هل معرفة الحق أمر صعب؟

السؤال: إن كان رب العالمين يريد ان يحاسبنا بعد مماتنا، فلماذا هذه الصعوبة في البحث عن الحقيقة، هل هذا من العدل؟ الا يجب ان يكون معرفة الحق أسهل مما هي عليه؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

أولاً: محاسبةُ الله تعالى للعباد أمر حتمي لا بد منه، ولا يعني أنّها أمر زائد على طبيعة الإنسان فرضها الله تعالى عليه فرضاً، فالمحاسبة في حقيقتها تعني كونَ الإنسانِ مسؤولاً عن أعماله، فإنْ عَمِلَ خيراً فسيجني من ذلك خيراً، وإن عمل شراً فسيجني من ذلك شراً، فالحسابُ ليس شيئاً آخرَ غيرَ تحمّل العبد مسؤولية عمله، وهي بالتالي نتيجة ملازمة لكون الإنسان خلق عاقلاً ومختاراً لفعله، ولو جاز لنا أن نخيّر السائل بأن يُعفى من المحاسبة عن فعله بشرط تنازله عن عقله وإرادته وحريته فيكون حاله كحال البهيمة، وبين أن يكون عاقلاً ومريداً يختار لنفسه ما يشاء من الافعال ولكن بشرط أن يتحمل تبعات ما يختار.

لا نظن أن هناك مَنْ يُفضّل البهيمية والحيوانية على الإنسانية، ومن هنا فإنّ محاسبةَ اللهِ تعالى لعباده يوم القيامة حقيقة ملازمة لطبيعة الإنسان الذي خلقه الله تعالى حرّاً في فعله، يقول تعالى: (وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ)

ثانياً: إذا كانَ الحقُّ الذي يقصدَهُ السائلُ هو الهداية العامة؛ أي قدرة الإنسان على التمييز بين الحق والباطل، فإنّ اللهَ تعالى فطر الإنسان على تلك المعرفة، فالبشر على نحو التكوين مهتدين جميعاً كما قال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) وقوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) وقوله: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) وقوله: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) وغير ذلك من الآيات التي تكشف عن الهداية التكوينية لكل البشر، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها)، فالله منح الإنسان على مستوى الخلق والتكوين القدرة على التمييز بين الحق والباطل، ثم كلفه بعد ذلك بأن يختار بمحض إرادته أي الطريقين يسلك.

ثم أنَّ اللهَ لم يكتفِ بالفطرة كطريق وحيد للتميز بين الحق والباطل، فبعث جلّ شأنه إليهم الانبياء وأرسل لهم الرسل ليذكّروهم بالحق ويهدوهم إلى طريق الرشاد، وبذلك يكون الله قد جعل طريق الحق واضحاً أمام الجميع حتى لا يكون للعباد حجة على الله بل تكون حجتُهُ عليهم بالغةً، قال تعالى: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ).

ثالثاً: لا ندري ما هو معيار الصعوبة والسهولة عند السائل، ولا ندري شيئاً عن وضعه الذي يعيش فيه حتى جعله يتصور أنّ معرفةَ الحق أمر صعب، والذي يبدو لنا أن صاحب السؤال لا يجد صعوبة في تمييز الحق عن الباطل وإنما يجد صعوبة في اتباع الحق وترك الباطل، فمجرد معرفة الحق وتمييزه عن الباطل لا يعد امراً صعباً؛ بل اختيار الحق على الباطل في كثير من الظروف يكون هو الأمر الصعب، فهوى الإنسان ومصلحته الشخصية هي التي تتحكم عادة في رؤية الإنسان للأشياء، وهذا هو نفسُه موردُ ابتلاءِ الإنسان وعلى اساسه يكون الحساب يوم القيامة، فابتلاء الإنسان ليس في معرفة الحق وإنما في اتباعه، أما إذا غاب عنه الحق ولم يكن هناك طريقٌ إلى معرفتِهِ وانسدّتْ كُلّ ابواب معرفته فحينها لا يكونُ الإنسانُ محاسباً على جهله، يقول تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا)، فقد صرّحت الآيةُ بأن العذاب والحساب يأتي بعد بعث الرسل، أي بعد أن يصل الإنسان إلى الحق، وقد استنبط الفقهاء من هذه الآية قاعدة عامة وهي (قبح العقاب بلا بيان)، ومن المعلوم أنّ البيان المقصود هو أوسع من أن يأتي الرسولُ نفسُه لكل شخص، وإنما يكفي فيه وصول آياته وما أمر به من حقائق ومعارف بأي وسيلة متاحة، فلا يكون معذوراً من تهيأت له معرفة الحق ولم يتبعه.

فمهما تحايلَ الإنسان على الآخرين لا يمكنه التحايل على ما تسر به نفسه (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ)، فالإنسان شاهد على نفسه ومقر بالحق في قرارة نفسه، وقد أشارّتْ الكثير من الآيات لعلم الإنسان بالحق ولكنه يفضل الباطل لهوى في نفسه. قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) يعلمون بالحق إلا أنهم يكتمونه ويلبسونه بالباطل لهوى في أنفسهم. وقال تعالى: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ). وقال تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ). وغير ذلك من الآيات الكاشفة عن محكمة الضمير عند كلّ إنسان، حيث تجعله مسؤولاً عن الحق الذي يراه في قرارة نفسه.

وقد فصّلت لنا آيات أخرى سبب ميل الإنسان إلى الباطل مع علمه بالحق، وقد أرجعَتْ كلُّ ذلك إلى هوى النفس. قال تعالى: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ۖ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ).

رابعاً: ولعلّ من خدع إبليس وحيلهِ هي تعظيم ذنوب العبد حتى يَرى غفرانَها أمراً مستحيلاً، فقد ترى بعضهم يرغب في التوبة إلا أنّ إبليس لعنه الله يذكّره بماضيه المظلم بالذنوب فيصاب باليأس ويحجم عن التوبة، وقد جعل الله تعالى القنوط من رحمته نحو من الضلال والكفر بالله تعالى، قال تعالى: (وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ)، وقال: (والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم)، فليس لإبليس حيلة بعد أن وعد الله عباده الذين أسرفوا على أنفسهم بأن لا يقنطوا من رحمته فإنه يغفر الذوب جميعها.

فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (الفاجر الراجي لرحمة الله تعالى أقرب منها من العابد المقنط)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: لا تيأس لذنبك وباب التوبة مفتوح. وعن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه سمع رجلاً يقول: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ حَارَبَ عَلِيّاً (ع) فَقَالَ لَهُ قُلْ إِلَّا مَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ، ثُمَّ قَالَ: ذَنْبُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ وَلَمْ يَتُبْ أَعْظَمُ مِنْ ذَنْبِ مَنْ قَاتَلَهُ ثُمَّ تَابَ».

وعليه فإنّ الخطأَ والذنبَ أمران متوقعان من الإنسان، فلا يكُنِ الذنبُ حاجزاً يمنع الإنسان من الاستدراك واستئناف عمله الصالح، فبالتوبة يمكن للإنسان أن يصحح مساره ويستأنف المسير إلى الله من جديد، فعن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «التَّائِبَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَه‏».

وفي الخُلاصةِ ننصحُ السائلَ وأنفسنا بعدم الاستسلام لوَساوسِ الشيطان فمن قصد الحق وجده لا محالة، كما يجب عليه أن يوطن نفسه على قبول الحق حتى لو كان على خلاف هوى نفسه، ومن ثم يطلب العون والتوفيق من الله فإنّ الله تعالى لا يخذلُ عبداً قصد رضوانه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)