(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) كيف لم يقتلوهم وهم من باشر القتال؟
سؤال: قال تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) لماذا نسبت الآية القتل لله تعالى مع أنّ الذين قتلوا المشركين في الخارج هم المسلمون؟ ونسب الرمي إلى النبيّ والى الله تعالى، ما الفرق بينهما؟
الجواب:
الملاحظ لآيات القرآن الكريم يجد أنّ بعض الآيات تنسب الأسباب لمسبباتها المباشرة وفي نفس الوقت نجد آيات أخرى تنسب نفس تلك الأسباب إلى الله تعالى، وإليك أمثلة على ذلك.
• يقولُ تعالى: (إنّ الله هو الرزاقُ ذو القوّة المتين) فالآية تنسبُ الرزقَ إلى الله تعالى. وفي آيةٍ أخرى يقول تعالى: (وارزقوهم فيها واكسوهم..) حيث نجدها نسبت الرزقَ للإنسان.
• يقولُ تعالى: (أفرأيتم ما تحرثونَ أأنتم تزرعونهُ أم نحنُ الزارعون) فهذه الآيةُ تجعلُ الله هو الزارع الحقيقي، في حين أننا نجدُ آيةً أخرى تنسبُ صفة الزراعة للإنسان، يقولُ تعالى: (يعجبُ الزّراعَ ليغيظ بهم الكفار)
• يقولُ تعالى: (اللهُ يتوفى الأنفسَ حين موتها)، فالوفاةُ في هذه الآية فعلُ الله تعالى، وفي آيةٍ أخرى نجدُ أنّها فعلُ الملائكة، يقولُ تعالى: (حتى إذا جاءَ أحدكم الموتُ توفتهُ رسلنا). وغير ذلك من الآيات.
وقد يستشعرُ البعضُ وجودَ نحو من التناقض؛ إذ كيف يكونُ الفاعلُ هو اللهُ وفي نفس الوقتِ المباشر للفعل هو شيء آخر؟
والجوابُ على ذلك: إنّ الله تعالى هو الفاعلُ الحقيقي وليس هناك فاعلٌ في هذا الوجود على نحو الحقيقة والاستقلال غيره تعالى، وما دونهُ من الأسباب تقع جميعها في طول فعل الله وليست في عرضه.
وبمعنى آخر: ليس للأسبابِ استقلالٌ في إيجاد مسبباتها، فالعلاقةُ بين الأسباب ومسبباتها تكونُ على نحو التبعية لفعلِ الله وفي ظلّ قدرته تعالى، والآية التي أشار إليها السائلُ تجمعُ هذا الأمرَ وتفسره، فقولهُ تعالى: (وما رميتَ إذ رميتَ ولكنّ الله رمى)، فالآيةُ نسبت فعلَ الرميّ للنبيّ من جهةٍ ومن ثمّ نفتهُ عنه من جهة أخرى، فقوله: (ما رميت) نفيٌ لفعل الرمي، وقوله: (إذ رميت) اثباتٌ لفعل الرمي، وفي ذلك تناقض إذا لم يكن هناك اختلافٌ بين جهة النفي وبين جهة الإثبات، ومن دون ذلك يكون في الأمر تناقضٌ حتمي، إذ كيف ينفي الشيء ومن ثم يثبتهُ من نفس جهة النفي؟ فالآيةُ نفت الرمي عن النبيّ من جهةِ أن يكون هو الرامي على نحو الحقيقة والاستقلال، وفي نفس الوقت أثبتت له فعلَ الرمي على نحو المباشرة والتبعية، فمع أنه هو الذي باشرَ الرمي في الواقع الخارجي (إذ رميت)، إلا أنه لم يفعل ذلك على نحو الاستقلال والقدرةِ الذاتية (ما رميت)، فالنبيّ صلى الله عليه وآله لم يرم إلا بالقدرةِ التي منحها له الله تعالى، فيكون رامياً بالتبع.
وبذلك يمكننا تقسيمُ الفعل الإلهي إلى قسمين:
1ـ فعلٌ من غير واسطة (كن فيكون).
2ـ فعلٌ بتوسط واسطة، مثل أن ينزلَ اللهُ المطر بواسطة السّحاب، ويشفي المريض بواسطة العقاقير الطبية... وكلّ هذه الأسباب مع أنّها هي التي تباشرُ الفعل إلا أنها لا تملكُ أيّ تأثير على نحو الاستقلال، فالسببُ بعيداً عن اذن الله تعالى لا يمتلكُ أيّ واقعية وليس لوجوده أيّ أثر أو تأثير.
وعليه تكونُ الإجابةُ على سؤالِ السائل كيف نسبت الآية فعلَ القتل لله تعالى مع أنّ المباشرينَ له هم المسلمون؟ فالآية أرادت أن تكشفَ للمسلمين ضرورة الإيمان بعون الله وتوفيقه، فكلّ ما يفعل المؤمن من خير لا يكون إلا بإرادة الله وتوفيقه، وبذلك لا يتسللُ الغرورُ إلى فعل المؤمن فيظنّ أنّ له قدرةً خاصةً تمكّنه من فعل ما يشاء، فلو لا عونُ الله وتوفيقه لما تمكّنَ إنسانٌ من فعل شيء من أفعاله، فأعظمُ شعور ينتابُ الإنسان هو شعورهُ بالانتصار في ساحة المعركة، ففي قمة تلك النشوةِ يجب تذكيرهم بالله الذي أمدهم بالقوة وسدّدَ رميتهم، ولذا جاءت هذه الآية وهم في قمة الشعور بالنصر لتقول لهم: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ)، وبما أنّ ذلك قد يثيرُ استغراب البعض، إذ كيف لم نقتلهم ونحن الذين خضنا الحرب؟ فجاءت بقية الآية لترفع هذا الاستغراب بقوله: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ)، فالآية أكّدت لكلّ من يستغربُ بأنّ الله لم ينفِ مباشرتهم للقتال وخوضهم للحرب، فقد أكّدت لهم ذلك بقوله (إذ رميت) إلا أنها أرادت أن تذكّرهم بحقيقة أخرى قد يغفلوا عنها وهي أنّ كلّ ما فعلوه لم يكن لولا عون الله وتوفيقه، فالله وحدهُ هو الذي يجري الأمور ويسبّبُ الأسباب.
اترك تعليق