هل ما جاء في الزيارة الجامعة من وصف للائمة منافٍ للتواضع؟

السؤال: «فَمَا أَحْلَى أَسْمَاءَكُمْ وَأَكْرَمَ أَنْفُسَكُمْ وَأَعْظَمَ شَأْنَكُمْ وَأَجَلَّ خَطَرَكُمْ وَأَوْفَى عَهْدَكُمْ، كَلامُكُمْ نُورٌ وَأَمْرُكُمْ رُشْدٌ وَوَصِيَّتُكُمُ التَّقْوَى وَفِعْلُكُمُ الخَيْرُ وَعَادَتُكُمُ الإِحْسَانُ وَسَجِيَّتُكُمُ الكَرَمُ وَشَأْنُكُمُ الحَقُّ وَالصِّدْقُ وَالرِّفْقُ، وَقَوْلُكُمْ حُكْمٌ وَحَتْمٌ، وَرَأْيُكُمْ عِلْمٌ وَحِلْمٌ وَحَزْمٌ، إِنْ ذُكِرَ الْخَيْرُ كُنْتُمْ أَوَّلَهُ وَأَصْلَهُ. الخ.. " هل يُعقل أن يقوم الإمام عليه السلام الذي كان مثال التواضع والانكسار لله عز وجل، بتلقين أحد أتباعه أن يطيل ويطنب في الثناء عليه وعلى آبائه بهذه الصورة المبالغ فيها والتي يتضمَّن بعضها عبارات — مثل «لا أُحْصِي ثَنَاءَكُمْ ولا أَبْلُغُ مِنَ المَدْحِ كُنْهَكُمْ ومِنَ الوَصْفِ قَدْرَكُمْ» — وهي عبارات تليق بالثناء على ﷲ عز وجل أكثر مما تليق بالثناء على البشر المخلوق؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

للإجابة على هذا السؤال يجب أن نُعرّف التواضع والتكبّر لكي نقف على ملاك كلّ واحد منهما، فهي الطريقة الوحيدة التي نحدّد من خلالها ما جاء في الزيارة الجامعة إنْ كان منافياً للتواضع أم لا.

ممّا لا شك فيه أنّ التواضع من مكارم الأخلاق التي حثّ عليها الإسلام، وفي قباله يكون التكبّر الذي يكفي في ذمّه قول رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): لا يدخل الجنة مَنْ كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر. (ثواب الأعمال للصدوق، ص221).

وحقيقة التواضع والتكبر تعود بالأساس إلى نظرة الإنسان لذاته ولنفسه، فمَن يرى نفسه وذاته بعين الفقر والحاجة يكون متواضعاً، ومن يرى نفسه بعين العظمة العلو والاستغناء يكون متكبّراً، ولا شكّ أنّ نظرة المتواضع لنفسه نظرة صادقة تعبّر عن حقيقة النفس وفقرها، بينما نظرة المتكبّر إلى ذاته نظرة كاذبة تدّعي للنفس ما ليس فيها.

ومع وجود فارق شاسع بين صفة التواضع والتكبر إلا أنّ هناك بعض الحدود الغامضة التي تزيد من حيرة بعضهم فتختلط عليه بعض الافعال بين التواضع والتكبر، والذي يبدو لنا أنّ الذي دفع السائل لهذا السؤال هو الخلط الذي قد يحدث ضمن هذه الحدود الغامضة، وإذا تمكنا من خلال هذه الإجابة من وضع اليد على الخيط الرفيع الذي يفصل بين الصِّفتين سترتفع الشبهة من ذهن السائل بإذن الله تعالى.

