هل القرآن عاجز عن تجاوز الحدود البشريّة للغة؟

السؤال: نشأ السجع قبل الإسلام كمهارة لغويّة إلى جانب الشعر والرجز، وتبنّته معابد الكهانة كطريقة للتأثير على المتعبّدين، الأمر الذي يعني أنّ الخالق عجز عن تجاوز الحدود البشريّة للغة، ويعني أنّ الخالق لم يقل شيئاً ولم يؤلف سجعاً، بل من كتب القرآن بشر مثلنا!

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

ذكرنا في إجابة سابقة: أنّ السجع هو موالاة الكلام على نحوٍ يكون المعنى تابعاً للفظ، وليس اللفظ تابعاً للمعاني، أي: أنّ هدف المتكلّم هو إيجاد (أصوات موزونة)، فيستخدم الألفاظ ذات الأصوات المتداخلة والمتقاربة، ولا يهدف إيصال معنىً محدّد فيلزمه ذلك اختيار الألفاظ التي تخدم ذلك المعنى بعيداً عن أوزانها.

وقد اعتاد الكهّان قديماً على السجع حيث يجعلون كلامهم أقرب للمقطوعات الصوتيّة ذات أجراس مميّزة عند سماعها، والسجع أشبه بالخداع حيث يجعل (النغمة الصوتيّة) الصادرة من الكلام المسجوع صارفة عن التفكير في المعنى، وبالتالي السجع لا يحمل أيّ مخزون معرفيّ. وهذا بخلاف القرآن الذي يستبطن الكثير من العلوم والمعارف.

وفي كتاب إعجاز القرآن للباقلانيّ فصلٌ كاملٌ لنفي السجع من القرآن، وممّا جاء فيه: (والذي يقدّرونه أنّه سجعٌ، فهو وهم؛ لأنّه قد يكون الكلام على مثال السجع وإنْ لم يكن سجعاً؛ لأنّ ما يكون به الكلام سجعاً يختصّ ببعض الوجوه دون بعض؛ لأنّ السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدّي السجع. وليس كذلك ما اتّفق ممّا هو في تقدير السجع من القرآن؛ لأنّ اللفظ يقع فيه تابعاً للمعنى. وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدّي المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون المعنى منتظما دون اللفظ. ومتى ارتبط المعنى بالسجع، كانت إفادة السجع كإفادة غيره، ومتى انتظم المعنى بنفسه دون السجع، كان مستجلباً لتحسين الكلام دون تصحيح المعنى) [إعجاز القرآن ج1 ص57].

وقد روي: أنّ النبي (صل الله عليه وآله وسلم) قال للذين جاؤوه وكلّموه في شأن الجنين: كيف ندي مَن لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهلّ، أليس دمه قد يطل؟ فقال: « أسجاعه كسجاعة الجاهلية؟ »، وفي بعضها: « أسجعاً كسجع الكهان؟ »، فرأى ذلك مذموماً.

ومن هنا، فإنّ توهّم البعض - بأنّ في القرآن سجعاً - ليس صحيحاً؛ لأنّ ليس كلّ كلام موزون يعدّ سجعاً، والضابط في ذلك: أنّ السجع يكون المعنى فيه تابع للفظ، وهذا بخلاف القرآن الذي يكون اللفظ فيه تابعاً للمعنى.

وعليه، هناك فرق بين تكلّف السجع الذي يستقبحه العرب، وبين ما يأتي موزوناً بما تسمح به القرائح والمعاني، وقد جمع القرآن بين قوّة اللفظ ودلالة المعنى، وقد أعجز القرآنُ العربَ بما فيه مِن نظمٍ محكم ونسقٍ متماسك وعبارةٍ واضحة، ممّا جعله في غنىً عن التكلّف بالمحاسن اللفظيّة كالسجع.

ولو صحّ كلام السائل، وكان القرآن مجرّد سجع كسجع الكهان، لَمَا احتار فصحاء العرب في مجاراته والإتيان بمثله، أو كما يقول الباقلاني - وكأنّه يرد على هذا السائل -: (ولو كان الأمر على ما ذكره السائل، لوجب أن لا يتحيّروا في أمرهم، ولا تدخل عليهم شبهة فيما نابهم، ولكانوا يسرعون إلى الجواب ويبادرون إلى المعارضة).

أمّا قول السائل: (أن الخالق عجز عن تجاوز الحدود البشرية للغة)، فينمّ عن جهل بالحِكمة من إنزال القرآن، فإذا كان هدف القرآن هو هداية الناس، فكيف يتوقّع هذا السائل أن يخاطبهم بلغةٍ لا يعرفها بنو البشر، وليس لهم سابق معرفة بدلالاتها ومعانيها؟ فالطبيعيّ هو أن يخاطبهم القرآن بنفس اللغة التي اعتادوا على التخاطب بها فيما بينهم، ولو ابتدع لغة خاصّة ليس لهم بها سابق علمٍ ومعرفةٍ لاستحال حينها أن يبيّن لهم المعاني التي أراد إيصالها لهم.

وعليه: فإنّ الأمر ليس له علاقة بعجز الخالق عن إيجاد لغة جديدة، ولكن حينها سيكون القرآن عبارة عن طلاسم ورموز لا يمكن تفكيك معانيها.

وعليه، فإنّ الإعجاز الحقيقيّ للقرآن هو أنّه خاطبهم بنفس لغتهم التي اعتادوا عليها، ومع ذلك جاء بكتاب يعجز البشر جميعاً عن مجاراته، ومن هنا لم يكن القرآن معجز لمجرّد احتوائه على كلمات ومفردات وجمل اعتاد الناس على استخدامها، وإنّما إعجازه في أنّه يأتي بكتابٍ بنفس اللغة وبنفس التراكيب والجمل بحيث لا يمكن الإتيان بمثله، وهذا التحدّي ما زال ماضياً أمام كلّ العلماء والأدباء والفصحاء، والذي ينكر إعجاز القرآن ليس أمامه إلّا الإتيان بمثله، وهذا المعنى وحده كافٍ لإثبات كون القرآن من الله.