ماذا نقول لمن يقدم بلاغة الشعر على القرآن؟
بَعضُ الأشخاصِ يُقدِّمُونَ بَلاغَةَ الشِعرِ على بَلاغَةِ القُرآنِ الكَريمِ فَكَيفَ نُجِيبُهُم؟
الجواب:
لا علاقةَ لنا بالمواقفِ الشخصية وما يحبّهُ الناس ويرغبونَ فيه، فمن يفضّلُ بلاغة الشعر على القرآن كشأن شخصي وهوى نفسي لا يمكنُ مناقشته.
والذي يستحقُّ النقاش هو من يدّعي امتلاكهُ أدلةً على أنّ بلاغة الشعر أفضلُ من بلاغة القرآن، فالواجبُ حينها النظرُ في هذه الأدلة ومناقشتها وتفنيدها، ولا نظنُّ أنّ هناك من يعرفُ معنى البلاغة ويحترم نفسه يمكن أن يتبنى مثل هذا الادعاء!
فهؤلاء هم فصحاءُ العرب وعباقرتها في البلاغة والبيان يقفون بكلّ اجلال واعظام أمام بلاغة القرآن وفصاحته، فقد نزلَ القرآنُ على بيئةٍ وثقافةٍ ليس لها حرفة غير الفصاحة ونظم الشعر، ومع ذلك تحداهم القرآنُ فيما يجيدون صنعهُ ولم يتمكّن أحدٌ من معارضته، فإن كان بإمكانهم الاتيانُ بكلام يماثلُ القرآن في الفصاحة والبلاغة لفعلوهُ من دون ريب، ولو فعلوا ذلك لنقلهُ لنا التاريخ نقلاً متواتراً لكثرة الدعاوي على ذلك مع كثرة المخالفينَ والمعاندين للإسلام.
وقد روي أنّ ابن المقفع أراد معارضة القرآن وشرع في ذلك، فمرّ بصبي يقرأ: (وَقِيلَ يَا أَرضُ ابلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمرُ وَاستَوَت عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعداً لِلقَومِ الظَّالِمِينَ) فرجع فمحا ما عمل، وقال: أشهد أنّ هذا لا يُعارض وما هو من كلام البشر، وكان ابن المقفع من أفصح أهل وقته.
كما نقل التاريخ أنّ العرب كانوا يعلقون قصائدهم الشعرية المميزة على الكعبة، وبعد نزولِ القرآن انزلوها لفصاحة القرآن إلا معلقة امرئ القيس فإنّ أخته أبت ذلك عناداً، فلما نزلت آية: (وَقِيلَ يَا أَرضُ ابلَعِي مَاءَكِ). قامت إلى الكعبة فأنزلت معلقة أخيها.
وقد اعترفَ بفصاحة القرآن حتى مشركي قريش فهذا الوليدُ بن المغيرة الذي كان يتحاكمُ عنده العرب ويعرضونَ عليه أشعارهم، فما اختارهُ من الشعر كان مقدّماً مختاراً، ولكنه عندما سمع بعض آيات القرآن قال لقومهِ من بني مخزوم: "والله لقد سمعتُ من محمّدٍ آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاهُ لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى"
وقد فند السيد الخوئي بعض ادعاءات المشككينَ في إعجاز القرآن وبلاغته في تفسير البيان، ومن المناسب نقلُ بعضها هنا لتكتمل الفائدة، يقول السيد الخوئي: " لقد تحدى القرآن جميع البشر، وطالبهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يستطع أحد أن يقوم بمعارضته، ولما كبر على المعاندين أن يستظهر القرآن على خصومه، راموا أن يحطوا من كرامته بأوهام نسجتها الأخيلة حول عظمة القرآن، تأييداً لمذاهبهم الفاسدة. ومن الحسن أن نتعرض لهذه الأوهام التي أتعبوا بها أنفسهم ليتبين مبلغهم من العلم، وأنّ الأهواء كيف تذهب بهم يميناً وشمالاً فترديهم في مهوى سحيق. قالوا:
1 - إنّ في القرآن أموراً تنافي البلاغة لأنها تخالف القواعد العربية، ومثل هذا لا يكون معجزاً.