ولتحديد ذلك لابدّ من معرفة منشأ التكبر والتواضع عند الإنسان، وبمعنى آخر لماذا يتواضع الإنسان ولماذا يتكبر؟ وما هو الدافع الذي يحرك الإنسان نحو اتجاه التواضع أو اتجاه التكبر؟

من الواضح أنّ الدافع الحقيقي للتكبر هو الجهل بطبيعة النفس وحقيقتها؛ وذلك لأنّ التّكبر والتواضع هما نتاج نظرة الإنسان إلى ذاته، فمَن يزعم بأنّ له شأناً نابعاً من ذاته فهو جاهل بحقيقته؛ فالنفس بطبيعتها وبذاتها فاقدة لكلّ شأن وكمال، وبالتالي جهل الإنسان بحقيقته هو الذي يولّد عنده الغرور والتكبر، وقد أشار الإمام الكاظم (عليه السلام) لهذه الحقيقة بقوله: إنّ الله جعل التواضع آلة العقل، وجعل التكبر من آلة الجهل. (تحف العقول لابن شعبة، ص396).

وكذلك قول الإمام الصَّادق (عليه السلام): الجهل في ثلاث: الكبر وشدة المراء والجهل بالله، فأُولئك هم الخاسرون. (الإختصاص للمفيد، ص244).

ومن هنا كلّ مَن له شعور بالترفّع والخيلاء والتعاظم والتغطرس هو في الواقع جاهل بحقيقة نفسه؛ فليس هناك شيء في طبيعة هذه النفس تستوجب الرفعة والتعالي والتعاظم، فإذا كان الإنسان في حقيقته مخلوقاً مربوباً لله تعالى، فهو بذلك فاقد لكل شيء حتى وجوده ناهيك عن كمالاته الوجوديّة، وما يملكه الإنسان من كمالات إنّما يملكها بتلميك الله تعالى، واللهُ لِما ملّكه أملك، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: ما لابن آدم والفخر، أوله نطفة وآخره جيفة، لا يرزق نفسه، ولا يدفع حتفه. (نهج البلاغة: 4 / 104).

وعندما يقف الإنسان على هذه الحقيقة ويشعر بها في عمق قلبه ووجدانه يكون بالنتيجة متواضعاً.

وعليه فإنّ حقيقة التواضع هو الشعور الدائم بالفقر والحاجة والاضطرار لله تعالى، فالذي يعلم بأنّ كلّ ما عنده من خير هو من الله تعالى وليس من ذاته كيف يتكبر على غيره؟ يقول أمير المؤمنين عليه السلام: طَلَبتُ الخُضوعَ فما وَجَدْتُ إلّا بقبولِ الحقِّ، اقبَلُوا الحَقَّ، فإنَّ قبولَ الحقِّ يُبَعِّدُ مِن الكِبرِ. (بحار الأنوار: 66 / 399).

ومن هنا يمكننا أيضاً أنْ نفهمَ لماذا يتصف الله تعالى بالمتكبّر ولا يجوز هذا الوصف في حقّ غيره تعالى، والسّبب في ذلك أنّ الله تعالى هو الكمال المطلق وكماله عين ذاته سبحانه وتعالى، فالله غنيّ عن الخلق، والخلق فقير إليه، وبذلك يكون التكبر من أكثر الصّفات الذميمة التي يمكن أنْ يتّصف بها الإنسان، فعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يقول الله: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في ناري. (مستدرك الوسائل: 12 / 31).

وخلال ما تقدم يبدو لنا ملامح الخيط الدّقيق الذي يميّز بين العجب والتكبر وبين إظهار الإنسان لنعم الله تعالى وفضله عليه، ولكي يتضح الأمر أكثر لابدّ من الإشارة أيضاً إلى أنّ كلّ صفة حميدة تقع بين وصفين ذميمين، فمثلاً: الجود: يقع وسطاً بين البُخل والتبذير، والشجاعة: وسطاً بين الجبن والتهور، وكذلك التواضع: يقع وسطاً بين الكِبْر والعُلو، وبين الذِلّ والمهانة، ولذا قيل: التَّواضُعُ وَسَطٌ بَيْنَ الكِبرِ والضَّعةِ، فالضَّعةُ: وَضعُ الإنسانِ نفسَه مكانًا يُزري به بتضييعِ حَقِّه. والكِبرُ: رفعُ نفسِه فوقَ قَدْرِه"

