كيف يحمّلنا الله الأمانة ثم يحرضنا على تركها؟

سؤال: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا / الأحزاب (72) ١/ في هذهِ الآيةِ إقرارٌ من واضعِ القرآن بعبِء التكاليفِ وثقلها وإنَّ الإنسانَ حينَ قبلها إنّما كان جهولاً ظلوماً. ٢/ ولكن متى تمَّ التفاوضُ مع الإنسان ليتحمّل هذه التكاليف (الأمانة) وهل كانَ مُخيّراً في حملها أم كان مُكرهاً؟ إنَّ ظاهرَ الآيةِ أنّه لم يكن مُكرهاً ولكنّه جاهلٌ. والحقيقةُ أنَّ كلَّ البشر مِن مسلمينَ وغيرهم لم يتّصل بهم هذا الإله وﻻ تفاوض معهم حولَ هذه الأمانة وﻻ هُم قبلوها. ٣/ ولنفترض أنَّ الإنسانَ قبلَ حملها فالجهلُ هنا هو أنّه حملَ ما ﻻ يعرف تبعاتِ فعلِه وكان الأجدر به أن ﻻ يحملها. ولو أنّه لم يكن جاهلاً لما حملها أي لَما قبلَ بهذه التكاليفِ الثقيلةِ لو كان عالماً أو عاقلاً. ٤/ أمّا (ظلوم)! فهُنا إشكاليّة. فمَن (ظلم)؟ إنّه لم يظلم أحداً بل ظلم نفسه. ٥/ إنَّ تفسيرَ ظاهر الآيةِ يقودنا إلى التحريض على رفض هذه التكاليف. لأنّنا إنّما حملناها عن جهلٍ وظلمٍ لأنفسِنا ولو لم نكُن جهلةً لما قبلناها ولو عدلنا تجاهَ أنفسِنا لرفضناها. النتيجةُ إنَّ الله يفرض ظاهريّاً تكاليفَ يعترفُ بأنّها ثقيلةٌ ثمّ ينسخُها ضمنيّاً بأن يحرّضَ ضمنيّاً على رفضها.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

ليسَ منَ المناسبِ إساءةُ الظنِّ بصاحبِ هذه الأسئلة، فقد يكون الذي دفعَه مجرّدُ التفكير والسؤال وهو أمرٌ مكفولٌ للجميع، إلّا أنَّ قوله: (في هذه الآيةِ إقرارٌ مِن واضع القرآن) يدلُّ على الخلفيّة التي ينطلقُ منها في أسئلته، فالذي يظهر مِن هذه العبارةِ أنّه لا يؤمنُ بالقرآن كما يؤمن به بقيّةُ المسلمون، وإذا صحَّ هذا الاستنتاجُ فيجبُ أن نختصرَ الإجابةَ على دفعِ الشبهةِ وإبطالها، وإذا لم يصحَّ فالواجبُ علينا شرحُ الآية وتفسيرُها بغرضِ تحقيقِ الفهمِ المناسب لمَن يؤمنُ بها، وبما أنّ الجمعَ في هذه الحالة أولى ستكون الإجابة شارحةً للآية بالطريقة التي تستصحبُ ردَّ ما أثارَهُ من شبهات.

أوّلاً: يقول: (في هذه الآيةِ إقرارٌ من واضعِ القرآن بعبِء التكاليف وثقلها) والظاهرُ أنّه فسّرَ الأمانةَ بالتكاليف سواءٌ كانت عقائدَ أو أحكاماً عباديّة، وهذا تفسيرٌ خاطئ، فالأمانةُ في الآيةِ لا يمكنُ حملُها على ذلك، فمثلاً لا يمكنُ أن يكونَ التوحيدُ هو الأمانة التي أشفقَت عن حملها السماواتُ والأرض، والدليلُ على ذلك قولهُ تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا).

