هل النبي يوسف (ع) أساء الأدب؟

السؤال: وردتْ عدة آيات قرآنية توصي بالوالدين، مثل: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الأنعام ١٥١]. ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ۝ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء ٢٣-٢٤]. لكن مع ذلك، ورد في آية قرآنية: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ [يوسف ١٠٠]. فما توجيه هذا التباين في الأدب القرآني مع الوالدين؟

: فريق اللجنة العلمية

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾

السائل المحترم / سلام عليكم

أولاً: في القرآن الكريم وردتْ عدة آيات ـ بعدة صياغات ـ توصي الإنسان بالإحسان والبِر إلى والديه، فبعضها ذكرتْ في السؤال، وبعضها نتبرَّك بذكرها:

* ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة ٨٣].

* ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة ١٨٠].

* ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة ٢١٥].

* ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [النساء ٣٦].

* ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا﴾ [مريم ١٤].

* ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ [مريم ٣٢].

* ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت ٨].

* ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ۝ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [لقمان ١٤-١٥].

* ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأحقاف ١٥].

ثانياً: المستفاد من مجموع هذه الآيات، عدة أمور ..

١- أنّ الإحسان والبِر بالوالدين إنما هما ميثاق الله (تعالى) ووصيَّته إلى الإنسان، والميثاق والوصية الإلهيَّيْن لا يكونان إلا في الأمور العظيمة، كما يصرِّح القرآن بذلك.

٢- أنّ الإحسان والبِر بالوالدين قرنهما الله (تعالى) بتوحيده وعبادته، وهذا أسلوب القرآن في الأمور الخطيرة، يقرنها مع أمور أخطر منها، ليبيَّن مدى أهميتها عنده.

٣- أنّ الإحسان والبِر إلى الوالدين من أدب القرآن الكريم وأخلاق الأنبياء (ع)، فيجب على المؤمن العاقل أن يتحلَّى بهذه الصفة القرآنية النبوية الحميدة.

٤- أنّ طاعة الوالدين واجبة شرعاً، شرط أن تكون طاعتهما في المعروف دون المنكر، مع بيان سبب عدم طاعتهما في معصية الله (تعالى) بشكل عقلاني هادئ فيه الودُّ والرأفة.

٥- أنّ عقوق الوالدين حرام شرعاً، يعدُّ من كبائر الذنوب، التي قرنها الله (تعالى) مع ذنب الشرك به على حدٍّ سواء، وهو علامة التجبُّر في الدنيا والشقاء في الآخرة.

٦- أنّ شكر الوالدين ـ قولاً وعملاً ـ يساوي شكر الله (تعالى)، لأنهما السبب الطبيعي لنعمة الوجود، كما أن الله (تعالى) السبب الحقيقي لهذه النعمة الكبرى.

٧- أنّ الدعاء للوالدين، والإنفاق ـ مادياً ومعنوياً ـ عليهما، من أفضل أعمال الخير القولية والفعلية، هما من مظاهر التقوى والصلاح بالإنسان، وفيهما مرضاة الله (تعالى).

ثالثاً: هذه الآية الشريفة ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾، لا تتباينُ مع سائر الآيات المباركات، في الأدب مع الوالدين، بل بالعكس هي تنسجم معها تماماً.

لأنّ ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾، هذا من النبي يوسف (ع) غاية التعظيم والتفخيم لأبويه، حيث رفعهما على عرشه، وميَّزهما بالتبجيل والتجليل عن أخوته وأعيان مملكته.

أمَّا ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾، فإن سجودهم كان طاعة وشكراً لله (تعالى) على هذه النعمة، وتحية وإكراماً للنبي يوسف (ع)، مثلما سجد الملائكة (ع) للنبي آدم (ع).

وقد رُوِيَ هذا المعنى عن أهل البيت (ع) ..

* ففي تفسير العياشي: ج٢ ص١٩٧ ح٨٢، قال: «عن محمد بن سعيد الأزدي ـ صاحب موسى بن محمد بن الرضا (ع) ـ عن موسى‌، قال لأخيه [يعني: الإمام الهادي (ع)] : إن يحيى بن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل. فقال: أخبرني عن قول الله: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾، أسجد يعقوب وولده ليوسف؟ قال: فسألتُ أخي (ع) عن ذلك؟ فقال (ع): أما سجود يعقوب وولده ليوسف، فشكراً لله، لاجتماع شملهم. ألا ترى أنه يقول في شكر ذلك الوقت: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ [يوسف ١٠١]».

* وفيه أيضاً: ج٢ ص١٩٧ ح٨٥، قال: «عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (ع‌)، في قول الله: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾، قال: العرش السرير. وفي قوله: ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾، قال: كان سجودهم ذلك عبادة لله‌».

* وفي تفسير القمي: ج١ ص٣٥٦، قال: «حدثني محمد بن عيسى، عن يحيى بن أكثم، وقال سأل موسى بن محمد بن علي بن موسى (ع) مسائل؟ فعرضها على أبي الحسن (ع). فكانت إحداها: أخبرني عن قول الله (عز وجل) : ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾، سجد يعقوب وولده ليوسف، وهم أنبياء؟ فأجاب أبو الحسن (ع) : أما سجود يعقوب وولده ليوسف، فإنه لم يكن ليوسف، وإنما كان ذلك من يعقوب وولده، طاعة لله، وتحية ليوسف. كما كان السجود من الملائكة لآدم، ولم يكن لآدم، إنما كان ذلك منهم طاعة لله، وتحية لآدم. فسجد يعقوب وولده، وسجد يوسف معهم، شكراً لله، لاجتماع شملهم. ألم ترَ أنه يقول في شكره ذلك الوقت: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾؟!».

وليس في هذا أيُّ إساءة للأدب مع أبويه، ولا أيُّ إخلال باحترامهما وتوقيرهما. على أن يوسف (ع) لم يطالبهم بذلك أصلاً، إنما هم سجدوا بملء إرادتهم واختيارهم، كما يفعل الصالحون عند تجدُّد النعم الربانية.