هل مهمة الرسول محصورة في التبليغ؟

يقولُ الباحثُ العلمانيّ فرج فودة: جاءَ في القرآن أنَّ مهمّةَ الرسولِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) هيَ التبليغ، ونقلُ رسالةِ القرآنِ الكريم وحسب، أي أنَّ النبيَّ عليهِ السلام هوَ مُجرّدُ حاملِ رسالةٍ وساعي بريدٍ لا غير ولا يحقُّ له إضافةَ أيّ أحكامٍ وعقائدَ لم تُذكَر بالقرآن ...

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

بعيداً عن التحقّقِ مِن نسبةِ هذا القولِ لفرج فودة، فإنَّ هذا الادّعاءَ له رواجٌ كبيرٌ بينَ مُنكري السنّةِ النبويّة، وعليهِ سوفَ نناقشُ الفكرةَ بعيداً عمّن يتبنّاها.

أوّلاً: بيّنَ القرآنُ وبشكلٍ واضحٍ مهامَّ عديدةٍ للرّسولِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، ومعَ ذلكَ ما زالَ البعضُ يجادلُ في حصرِها في مهمّةٍ واحدة وهيَ تبليغُ القرآنِ فقط!

فصريحُ القرآنِ يكشفُ عن مهامٍّ للنبيّ لها علاقةٌ بشؤونِ الرّسالة، ومهامٌ أخرى لها علاقةٌ بشؤونِ القيادةِ والإدارة.

فما يتعلّقُ بشؤونِ الرّسالةِ مُضافاً لتبليغِ القرآن هناكَ مهمّةُ البيانِ والتفسيرِ والتأويل، وما يتبعُ ذلكَ مِن مهام تتعلّقُ بتزكيةِ النفوسِ وتعليمِها الكتابَ والحِكمة، قالَ تعالى: ﴿وَأَنزَلنَا إِلَيكَ الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِم وَلَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ﴾، وقالَ: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنهُمْ يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾

وجميعُ تلكَ المهامّ تقتضي وجودَ شيءٍ زائدٍ على نصوصِ القرآنِ لا يمكنُ الاستغناءُ عنه، الأمرُ الذي يؤكّدُ أهمّيّةَ السنّةِ النبويّة كمصدرٍ ثانٍ بعدَ القرآنِ الكريم.

فمثلاً:

مهمّةُ بيانِ القرآنِ وتفسيرِه تتطلّبُ بيانَ الحقائقِ الغيبيّة، وتفصيلاتِ العبادات، وبيانَ الحدودِ التي تطبّقُ مِن خلالِها الشريعة.

وبالتالي كلُّ القضايا التي لا يستقلُّ العقلُ في إدراكِها تصبحُ مِن مختصّاتِ الرّسول، والسنّةُ التي جاءَت بهذا الخصوصِ تكونُ مُلزمةً إلزامَ آياتِ القرآنِ نفسِها.

كما لا يمكنُ إبعادُ السنّةِ الواردةِ في أمورِ الشأن العام مثلَ مهامِّ القيادةِ والقضاءِ وإدارةِ شؤونِ الناس، فالمُسلمُ مطالبٌ بالطاعةِ المُطلقةِ لرسولِ الله (صلّى اللهُ عليه وآله) في أمورِ الدينِ والدّنيا، قالَ تعالى: ﴿وَمَا أَرسَلنا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذنِ اللهِ﴾، حيثُ تكشفُ الآيةُ عن ضرورةِ الطاعةِ المُطلقة والانقيادِ التامِّ لرسولِ الله، وبالتالي لا تختصُّ هذهِ الطاعةُ بشؤونِ الرسالةِ فقط، وإنّما تشملُ شؤونَ الحياةِ أيضاً.

فقيادةُ الناسِ وإدارةُ شؤونِهم والحكمُ فيما بينَهم مِن مُختصّاتِ النبي.

وإبطالُ هذا الدّورِ يعني تجريدَ الرّسالةِ مِن محتواها العمليّ والحضاري، كما يعدُّ إهمالاً وتهميشاً لشخصيّةِ الرّسولِ وما يقومُ به مِن دورٍ قياديّ للأمّة.

وهناكَ آياتٌ كثيرة تأمرُ بالرجوعِ إلى الرسولِ فيما له علاقةٌ بالشؤونِ العامّة، قالَ تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِّنَ الْأَمنِ أَوِ الْخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَو رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنهُم وَلَولَا فَضلُ اللَّهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ حيثُ تكشفُ الآيةُ وظيفةَ المؤمنينَ تجاهَ القيادةِ الشرعيّةِ وضرورة الرجوعِ إليهِ في أمورِ الحرب، وهوَ شأنٌ إداري لا علاقةَ له بتبليغِ الوحي، والذي يؤكّدُ كونَه شأناً عامّاً هوَ عطفُ أوّلي الأمر على الرّسول، والمؤكّدُ أنَّ شأنَ أولي الأمرِ هوَ القيادةُ والإدارةُ وليسَ تبليغَ الوحي.

ولا يعني ذلكَ أنّنا نُلقي الفوارقَ التاريخيّةَ فنعيدُ إنتاجَ تلكَ السنّةِ كما هي، وإنّما يعني الاستفادةَ مِنها بعدَ تجريدِها مِن خصوصيّاتها التاريخيّة أو مِن خلال الوقوفِ على الحِكمةِ العامّةِ التي تعملُ هذهِ السنّةُ على تأسيسِها.

