كيف نوفّق بين اعتقاد الشيعة بعدم تحريف القرآن، وبين إثبات الشيخ يوسف البحراني للتحريف؟!

كيفَ نوفّقُ بينَ اعتقادِ الشيعةِ بعدمِ تحريفِ القرآن، وبينَ قولِ الشيخِ البحرانيّ عن رواياتِ التحريف: (لا يخفى ما في هذهِ الأخبارِ منَ الدّلالةِ الصريحة، والمقالةِ الفصيحةِ على ما اخترناه، ووضوحِ ما قُلناه، ولو تطرّقَ الطعنُ إلى هذهِ الأخبارِ على كثرتِها وانتشارِها، لأمكنَ الطعنُ إلى أخبارِ الشريعةِ كلّها كما لا يخفى، إذ الأصولُ واحدةٌ، وكذا الطرقُ والرّواةُ والمشايخُ والنقلة، ولعمري إنَّ القولَ بعدمِ التغييرِ والتبديلِ لا يخرجُ مِن حُسنِ الظنِّ بأئمّةِ الجورِ معَ ظهورِ خيانتِهم في الأمانةِ الأخرى التي هيَ أشدُّ ضرراً على الدّين، على أنَّ هذهِ الأخبارَ لا مُعارضَ لها -كما عرفتَ- سِوى مجرّدِ الدعاوى العاريةِ عن الدليل، التي لا تخرجُ عن مجرّدِ القالِ والقيل، وقد قدّمنا ما هوَ المُعتمدُ مِن أدلّتِهم، وبيّنا ما فيهِ، وكشفنا عن ضعفِ باطنِه وخافيه)

: الشيخ علي محمد عساكر

الجوابُ:

إنَّ الشيخَ البحرانيّ افتتحَ بحثَه عن التحريف، (والموجودَ في المجلّدِ الرّابعِ مِن كتابِه "الدّررُ النجفيّة" والذي ختمَه بكلامِه المذكورِ في هذا السؤال) باعترافِه الصّريح (بأنَّ المشهورَ بينَ علماءِ الشيعة، بل ما عليهِ إجماعِهم هوَ حفظُ القرآنُ منَ التحريف، وإنّما ذهبَ جماعةٌ مِنهم إلى وقوعِه)، ممّا يعني أنَّ الأصلَ هوَ إجماعُ الإماميّةِ على عدمِ وقوعِ التحريف.

أمّا رواياتُ التحريفِ فرغمَ ما قيلَ عن كثرتِها، بل وادّعاءِ تواترِها، إلّا أنّه لا يصحُّ التمسّكُ بها وحدَها، دونَ الأخذِ ببقيّةِ الشروطِ والضوابطِ التي على أساسِها يتمُّ أخذُ الأحاديثِ أو ردّها.

وأحاديثُ التحريفِ -في معظمِها- أخبارُ آحادٍ، وضعيفةٌ، ومرسلةٌ، وشاذّةٌ، ومعارضةٌ بما هوَ أكثرُ وأقوى مِنها مِن أدلّةِ عدمِ التحريف، وأكثرُها غيرُ تامِّ الدّلالة، وليسَ نصّاً في التحريفِ بالمعنى المُتنازعِ فيه، وفيها ما هوَ بمعنى التأويل، والتي رغمَ إمكانِ حملِها على ذلك، إلّا أنَّ بعضَ العلماء -كالشيخِ المُفيد- طعنَ فيها بأنّها (أحاديثُ آحادٍ لا نقطعُ على اللهِ بصحّتِها، فلذلكَ وقَفنا فيها، ولم نعدِل عن المصحفِ الظاهرِ على ما أمرَنا به)، بل حتّى ما هوَ صحيحٌ مِن تلكَ الرّواياتِ شكّكَ بعضُ الأعلامِ -كالعلّامةِ الطباطبائيّ- فيها.