وعليه: ليس كلّ مَن ترك التكبّر أصبح متواضعاً بالضرورة، فقد يفرّ الإنسان من التكبر ولكنّه يقع في صفة ذميمة أخرى وهي الضّعَة والمَهانة، والمَخرج من كل ذلك ليس بنفي الإنسان عن ذاته كلّ فضل وميزة وإنما بنفي أنْ يكون ذلك الفضل من ذاته وهو الذي استحقّه من نفسه، فكلّ كمال وميزة وفضل يتّصف بها الإنسان هو عطاء من الله تعالى وليست من ذاته، فمَن لا يقرّ بذلك ولا يعترف لله بالفضل يكون جاحداً متكبّراً.

بينما المتواضع هو الذي لا يرى لنفسه ومن نفسه أيّ فضل وميزة، وفي نفس الوقت يشكر الله على نعمه من خلال إظهار محاسنه وبيان فضل الله عليه.

ومن هنا كلّ مَنْ ينسب كمالاً لنفسه سواء كان صادقاً في نسبته أو كاذباً يكون متكبّراً، وكلّ مَن يظهر فيه كمالٌ، وينسب الفضل فيه لله تعالى يكون متواضعاً.

فالحدّ الفاصل بين إظهار الفضائل وبيان النّعم، وبين التكبّر والعُجب؛ هو الخضوع لله تعالى صاحب النّعم، ومَنْ يحقّق هذا الشرط في نفسه وفي عمق كيانه ووجدانه يكون بالغاً حدّ التواضع.

وبذلك يتّضح الخيط الرفيع الذي أشرنا له في بداية حديثنا، وقد أشار الإمام الحسين (عليه السلام) إلى ذلك في دعاء عرفة عندما قال: إلهي إنْ ظهرت المحاسنُ مني فبفضلك ولك المنّة عليّ، وإنْ ظهرت المساوي مني فبعدلك، ولك الحجة عليّ، إلهي كيف تكلني وقد توكلتَ لي؟ وكيف أُضام وأنت الناصر لي؟ أم كيف أخيبُ وأنت الحفيّ بي؟

وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: إذا أنعم الله على عبده بنعمة فظهرت عليه سمّيَ حبيب الله محدّثاً بنعمة الله، وإذا أنعم الله على عبد بنعمة فلم تظهر عليه سمّي بغيض الله مكذّباً بنعمة الله. وقال (عليه السلام): إني لأكره للرجل أن يكون عليه نعمة من الله فلا يظهرها. وقال (عليه السلام): إنّ الله تعالى يحب الجمال والتجميل، ويبغض البؤس والتباؤس، فإنّ الله عزّ وجلّ إذا أنعمَ على عبدٍ نعمةً أحبّ أنْ يَرى عليه أثرَها، قيل: وكيف ذلك؟ قال: ينظّف ثوبه، ويطّيب ريحه، ويجصّص داره، ويكنس أفنيته، حتى أنّ السّراج قبل مغيب الشّمس ينفي الفقر ويزيد في الرزق.

وما جاء في هذه الرواية من أمثلة ليست على نحو الحصر وإنما على نحو النموذج والمصداق، فبالاستناد إلى هذه الرواية يمكن أنْ نقول مَنْ يسكن في دار جميلة ويركب سيارة فخمة ويلبس أفخم الثياب وتظهر عليه آثار النعم لا يكون متكبّراً إذا كان قصده التحدث بنعم الله وإظهار فضله عليه، ولا يكون مدّعياً كما فعل قارون عندما زعم أن ثروته صنعها بنفسه وبعلمه، قال تعالى: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي) وفي المقابل لا يكون متواضعاً إذا تظاهر بالبؤس والفقر والحاجة، ففي تفسير قوله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: معناه: فحدّث بما أعطاك الله وفضّلك ورزقك وأحسن إليك وهداك.