كما لا يمكنُ أن يكونَ المقصودُ بالأمانةِ هو الدّينُ الحقّ بكلِّ تفاصيلِه؛ وذلكَ لأنَّ الآيةَ صرّحَت بحملِ مطلقِ الإنسانِ للأمانةِ سواءٌ كان مؤمناً أو كافراً.

وعليه فإنّ ثقلَ الأمانةِ لا علاقةَ له بثقلِ تكاليفَ معيّنةٍ وإنّما ثقلٌ تفرضُه طبيعةُ الإنسان.

ومِن هنا يجبُ البحثُ عمّا يميّزُ الإنسانَ عن السماواتِ والأرض للوقوفِ على طبيعةِ تلكَ الأمانة.

والذي يميّزُ الإنسانَ هو استعدادُه بما وهبَهُ الله مِن قدراتٍ للوصولِ إلى درجةِ الكمالِ الإنسانيّ، وبذلك تتّضحُ مسؤوليّةُ الإنسانِ عن بلوغِ هذا الهدف، وتلكَ هيَ الأمانةُ التي تحمّلها الإنسان، جاءَ في تفسيرِ الأمثل: "بناءً على هذا يجبُ القولُ بعبارةٍ مُختصرةٍ أنَّ الأمانةَ الإلهيّة هيَ قابليّةُ التكاملِ غيرُ المحدودةِ والمُمتزجةُ بالإرادةِ والاختيار، والوصولِ إلى مقامِ الإنسانِ الكامل، وعبوديّةِ اللهِ الخاصّة وتقبّلِ ولايةِ الله"

ثانياً: قولهُ: (وإنَّ الإنسانَ حينَ قبلَها إنّما كانَ جهولاً ظلوماً)، يبدو أنّه فسّرَ قبولَ الإنسانِ للأمانةِ بالقبولِ الذي يقعُ ضمنَ دائرةِ الاختيار، بمعنى أنَّ الإنسانَ مخيّرٌ بينَ القبولِ والرّفض.

إلّا أنَّ هذا المعنى ليسَ مقصوداً بالضّرورة؛ لأنَّ الإنسانَ في تلكَ المرحلةِ ما زالَ في طورِ التكوين ولم يصِل بعدُ لمرحلةِ التشريعِ والتكليف.

وعليه: فإنَّ قبولَ الإنسانِ للأمانةِ يعني القبولَ الذي تقتضيه الطبيعةُ التكوينيّةُ للإنسان.

وبمعنىً آخر: إنَّ الإنسانَ خُلقَ بالشكلِ الذي جُعلَ فيه الاستعدادُ والصلاحيّة لتحمّلِ الأمانة، وبذلكَ يكون الإنسانُ مسؤولاً عن بلوغِ الكمالِ بقُدرتِه واختياره. يقولُ السيّدُ الطباطبائيّ في ذلك: "فالمرادُ بالأمانةِ الولايةُ الإلهيّة، وبعرضِها على هذه الأشياء اعتبارُها مقيسةً إليها، والمرادُ بحملِها والإباءِ عنه وجودُ استعدادِها وصلاحيّةُ التلبّسُ بها وعدمه، وهذا المعنى هو القابلُ لأنَّ ينطبقُ على الآيةِ فالسماواتُ والأرضُ والجبالُ على ما فيها منَ العظمةِ والشدّةِ والقوّة فاقدةٌ لاستعدادِ حصولِها فيها، وهوَ المُرادُ

بإبائهنَّ عن حملِها وإشفاقهنَّ منها".

وإذا اتّضحَ ذلك يتّضحُ فهمُه الخاطئ عندًما قال: (ولكن متى تمَّ التفاوضُ مع الإنسانِ ليتحمّلَ هذه التكاليف).

ثالثاً: يقولُ: (فالجهلُ هُنا هو أنّه حملَ ما ﻻ يعرفُ تبعاتِ فعلِه وكانَ الأجدرُ به أن ﻻ يحملها. ولو أنّه لم يكُن جاهلاً لما حملَها أي لما قبلَ بهذه التكاليفِ الثقيلة).

