هل الإسلام هو المسؤول عن تخلف العالم الإسلامي؟

إنَّ العقلَ قادرٌ على تشريعٍ وضعيّ يُغني عن الوحي ودليلُ ذلك ما نراهُ مِن تطوٍّر في دولٍ تعتمدُ العقلَ كمنهجٍ ودستور ووضعَت الدينَ على الرف.. مثلَ الدولِ الاسكندنافيّة وغيرِها.. وهناكَ دولٌ تعتمدُ الشريعةَ مُتخلّفةٌ ومنقسمةٌ منَ الداخل.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

معَ أنَّ صيغةَ السؤالِ فيها تجنٍّ وتحاملٌ واضحٌ على الإسلام إلًا أنّنا سنتجاوزُ ذلكَ تفهّماً للضغوطِ النفسيّةِ الناتجةِ عن وضعِ العالمِ الإسلاميّ المُتخلّف.

فمعَ الأسفِ أنّ أكثرَ الشبابِ العربيّ والإسلامي يعيشُ أوضاعاً قاسيةً حرمَتهم مِن أبسطِ مقوّماتِ الحياة، فالتخلّفُ السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعي يمثّلُ المظهرَ العامَّ لمُعظمِ دولِ المنطقة.

وفي المُقابلِ يحلمُ هؤلاءِ الشبابُ بالعيشِ في الدولِ الغربيّة بما فيها مِن تقدّمٍ وتطوّرٍ في شتّى مناحي الحياة، وقواربُ الموت والمخاطرةُ عبرَ الحدودِ والأدغالِ للوصولِ للغرب خيرُ دليلٍ على حجمِ المأساةِ التي يعيشونها.

وعليهِ لا يتوقّعُ صاحبُ الإشكال أنّنا سندافعُ عن الوضعِ في الدولِ الإسلاميّة، أو نهاجمُ الدولَ الغربيّة ونكشفُ عن عيوبِ الحضارةِ المادّيّة، ولا نقولُ أنّهم كسبوا الدّنيا وكسبنا نحنُ الآخرة، فكلُّ ذلك قد يراهُ البعضُ غيرَ مقنعٍ أو أنّه لا يقدّمُ مساهمةً حقيقيّةً لمعالجةِ المُشكلة.

وعليه ما نحاولُ القيامَ به مِن خلالِ هذه الإجابةِ وضمنَ هذه المساحةِ المحدودةِ هو التفكيرُ في المشكلةِ بطريقةٍ صحيحةٍ بعيداً عن الانفعالِ النفسي.

فالتفكيرُ الصحيحُ في أيّ مشكلةٍ يبدأ أوّلاً بوصفِ المُشكلةِ والاعترافِ بها، ومِن ثمَّ ثانياً وضع مجموعةٍ منَ الفرضيّاتِ التي يمكنُ أن تُشكّلَ أسباباً لحصولِ المشكلة، وبعدَ الانتهاءِ مِن تحديدِ الأسبابِ وحصرها يتمُّ إبعادُ الأسبابِ البعيدةِ والإبقاءُ على الأسبابِ الأكثر مُباشرة، وفي آخرِ المطافِ يتمُّ اقتراحُ مجموعةٍ منَ الحلولِ لهذهِ المُشكلة.

وبما أنّنا مُتّفقونَ نحنُ وصاحبُ الإشكال في أصلِ المُشكلة - تخلّفُ العالمِ الإسلاميّ - يجبُ علينا سويّاً البحثُ في أسبابِ ذلك.

وممّا لا شكَّ فيه أنَّ المُشكلةَ مُعقّدةٌ بسببِ تداخلِ مجموعةٍ منَ العواملِ التي لا يمكنُ حصرُها في عاملٍ واحد.

وعليهِ فإنَّ المسارَ العلميَّ والموضوعيّ لتحديدِ مشاكلِ العالمِ الإسلاميّ يتطلّبُ القيامَ بمُراجعاتٍ شاملةٍ للبُنيةِ التاريخيّةِ والثقافيّةِ والاجتماعيّةِ والسياسيّةِ والاقتصاديّة، وهذا المسارُ موجودٌ بالفعل وهوَ محلُّ اهتمامِ الكثيرِ منَ الباحثينَ والدارسين، وهناكَ الكثيرُ منَ الكتبِ التي تناولَت أزمةَ العالمِ الإسلاميّ ومازالت تدورُ حولها البحوثُ والدراسات.

إلّا أنّنا اختَرنا أن نتماشى معَ طريقةِ صاحبِ الإشكال الذي حصرَ مُشكلةَ العالمِ الإسلاميّ في سببٍ واحد وهوَ الدينُ عامّةً والإسلامُ خاصّة، وسوفَ نعملُ على تفكيكِ هذا المُدّعى ضمنَ نقاطٍ واضحةٍ ومُختصرة.