ومنَ الأمورِ التي تندرجُ تحتَ عنوانِ المهامِ القياديّة القضاءُ بينَ الناس، قالَ تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِم حَرَجًا مِّمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيمًا﴾

ثانياً: أكّدَ القرآنُ على أنَّ كلَّ ما يصدرُ عن الرسولِ إنّما هوَ وحيٌ منَ الله تعالى حيثُ قال: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَىٰ * إِن هُوَ إِلا وَحيٌ يُوحَى) وقد نفَت الآيةُ بشكلٍ مُطلق أن يكونَ نطقُ رسولِ الله عَن هوى، أي كلُّ ما ينطقُ به الرّسولُ هو الحقُّ المُطلق الذي لا يخالطهُ هوى.

ولا يصحُّ تفسيرُ النطقِ هُنا بالقرآنِ فقط، فلو صحَّ ذلكَ لكانَ لرسولِ اللهِ نحوانِ منَ النطق:

الأوّل: هو نطقُه بالقرآنِ وهو الذي يكونُ مِن غيرِ هوى.

والثاني: نطقُه بغيرِ القرآن، وهذا النطقُ إمّا أن يكونَ عن هوى أو يكونَ غيرَ مأمونٍ منه الهوى وبالتالي مشكوكٌ فيه.

وفي هذه الحالةِ منَ الواجبِ على اللهِ تحذيرُ الأمّةِ ممًا ينطقُ به الرّسولُ بهواه (نستغفرُ اللهَ عَن قولِ ذلك) إذ كيفَ يأمرُنا باتّباعِ الرّسولِ بشكلٍ مُطلق في الوقتِ الذي يتوقّعُ منه اتّباعَ هواه؟

وكيفَ يأمرُ اللهُ رسولهُ بتعليمِنا الكتابَ والحِكمة وهوَ لا يأمنُ مِن أن يعلّمنا ذلكَ بحسبِ هواه؟ أليسَ هذا هو الضلالُ المُبين؟

ثالثاً: إذا كانَت مهمّةُ الرسولِ فقط هيَ تبليغُ الوحي، وكانَ واجبُنا اتّجاهَه يتلخّصُ في التصديقِ بالقرآن الذي جاءَ به، فحينَها كيفَ نفهمُ قولهُ تعالى: (ربّنا آمنّا بما أنزلتَ واتّبعنا الرسولَ فاكتُبنا معَ الشاهدين) حيثُ تصبحُ كلمةُ - واتّبعنا الرّسول - تحصيلاً للحاصل؛ طالما كانَ اتّباعُ الرّسول يتلخّصُ في الإيمانِ بالقرآنِ فقط، وحينَها يكونُ معنى الآيةِ كالتالي: (ربّنا آمنّا بما أنزلتَ - وآمنّا بما نزّلت - فاكتُبنا معَ الشاهدين).

وكذلكَ قولهُ تعالى: (والذينَ استجابوا للهِ والرسول مِن بعدِ ما أصابَهم القرح..) فإذا كانَت الاستجابةُ للهِ محصورةً في الإيمانِ بالقرآنِ فقط، فكيفَ تكونُ الاستجابةُ للرّسول؟ وإذا كانَت الاستجابةُ للرّسولِ هيَ تصديقُ ما جاءَ به منَ القرآن، فكيفَ تكونُ الاستجابةُ لله؟

وكذلكَ قولهُ تعالى: (تلكَ حدودُ الله ومَن يُطع اللهَ ورسولَه يُدخِله جنّات ...) فإذا كانَت حدودُ الله كلّها في القرآن ولا توجدُ للهِ حدودٌ خارجَ القرآنِ فلابدَّ أن يكونَ معنى الآيةِ كالتالي: (تلكَ حدودُ الله ومَن يُطِع اللهَ يدخلهُ جنّات...) فما هيَ ضرورةُ طاعةِ الرسولِ في هذهِ الآيةِ طالما الرّسولُ ليسَ له حدودٌ غيرَ حدودِ القرآن؟

وكذلكَ قولهُ تعالى: (وإذا قيلَ لهُم تعالوا إلى ما أنزلَ الله وإلى الرّسول ...) فالآيةُ تفرّقُ بينَ أمرين،

الأوّل: هوَ تعالوا إلى ما أنزلَ اللهُ وهوَ القرآنُ الكريم.

والثاني: تعالوا إلى الرّسول.

فإذا كانَت مُهمّةُ الرّسولِ محصورةً في تبليغِ القرآن يكونُ ذكرهُ في الآيةِ تكراراً بلا مُبرّر، وعليه يصبحُ تفسيرُها بحسبِ مَن يحصرُ مهمّةَ الرسولِ في التبليغِ فقط: (وإذا قيلَ لهُم تعالوا إلى ما أنزلَ اللهُ (القرآن) وإلى الرّسولِ (القرآن) أي تعالوا إلى القرآنِ والقرآن.

وهكذا إذا تتبّعنا كثيراً منَ الآياتِ القرآنيّة يتّضحُ أنّ للرّسولِ دوراً آخرَ غيرَ تبليغِ القرآن وهوَ سُنّتُه التي يجبُ الالتزامُ بها.

وفي المُحصّلة إذا كانَ للرّسولِ جانبٌ شخصيّ ليسَ له علاقةٌ بالرّسالةِ فكانَ منَ الضروريّ أن تنبّهنا الآياتُ عن ذلك، حتّى لا يتسبّبَ ذلكَ في الخلطِ بينَ جانبِ الرّسولِ الشخصيّ وجانبِه الرّسالي ...

وعدمُ تفكيكِ آياتِ القرآن بينَ الجانبين الشخصيّ والرّسالي، إمّا أن يكونَ المقصودُ منه إيقاعُنا في الضلال، وحاشى للهِ أن يضلَّ عبادَه، وإمّا أن يكونَ الرّسولُ ليسَ له إلّا جانبٌ واحدٌ وهوَ كونُه رسولاً وعليهِ كلُّ ما يصدرُ منه يكونُ تشريعاً.