجيل منذُ نزولِه وإلى اليوم، ولم يثبِت التاريخُ أيَّ شخصيّةٍ أخرى تمَّ نسبةُ هذا القرآنِ إليها غيرَ النبيّ محمّد (صلّى اللهُ عليهِ وآله).

2- الأحاديثُ الشريفةُ التي تمثّلُ أقوالَ وأفعالَ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وقد اهتمَّت الأمّةُ بنقلِها وتوثيقِها، وكلُّ ذلكَ شواهدُ مُتّصلةٌ ومسندةٌ تكشفُ عن حقيقةِ تلكَ الشخصيّةِ العظيمة.

3- والوثائقُ والمخطوطاتُ المُنتشرةُ في متاحفِ ومكتباتِ العالم، مثلَ المصاحفِ القديمة التي تعودُ إلى العصرِ الأوّلِ منَ الرسالة، وبعضُ الوثائقِ القديمة التي تثبتُ أحداثاً لها علاقةٌ بالنبيّ مباشرةً، وكلُّ ذلكَ موجودٌ وموثّقٌ في كثيرٍ منَ الدوائرِ العلميّةِ والمكتباتِ العالميّةِ وقد تناولَتهُ الكثيرُ مِن مواقعِ الانترنِت وعرضَت تلكَ الوثائق بالصّور.

4- الآثارُ الحسّيّةُ الموجودةُ في مكّةَ والمدينة مثل مكانِ ولادتِه ومسجدِه ومكانِ دفنِه وكثيرٍ منَ الآثارِ الشاهدةِ على تلكَ الفترةِ التاريخيّة.

5- كتبُ التاريخِ المُتعدّدة التي كتبَها المسلمونَ وغيرُ المسلمين، بل كلُّ تاريخِ هذهِ المنطقةِ مبنيٌّ على وجودِ رسولِ الله محمّد، واللحظةُ التي نُشكّكُ في تاريخِه الشريف هيَ ذاتُها اللحظةُ التي يتبخّرُ فيها تاريخُ العربِ والمُسلمين والمنطقة، فوجودُ أمّةٍ إسلاميّةٍ خيرُ دليلٍ على وجودِ رسولِ الإسلام، والتشكيكُ في ذلكَ لا يعدو أن يكونَ عبطاً فكريّاً.

6- عوائلُ السادةِ والأشرافِ المُنتشرينَ في كلِّ العالمِ والذينَ ينتسبونَ إلى رسولِ الله وبالأسانيدِ الشفهيّةِ ووثائقِ الأنساب. وغيرُ ذلكَ منَ الشواهدِ التاريخيّة.

وفي الختامِ أشيرُ إلى كتابٍ تتبّعَ الآثارَ الإسلاميّةَ القديمةَ جدّاً في المدينةِ المنوّرة، وقد جاءَ بعنوانِ (دراساتٌ في الآثارِ الإسلاميّةِ المُبكّرةِ بالمدينةِ المنوّرة) للأستاذِ الدكتور سعدِ بنِ عبدِ العزيز الرّاشد، حيثُ جمعَ الكتابُ كثيراً منَ الآثارِ والنقوشِ القديمةِ التي تثبتُ تاريخَ الإسلام في بداياتِه الأولى، ويمكنُ تنزيلُ نُسخةٍ مصوّرةٍ منَ الكتابِ مِن صفحاتِ الانترنت.