هل تجتمع رحمة الله مع شقاء العبد؟

كيف لمَن تغمدّه الله برحمته في دار الدنيا أن تطاله أيدي الشقاء؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

المبدأ العام الذي يشمل جميع البشر هو كون الحياة دار امتحان وابتلاء، وقد أكّدت كثير من آيات القرآن هذه الحقيقة، قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}، وقال تعالى: {كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}، وقال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}، وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.

فالمؤمن والكافر كلاهما معرّضان لهذه الابتلاءات، والفرق أنّ المؤمن يجتازها بنجاحٍ، بينما يفشل الكافر فيها، ولا يمنع أن يكون هناك آثار مترتّبة على طبيعة الحياة التي يعيشها المؤمن في الدنيا والتي يعيشها الكافر، وليس بإمكان الإنسان الوقوف على طبيعة القوانين التي تحكم طبيعة تلك الحياة بشكل تفصيليّ، وكلّ ما يمكن الوقوف عليه هي المعادلات الكليّة التي أشارت لها النصوص الدينيّة.

ويبدو أنّ الذي قاد السائل لهذا السؤال: هو حصر معنى الشقاء في مظاهره الماديّة، فمَن يعيش حالة المرض والفقر - مثلاً - يكون شقيّاً حتّى وإنْ كان مؤمناً داخلاً في كنف رحمة الله، والذي يعيش حالة الغنى والسلامة يكون سعيداً حتّى وإنْ كان كافراً خارجاً عن رحمة الله.

ومن المؤكّد أنّ هذا التفسير سيقود إلى توليد إشكال حقيقيّ في نفس المؤمن، فإذا كان مشروع الإسلام والإيمان الحقيقيّ هو تحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والاخرة، وفي المقابل إذا كان الشقاء هي صفة ملازمة للكافر كما جاء في القرآن، فكيف بعد ذلك يكون المؤمن شقيّاً والكافر سعيداً؟

وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا التفسير لمعنى الشقاء والسعادة غير دقيق؛ وذلك لأنّ السعادةَ والشقاءَ في حقيقتهما وصفٌ لشعور يجده الإنسان في داخل نفسه، وقد يتأثّر هذا الشعور بالوضع الماديّ الذي يعيش فيه الإنسان، إلّا أنّ ذلك التأثير مرتبط بعامل آخر، وهو استعداد النفس للتأثّر والانفعال بذلك الظرف الماديّ، والذي يتحكّم في استعدادات النفس ونوعها هو مدى فهمها لفلسفة الحياة وغاياتها الكبرى، ومن هذه الزاوية يتمايز المؤمن عن الكافر، فالكافر الذي يتعامل مع الحياة على أنّها خاتمة المطاف سيكون أكثر تأثّراً وانفعالاً بالعوامل الماديّة سواء كانت إيجابيّة أو سلبيّة، بينما المؤمن الذي ينظر للدنيا بوصفها محطّة في الطريق إلى الحياة الحقيقيّة في الآخرة، سيكون تأثّره بتلك العوامل بمقدار ترسّخ تلك القناعة في قلبه ووعيه.

وعليه، لا وجود لعلاقةٍ مباشرة بين السعادة والشقاء كشعور نفسيّ، وبين ما يحيط بالإنسان من مظاهر ماديّة، فمثلاً: قد تجد الفقير أكثر راحة نفسيّة من الغنيّ، وتجد المريض أكثر توازناً واطمئناناً من السليم والمعافى.

وهكذا لا يمكن ربط الشعور النفسيّ بالظرف الماديّ فقط، وإنّما يجب البحث عن عامل آخر أكثر تأثيراً وتحكّماً في حالة الإنسان النفسيّة، فمثلاً: لا يكون العيش في القصر سبباً للراحة النفسيّة ما لم يكن ذلك مقترناً بأمر آخر، فالإمام الكاظم (عليه السلام) كان أكثر اطمئناناً وانسجاماً - نفسيّاً وروحياً - مع أنّه كان يعيش في مطامير السجون، بينما هارون كان أكثر قلقاً واضطراباً مع أنّه كان يعيش في القصور.

ومن هنا يجب أن لا ننظر للدين بوصفه مشروع سعادة في الآخرة فقط، وإنّما هو مشروع السعادة في الدنيا أيضاً، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}، وإذا لم تكن السعادة مرتبطة بالأسباب الماديّة فقط، فإنّ المعيشة الضنكة لا تعني بالضرورة الحرمان من الوسائل الماديّة. وبناءً على هذه الآية، فإنّ الابتعاد عن الله هو السبب المباشر لكلّ ما يصيب النفس من قلق وتوتّر، وبمقدار البُعد عن الله يكون مقدار الضنك الذي يصيب الإنسان.