ويكفيها سقوطاً مُخالفتُها لِما أثبتَه العلماءُ مِن نقلِ القرآنِ الكريم إلينا بالتواترِ القطعيّ، المفيدِ للعلمِ واليقين، وكذا مُخالفتُها للقرآنِ فيما يخبرُ به عن حفظِه مِن قبلِ الله، كما أنّها تُسقطُ حُجّيّتَه، وتبطلُ قاعدةَ الرّجوعِ إليه، وعرضِ الأخبارِ عليه، وكذا إبطالُها صحّةَ القولِ بالتمسّكِ به وبالعترة، وفتحَها البابَ للطعنِ فيه، المؤدّي -بالضرورةِ- إلى الطعنِ في الرّسالة، الموصلِ -بالنتيجةِ- إلى إبطالِ الدينِ عقيدةً وشريعة، كما أوضحَ ذلكَ بعضُ العلماء، كالفيضِ الكاشاني، الذي قامَ بتأويلِها، موضحاً في ج10ص267-268 منَ (الوافي) أهمّيّةَ ذلكَ التأويلِ وخطورةَ القولِ بالتحريفِ في إسقاطِ حُجّيّةِ القرآن، وانتفاءِ فائدةِ الرّجوعِ إليه، وكالعلّامةِ الطباطبائيّ الذي قالَ مُتأسّفاً مُتعجّباً: (والعجبُ مِن هؤلاءِ المُحتجّينَ برواياتٍ منسوبةٍ إلى الصّحابةِ أو إلى أئمّةِ أهلِ البيتِ عليهم السلام على تحريفِ كتابِ اللهِ سبحانه وإبطالِ حُجّيّتِه، وببطلانِ حُجّةِ القرآنِ تذهبُ النبوّةُ سُدىً، والمعارفُ الدينيّةُ لُغاً لا أثرَ لها، وماذا يُغني قولنا: إنَّ رجلاً في تاريخِ كذا ادّعى النبوّةَ وأتى بالقرآنِ مُعجزةً، أمّا هوَ فقد ماتَ، وأمّا قرآنُه فقَد حُرّف، ولم يبقَ بأيدِينا ممّا يؤيّدُ أمرَه إلّا أنَّ المؤمنينَ به أجمعوا على صدقِه في دعواه، وأنَّ القرآنَ الذي جاءَ به كانَ مُعجزاً دالّاً على نبوّتِه، والإجماعُ حُجّةٌ لأنَّ النبيَّ المذكورَ اعتبرَ حُجّيّتَه، أو لأنّهُ يكشفُ -مثلاً- عن قولِ أئمّةِ أهلِ بيتِه)

وكلُّ هذا مبنيٌّ على صحّةِ القولِ بكثرةِ تلكَ الرّواياتِ وتواترِها، وإلّا فإنَّ ما عليهِ العلماءُ هوَ أنّها أخبارُ آحادٍ، وضعيفةٌ وشاذّةٌ ونادرةٌ، وكلماتُهم في ذلكَ كثيرةٌ، يمكنُ الوقوفُ عليها في مصادرِها.

وقد ناقشَ غيرُ واحدٍ ادّعاءَ القولِ بذلكَ التواتر، ومِن بينِهم السيّد الميلانيّ في ص85-88 خالصاً إلى (أنّه لا مجالَ لدعوى التواترِ في أحاديثِ تحريفِ القرآنِ بهذا المعنى المُتنازعِ فيه)

أمّا ما ذهبَ إليه الشيخُ البحرانيّ مِن أنَّ الطعنَ في هذهِ الأحاديثِ يلزمُ منهُ الطعنُ في سائرِ أخبارِ الشريعة، فغيرُ صحيحٍ، فأخبارُ الشريعةِ ليسَت كلّها مرويّةً عمّن رووا هذه الأحاديثَ كما يقول، ولا الأصولُ فيها وفي القولِ بالتحريفِ واحدةٌ كما يدّعي! بل لتلكَ الأخبارِ أدلّتُها منَ القرآن، وطرقُها منَ السنّةِ المرويّةِ عن المعصومينَ والثقاتِ، الذينَ لم يتمُّ الطعنُ فيهم كما طعنَ في الكثيرينَ مِن رواةِ أخبارِ التحريف، بل حتّى الضعيفُ مِنها لهُ ما يجبرُه ويقويّه عكسَ أخبارِ التحريفِ التي يضعّفُ بعضُها بعضاً، وليسَ في أخبارِ الشريعةِ منَ العللِ ما في أحاديثِ التحريف، إضافةً إلى ما يدلُّ عليها منَ العقلِ أو غيرِه، فكيفَ نقيسُ هذهِ بتلكَ والفرقُ بينَهما كالفرقِ بينَ السماءِ والأرض؟!