كثيرٌ منَ الباحثين يعالجُ الإشكاليّةَ مِن خلالِ تبرئةِ الإسلامِ منَ المسؤوليّةِ وتحميلِها لفهمِ المُسلمين، أي أنَّ هناكَ فرقاً بينَ أن يكونَ الإسلامُ بنفسِه هو الذي يدعو للتخلّف، وبينَ أن يكونَ فهمُ المُسلمينَ للإسلام هوَ المُتخلّف، ففي الحالةِ الأولى يتحمّلُ الإسلامُ مسؤوليّةَ ذلك، بينَما في الحالةِ الثانية يتحمّلُ المُسلمونَ المسؤوليّة.

إلّا أنَّ هذا التفريقَ لا يقدّمُ تشخيصاً دقيقاً لجذورِ التخلّفِ في المُجتمعاتِ العربيّةِ والإسلاميّة؛ والسّببُ في ذلكَ خضوعُه للتحيّزاتِ المُسبقة، فالإسلاميّ يميلُ بطبعِه إلى تبريئِه الإسلامَ في حينِ يميلُ المُعارض له إلى اتّهامه، وهكذا يظلُّ النزاعُ مُستمرّاً وتظلُّ الاتّهاماتُ مُتبادلة.

ولكي نصلَ إلى تقييمٍ موضوعيّ بعيداً عن التحيّزاتِ الذاتيّة لابدَّ منَ البحثِ عن عواملِ النهوضِ والتقدّم؛ وذلكَ لأنّها عواملُ عامّةٌ لا يمكنُ أن تخضعَ للأيدلوجيا والمواقفِ الشخصيّة، وبعدَ الوقوفِ على تلكَ العوامل يجبُ أن نرى موقفَ الإسلامِ منها، فإن كانَ يتّخذُ حيالها موقفاً سلبيّاً فحينَها يجبُ تحميلهُ مسؤوليّةَ التخلّف، وإن كانَ داعماً لها فحينَها يجبُ البحثُ عن سببٍ آخر للتخلّف.

ومما لا شكَّ فيه أنَّ العلمَ والعقلَ يمثّلانِ مفتاحاً لكلِّ تطوّرٍ وتقدّم، وإهمالُ ذلكَ يتسبّبُ بشكلٍ حتميّ في تخلّفِ المُجتمعات، فالجهلُ هو الأداةُ الأكثرُ دماراً لحضارةِ الإنسان، وبالتالي لا يمكنُ أن يُكتبَ لأيّ أمّةِ النهوضُ ما لم تسلُك طريقَ العلمِ والعقل، والمؤكّدُ أنَّ صاحبَ الإشكالِ لا يخالفُنا في ذلكَ لكونِه نسبَ التقدّمَ الغربيَّ للعقلِ وتركَ الدينَ على الرفِّ كما عبّر.

وموقفُ الإسلامِ منَ العلمِ والعقل واضحٌ ونصوصُه الدّاعمةُ في ذلكَ لا تُحصى، وعليهِ قد يُقال إنَّ تخلّي المسلمينَ عن أوامرِ دينِهم هو الذي أوصلَهم إلى هذهِ الحالة، ومعَ أنَّ الشواهدَ على ذلكَ كثيرةٌ إلّا أنّ ذلكَ قد لا يكونُ كافياً ما لم نُحدِّد مواضعَ التقصير بشكلٍ واضحٍ ومُحدّد.

فالوصولُ إلى حضارةٍ إنسانيّة متكاملة يستوجبُ التحرّكَ في بُعدين:

الأوّل: البعدُ المادّي المتعلّقُ بتسخيرِ الطبيعةِ لخدمةِ حاجاتِ الإنسان.

والثاني: البُعد المعنويّ والأخلاقيّ الذي يعملُ على تمييزِ الإنسانِ عن الحيوان.

وعليهِ: فإنَّ الحضارةَ الإنسانيّة تحلّقُ بجناحي العلمِ والأخلاق، ووظيفةُ الإسلام كدينٍ تقومُ على تعزيزِ الجانبِ القيميّ والأخلاقيّ لكونِه الجانبَ الذي يتمُّ إهمالهُ في العادة.

أمّا الجانبُ المادّيّ فإنّ الإسلامَ لم يتبنَّ خياراً علميّاً خاصّاً وإنّما تركَ الأمرَ للإنسان؛ وذلكَ أوّلاً لكونِ الإنسانِ قادراً على ذلك بما منحَه اللهُ مِن أدواتٍ تُحقّقُ لهُ العلمَ والمعرفة، وثانياً لكونِه يُمثّلُ حاجةً مُلحّةً لا يمكنُ للإنسانِ أن يهملَها.

وبالتالي ليسَ مِن وظائفِ الدين تعليمُ الناسِ كيفَ يُسخّرونَ الطبيعة، وإنّما تُركَ الأمرُ إليهم فإن قاموا به كسبوا الدّنيا وإن أهملوها خسروها، سواءٌ كانوا مُتديّنينَ أو غيرَ متديّنين.