والظاهرُ أنّه فسّرَ الجهلَ بعدمِ علمِه بالعواقب، في حينِ أنَّ الجهلَ والظلمَ في الآيةِ هُما اللذانِ يصحّحانِ حملَه للأمانة؛ وذلكَ لأنَّ الجهلَ والظلمَ لا يتّصفُ بهما إلّا مَن كانَ شأنُه العلمُ والعدل، فلا يُقالُ مثلاً للحجرِ جاهلٌ أو ظالم، فمَن يصحُّ اتّصافُه بالجهلِ والظلم يصحُّ منهُ أيضاً تبديلُ جهله علماً وظلمِه عدلاً، فإذا كانَ الإنسانُ بذاتِه متّصفاً بالعلمِ والعدل فحينَها كيفَ نتصوّرُ تحميلهُ أمانةَ العلمِ والعدل؟

يقولُ السيّدُ الطباطبائي: " قلتُ: الظلمُ والجهلُ في الإنسان وإن كانا بوجهِ ملاكِ اللومِ والعتابِ فهما بعينِهما مُصحّحٌ حملهُ الأمانةَ والولايةَ الإلهيّة فإنَّ الظلمَ والجهلَ إنّما يتّصفُ بهما مَن كانَ مِن شأنِه الاتّصافُ بالعدلِ والعلمِ فالجبالُ مثلاً لا تتّصفُ بالظلمِ والجهل فلا يقالُ: جبلٌ ظالمٌ أو جاهلٌ لعدمِ صحّةِ اتّصافِه بالعدلِ والعلمِ وكذلكَ السماواتُ والأرض لا يحملُ عليها الظلمُ والجهلُ لعدم صحّةِ اتّصافِها بالعدلِ والعلمِ بخلافِ الإنسان. والأمانةُ المذكورةُ في الآيةِ وهي الولايةُ الإلهيّة وكمالُ صفةِ العبوديّة إنّما تتحصّلُ بالعلمِ بالله والعملِ الصّالح الذي هوَ العدلُ وإنّما يتّصفُ بهذينِ الوصفين أعني العلمَ والعدلَ الموضوعَ القابلَ للجهلِ والظلم فكونُ الإنسانِ في حدِّ نفسِه وبحسبِ طبعِه ظلوماً جهولاً هوَ المُصحّحُ لحملِ الأمانةِ الإلهيّة فافهَم ذلك".

وإذا اتّضحَ ذلك اتّضحَ بطلانُ قوله: (إنَّ تفسيرَ ظاهرِ الآية يقودُنا إلى التحريضِ على رفضِ هذه التكاليف. لأنّنا إنّما حملناها عن جهلٍ وظلمٍ لأنفسنا ولو لم نكُن جهلةً لما قبلناها ولو عدلنا تجاهَ أنفسِنا لرفضناها)، فلا وجودَ لِما يسمّى تحريضاً على عدمِ قبولِ الأمانة، فالإنسانُ لم يختَر تحمّلَ الأمانةِ لأنّه كانَ جاهلاً بالعواقب، وإنّما الأمانةُ ذاتُها هي التي كانَت تقتضي أن يكونَ الإنسانُ بطبعِه جاهلاً فيتحمّلُ مسؤوليّةَ التعلّم، ويكون بطبعِه ظالماً فيتحمّلُ أمانةَ العدل، وإشفاقُ السماواتِ والأرض عن حملِ هذه الأمانة إنّما كان لعدمِ اشتمالِها لصلاحيّةِ قبولِ تلكَ الأمانة.

يقولُ السيّدُ الطباطبائيّ: "وبمعنىً أدقّ لكونِ الإنسانِ خالياً بحسبِ نفسِه عن العدلِ والعلمِ قابلاً للتلبّسِ بما يُفاضُ عليه مِن ذلكَ والارتقاءِ مِن حضيضِ الظلمِ والجهلِ إلى أوجِ العدلِ والعلم"