أمّا ما ادّعاهُ مِن أنَّ الطعنَ في أخبارِ التحريفِ إنّما هوَ مِن حُسنِ الظنِّ في (أئمّةِ الجور) أيّاً كانَ قصدُه بهم، فمنَ العجبِ العُجاب! وإلّا فإنَّ الطعنَ فيها إنّما هوَ للأسبابِ التي بينّا بعضَها في هذا الجواب، وليسَ أكثرَ مِن ذلك، كما يمكنُنا أن نعكسَ هذا الاستدلال، فنقولُ: إنَّ الاعتقادَ بتحريفِ القرآنِ لا يخرجُ عن سوءِ الظنِّ في (أئمّةِ العدلِ والحق) وأنّهم لم يواجهوا أئمّةَ الجور، ولم يمنعوهم عن القيامِ بتحريفِه، رغمَ علمِهم بأنّه دليلُ الرّسالةِ وحجّتُها، وتحريفُه يعني تحريفَ الدينِ ذاتَه، بل إسقاطَه وإبطالَه!

وبالمُناسبةِ: فقد قامَ غيرُ واحدٍ بمناقشةِ دعوى قيامِ الخلفاءِ بالتحريف، وأثبتوا عدمَ صحّتِها، ومِن بينِ هؤلاءِ السيّدُ الخوئي في ص215-220 منَ البيان، وقد افتتحَ مُناقشتَه بقولِه: (إنَّ القائلَ بالتحريف: إمّا أن يدّعي وقوعَه منَ الشيخينِ بعدَ وفاةِ النبي، وإمّا مِن عُثمانَ بعدَ انتهاءِ الأمرِ إليه، وإمّا مِن شخصٍ آخر بعدَ انتهاءِ الدّورِ الأوّلِ منَ الخلافة، وجميعُ هذهِ الدّعاوى باطلةٌ) ثمَّ استرسلَ في بيانِ بطلانِها بما يمكنكَ الوقوفُ عليهِ في مصدرِه.

وأمَّا ما ذهبَ إليهِ مِن أنَّ أخبارَ التحريفِ غيرُ مُعارضةٍ إلّا بالدّعاوى والأقاويل، فلو أنّه عكسَ لأصابَ، فإنَّ دعوى عدمِ التحريفِ هيَ التي لا مُعارضَ لها، وقد كُتبَت البحوثُ، وقُدّمَت الدراساتُ، وألّفَت المؤلّفاتُ في بيانِ عدمِ صحّةِ القولِ بالتحريفِ، وإثباتِ سلامةِ القرآنِ منَ الزيادةِ والنقصان.

وأمّا ما قدّمَه رحمَه اللهُ في مُناقشةِ أدلّةِ عدمِ التحريف، فهوَ -أوّلاً- لم يشمَل جميعَ الأدلّة، كما أنّه في غايةِ الضّعفِ، ولا يصمدُ أمامَ البحثِ العِلميّ والمُناقشةِ الجادّة، ولولا أنّنا لا نريدُ الإطالةَ أكثرَ مِمّا أطلنا، وإلّا لقُمنا بعرضِه ودراستِه وبيانِ ما فيهِ مِن ضعفٍ، يمكنُكَ أن تكتشفَه متى رجعتَ إليه، خصوصاً إذا قارَنتَه بما يقولُه النافونَ للتحريف، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلّى اللهُ على محمّدٍ وآلِه الطيّبينَ الطاهرين.