والفرقُ الذي يضيفُه الدينُ على الحضارةِ المادّيّة هوَ ترشيدُها قيميّاً وأخلاقيّاً، فالحضارةُ من دونِ أخلاقٍ حضارةٌ شهوانيّةٌ أنانيّة تؤدّي حتماً إلى كثيرٍ منَ المشاكِل النفسيّةِ والاجتماعيّة التي تفقدُ الإنسانَ الإحساسَ بالسعادةِ الحقيقيّة.

والتقصيرُ الأكبرُ الذي وقعَ فيه المُسلمون هو تركُهم لوظيفتِهم بما هُم بشرٌ بعيداً عن الدين، فالإنسانُ بما هو إنسانٌ يجبُ أن يسعى بشكلٍ فِطريّ وغريزيّ نحوَ تسخيرِ الأرضِ وعمارتها.

وبمعنىً آخر: تركوا العلومَ الدنيويّة واهتمّوا بالعلومِ الروحيّةِ والأخرويّة.

وفي هذهِ الحالةِ لا يمكنُ تحميلُ الإسلامِ المسؤوليّة طالما لم يضَع العوائقَ أمامَ التقدّمِ في العلومِ الدنيويّة، فالمقايسةُ بينَ ما فعلَته الكنيسةُ في عصورِ الظلامِ الأوربي ضدَّ العُلماء، وبينَ الإسلامِ مقارنةٌ أقلُّ ما يقالُ فيها أنّها مُجحفة.

وعليه: فإنَّ الاستنتاجَ الأوّلي فيما يتعلّقُ بالعلم بوصفِه مفتاحاً للنهوضِ يتحمّلُ مسؤوليّتَه المُسلم، إلّا أنّه يتحمّلُ ذلكَ كإنسانٍ وليسَ كمُسلم، فالتقصيرُ يعودُ إلى وظيفتِه الإنسانيّة وليسَت الدينيّة.

فإذا عُدنا إلى فترةِ ازدهارِ الحضارةِ الإسلاميّة نجدُ أنَّ العاملَ الأكثرَ تأثيراً كانَ هوَ اهتمامُ علماءِ الإسلام بالعلومِ الدينيّة والدنيويّة في نفسِ الوقت.

وإذا عُدنا لفترةِ العصورِ المُظلمة في الغرب لوجَدنا أنَّ الجهلَ بالعلومِ الدينيّةِ والعلومِ الدنيويّة هوَ الذي كانَ يتحكّمُ في المشهد.

وفي مُحصّلةِ ذلك يمكنُنا أن نقولَ إنّ الحضارةَ في بُعدِها المادّي يمكنُ تحقيقُها سواءٌ كانَت المجتمعاتُ مُتديّنةً أو غيرَ مُتديّنة؛ لأنَّ العلومَ الدنيويّة لا تتوقّفُ على وجودِ الدين وعدمِه، فإذا كانَ هناكَ مجتمعٌ متخلّفٌ مادّيّاً لا يمكنُ البحثُ عن دينِ هذا المُجتمع، وإنّما يجبُ البحثُ عن العلمِ فيه.

ومِن هُنا فإنَّ تقدّمَ الحضارةِ الغربيّة في جوانبِها المادّيّة لا علاقةَ له بوضعِ الدينِ في الرف، وإنّما له علاقةٌ بالأخذِ بأسبابِ التقدّمِ المادّي، وعلى ذلكَ لو كفرَت كلُّ المُجتمعاتِ الإسلاميّة بدينِها ستبقى على حالتِها ما لَم تأخُذ بأسبابِ التقدّم.

ولكي يكونَ هناكَ حضارةٌ تجمعُ بينَ الجانبِ المادّي والجانبِ القيميّ والأخلاقيّ لابدَّ أن تتضافرَ الجهودُ وتتكاملَ بينَ علماءِ الدينِ وعلماءِ الدنيا، وبذلكَ يصبحُ وجودُ الدينِ شرطاً أساسيّاً لبناءِ أيّ حضارةٍ إنسانيّةٍ متكاملة، وما تشهدُه الحضارةُ الغربيّة مِن تقدّمٍ مادّي وقصورٍ أخلاقيّ خيرُ شاهدٍ على هذا الأمر، ومِن هُنا فإنَّ التشريعاتِ الغربيّة قد تكونُ فتحَت الطريقَ أمامَ التقدّمِ العلميّ والتقنيّ إلّا أنّها فتحَت الطريقَ أيضاً أمامَ الفسادِ الأخلاقيّ الذي أدّى إلى مزيدٍ منَ المشاكلِ النفسيّةِ والتفكّكِ الاجتماعي.

وبكلمةٍ مُختصرة اهتمامُ الغربِ بالجانبِ المادّيّ والعلمي يجبُ أن يفعلَه المُسلمونَ أيضاً، واهتمامُ المُسلمينَ بالجانبِ الرّوحي والأخلاقيّ يجبُ على الغربِ أن يفعلوهُ أيضاً، فليسَ هناكَ تناقضٌ بينَ الأمرين حتّى نضطرَّ للتخلّي عَن أحدِهما وإنّما هناكَ تكاملٌ بينَهما.