وهذا القول باطل من وجهين:
الأول: إنّ القرآن نزل بين بلغاء العرب وفصحائها، وقد تحداهم إلى معارضته، ولو بالإتيان بسورة واحدة، وذكر أنّ الخلق لا يقدرون على ذلك، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، فلو كان في القرآن ما يخالف كلام العرب فإنّ هؤلاء البلغاء العارفين بأساليب اللغة ومزاياها لأخذوه حجة عليه، ولعابوه بذلك، واستراحوا به عن معارضته باللسان أو السنان، ولو وقع شيء من ذلك لاحتفظ به التاريخ، ولتواتر نقله بين أعداء الاسلام، كيف ولم ينقل ذلك ولا بخبر واحد؟
الثاني: أنّ القرآن نزل في زمان لم يكن فيه للقواعد العربية عين ولا أثر، وإنما اخذت هذه القواعد - بعد ذلك - من استقراء كلمات العرب البلغاء، وتتبع تراكيبها. والقرآن لو لم يكن وحياً إلهياً - كما يزعم الخصم - فلا ريب في أنه كلام عربي بليغ، فيكون أحد المصادر للقواعد العربية، ولا يكون القرآن أقل مرتبة من كلام البلغاء الآخرين المعاصرين لنبيّ الاسلام. ومعنى هذا:
أنّ القاعدة العربية المستحدثة إذا خالفت القرآن كان هذا نقضاً على تلك القاعدة، لا نقداً على ما استعمله القرآن. على أنّ هذا لوتمّ فإنما يتمّ فيما إذا اتفقت عليه القراءات، فإنا سنثبت - فيما يأتي - أنّ هذه القراءات المعروفة إنما هي اجتهاداتٌ من القراء أنفسهم، وليست متواترة عن النبي - ص - فلو ورد اعتراض على إحدى القراءات كان ذلك دليلاً على بطلان تلك القراءة نفسها، دون أن يمسّ بعظمة القرآن وكرامته. وقالوا:
2 - إنّ الكلام البليغ - وإن عجز البشر عن الاتيان بمثله - لا يكون معجزاً، فإنّ معرفة بلاغته تختصّ ببعض البشر دون بعض، والمعجز لا بد وأن يعرف إعجازه جميع أفراد البشر، لانّ كلّ فرد منهم مكلفٌ بتصديق نبوة صاحب ذلك المعجز.
الجواب:
وهذه شبهة تشبه ما تقدمها في ضعف الحجة، وتفكك القياس. فإنّ المعجز لا يشترط فيه أن يدرك إعجازه كلّ البشر، ولو اشترطنا ذلك لم يسلم لنا معجز أصلاً، فإنّ إدراكه يختصُّ بجماعة خاصة، ويثبت لغيرهم بالنقل المتواتر. وقد ذكرنا امتياز القرآن عن غيره من المعجزات، بأنّ التواتر قد ينقطع في مرور الزمان. وأما القرآن فهو معجزة باقية أبدية ببقاء الأمة العربية، بل ببقاء من يعرف خصائص اللغة العربية، وإن لم يكن عربياً. وقالوا:
3 - إنّ العارف باللغة العربية قادر على أن يأتي بمثل كلمة من كلمات القرآن.
وإذا أمكنه ذلك أمكنه أن يأتي بمثل القرآن، لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد.
الجواب:
إنّ هذه الشبهة لا تليق بالذكر، فإنّ القدرة على الاتيان بمثل كلمةٍ من كلمات القرآن، بل على الاتيان بمثل جملة من جملهِ لا تقتضي القدرة على الاتيان بمثل القرآن، أو بمثل سورة من سورهِ، فإنّ القدرة على المادة لا تستلزم القدرة على التركيب. ولهذا لا يصحُّ لنا أن نقول: إنّ كلّ فرد من أفراد البشر قادرٌ على بناء القصور الفخمة، والصروح الضخمة، لأنه قادر على وضع آجرة في البناء، أو نقول: إنّ كل عربي قادرٌ على إنشاء الخطب والقصائد، لأنه قادرٌ على أن يتكلم بكلّ كلمة من كلماتها ومفرداتها..."
اترك تعليق