ومن هنا لا يمكن أن نحكم على المؤمن بأنّه معفيّ من حالات الهمّ والغمّ والحزن، طالما كان الإيمان بين إدبار وإقبال، فالمؤمن لا يصيبه الهمّ والغمّ إلّا في حالة الغفلة التي يستغلّها الشيطان، وقد جزم أمير المؤمنين (عليه السلام) بذلك في قوله: « مَن قصر في العمل ابتلي بالهمّ ».

وفي المقابل عندما يكون المؤمن قريباً من الله تعالى وبعيداً عن الشيطان، يكون بالضرورة في حالة سكينة واطمئنان، وهذا صريح قوله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، وقد أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أميرَ المؤمنين (عليه السلام) بالسرّ الذي يجنّب الإنسان من الهم بقوله: « يا عليّ، أمان لأمّتي من الهم: لا حول ولا قوّة إلّا بالله، لا ملجأ ولا منجا من الله إلّا إليه »، فالارتباط بالله واستحضاره في القلوب هو السرّ الذي لا يبقى معه همّ وحزن بسبب الدنيا.

وبما أنّ القلب لا يخلو من الغفلة، فإنّ الله جعل الهمَّ والغمّ كفّارة للذنوب التي تصدر منه، وقد فسّرت الكثير من الروايات حصول الهمّ والغمّ للمؤمن بذلك، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: « لا تزال الغموم والهموم بالمؤمن حتّى لا تدع له ذنباً »، وقال (عليه السلام): « لا يمضي على المؤمن أربعون ليلة إلّا عرض له أمر يحزنه ويذكّره ربّه »، وعن الحارث بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: « إنّ العبد المؤمن ليهتمّ في الدنيا حتّى يخرج منها ولا ذنب له ». وعليه، مَن كان كثير الهمّ والغمّ ودائم الحزن يجب أن يراجع إيمانه وصلته بالله تعالى، وعندها سيكتشف بالضرورة أنّ هناك خلل ما.

وقد بيّنت الروايات طريقة التخلّص من الهمّ والغمّ الذي يكون بسبب الذنوب وغفلة القلب، حيث أكّدت أنّ معالجة ذلك يكون بالتوبة والاستغفار واستذكار الله تعالى، ومن تلك الروايات قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): « مَن أكثر الاستغفار جعل الله له مِن كلّ همّ فرجاً، ومِن كلّ ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب »، وروي عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال: « يا سفيان، إذا حزنك أمرٌ من سلطان أو غيره فأكثر من قول: لا حول ولا قوّة إلّا بالله؛ فإنّها مفتاح الفرج، وكنز من كنوز الجنة »، وعنه (عليه السلام) قال: « وعجبت لمَن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: {لّا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فإنّي سمعت الله عزّ وجلّ يقول بعقبها: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} ».

وعليه، فإنّ للذنوب التي يرتكبها المؤمن دوراً مباشراً فيما يصيب الإنسان من شقاء في الدنيا، ففي الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: « إذا أراد الله بعبدٍ خيراً عجّل عقوبته في الدنيا، وإذا أراد بعبدٍ سوءاً أمسك عليه ذنوبه حتّى يوافي بها يوم القيامة »، فنحن نعلمُ بحصول ذلك، ولكنّنا لا نعلم كيف ومتى ولمَن يكون ذلك؟ فمثلاً: كيف لنا أن نعرف أنّ هذا البلاء كان خيراً للعبد؟ أو أنّ الرخاء الذي هو فيه كان بسبب عدم الذنب؟ أو بسبب الذنب الذي تمّ تأخير عقوبته؟ وعليه، كلّ ما نفهمه من الروايات: أنّ الابتلاءات التي تصيب المؤمن هي كفّارة لذنوبه حتّى يلقى الله وهو طاهر مطهّر، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): « إنّ المؤمن إذا قارف الذنوب ابتلي بها بالفقر، فإنْ كان في ذلك كفارة لذنوبه وإلّا ابتلي بالمرض، فإنْ كان ذلك كفّارة لذنوبه وإلّا ابتلي بالخوف من السلطان يطلبه، فإنْ كان ذلك كفّارة لذنوبه وإلّا ضيّق عليه عند خروج نفسه، حتّى يلقى الله حين يلقاه وما له من ذنب يدعيه عليه فيأمر به إلى الجنّة ».