وغير ذلك من الروايات يمكن مراجعتها (ميزان الحِكمة ج 4، ص 3317)

ومن أعظم النّعم التي يجب إظهارها هي نعمُ الدين والهداية والمنزلة الرفيعة التي يخصّ الله بها خاصّة أوليائه، فكما لا يجوز للإنسان إخفاء نعم الله الماديّة لا يجوز أيضاً إخفاء نعمه المعنوية عليه، وبخاصّة إذا كانت هذه النّعم مرتبطة بهداية الآخرين.

وهنا يجب أنْ نشير إلى وجود نحوين من العلاقة:

الأولى: هي علاقة الإمام بالله. والثانية: هي علاقة الإمام بالناس.

ففي العلاقة الأولى نجد الائمة يظهرون في علاقتهم بالله تعالى غاية الحاجة والفقر والعبودية والإنكسار، وأدعية أهل البيت (عليهم السلام) كلّها تعبّر عن هذا الخضوع والإنكسار، ففي دعاء عرفة يقول الإمام الحسين (عليه السلام): "إلهي! أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري!؟ إلهي أنا الجاهل في علمي فكيف لا أكون جهولا في جهلي!؟

وفي دعاء كميل يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): وَقَدْ أَتَيْتُكَ يا إِلهِي بَعْدَ تَقْصِيرِي وَإِسْرافِي عَلَى نَفْسِي مُعْتَذِراً نادِماً مُنْكَسِراً مُسْتَقِيلاً مُسْتَغْفِراً مُنِيباً مُقِرّاً مُذْعِناً مُعْتَرِفاً، لا أَجِدُ مَفَرّاً مِمّا كانَ مِنِّي وَلا مَفْزَعاً أَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ فِي أَمْرِي، غَيْرَ قَبُوُلِكَ عُذْرِي وَإِدْخالِكَ إِيّايَ فِي سَعَةٍ مِنْ رَحْمَتِكَ. اللّهُمَّ فَاقْبَلْ عُذْرِي، وَارْحَمْ شِدَّةَ ضُرِّي وَفُكَّنِي مِنْ شَدِّ وَثاقِي، يا رَبِّ ارْحَمْ ضَعْفَ بَدَنِي، وَرِقَّةَ جِلْدِي وَدِقَّةَ عَظْمِي، يامَنْ بَدَأَ خَلْقِي وَذِكْرِي وَتَرْبِيَتِي وَبِرِّي وَتَغْذِيَتِي.... والادعية في هذا الشأن أكثر من أنْ تحصى.

أما في النحو الآخر وهو علاقة الائمة ببقية الناس، فإنّ الائمة مكلّفون بهداية النّاس وقيادتهم، والنّاس لا تنقاد إلا لِمَن له فضل عليهم سواء كان فضلاً مادياً أو معنوياً، والأئمة ليست لهم سلطة مادية تُخضع الناس كحال السلاطين والملوك، وليس لهم سوى سلطتهم المعنوية التي منحها الله لهم بعد أنْ طهّرهم من الرّجس وعصمهم من الذنوب، فمن الطبيعيّ أنْ يُظهروا للناس ويكشفوا لهم عن منزلتهم ومكانتهم التي جعلهم الله فيها، وخاصة أنّ عامّة النّاس يصعب عليهم معرفة ذلك المقام وتلك المنزلة، وما جاء في الزيارة الجامعة نحو من إظهار نِعَمِ الله تعالى التي خصّ بها الأئمة من أهل البيت، فمهما بلغت معرفتنا بأهل البيت فهي دون مقامهم الحقيقيّ الذي يربطهم بالله تعالى، ولذلك تجد الشيعيّ يردد في زيارته للأئمة هذه الكلمات إقراراً وتسليماً بما خصّهم الله به، والذي يتصور أنّ في هذا المقام نحو من المبالغة فبسبب عدم معرفته بالله وما يمنحه لعباده المكرّمين من مكانة ومقام رفيع، فليس هناك حدّ لعطاء الله تعالى، وتفصيل هذا الامر يحتاج إلى مساحة أخرى.