دعوى تحريف القرآن خدمة للمذهب

السؤال: من غلوّ الشيعة في الأئمّة ادّعاء وجود النصّ عليهم في القرآن الكريم ، ولمّا لم يجدوا هذه النصوص في القرآن الكريم الذي بين يدي المسلمين لم يكن أمامهم إلّا الادّعاء بتحريف القرآن الكريم خدمة للمذهب . . . !! وأصبحت مصنّفاتهم وعلى رأسها كتاب " الكافي " للكلينيّ طافحة بنصوص التحريف لكتاب الله العزيز بالنقص والتغيير. واختلقوا مئات الروايات التي تثبت - كذبا- تحريف القرآن الكريم -حاشاه- وقد قال تعالى : " إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون ".

: - اللجنة العلمية

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اعلم أخي القارئ الكريم أنّ الجواب عمّـا ورد في هذا السؤال يحتاح إلى بيان عدّة أمور:

الأمر الأوّل: النصّ على الإمام أعمّ من النصّ القرآنيّ والنبويّ والمولويّ:

دلّت البراهين العقليّة والنقليّة على لزوم الحجّة الإلهيّة في الأرض، سواء كان نبيّاً أم رسولاً أم وصيّاً أم إماماً، فالإمامة منصب إلهيّ كما هو في النبوّة، وإذ كان منصباً إلهيّاً فيلزم أن يكون بالتنصيب الإلهيّ، لا بالتنصيب الشعبيّ، والتنصيب الإلهيّ يُعلَـم بالنصّ أو المعجز، كما هو مقرّر في الكتب الكلاميّة في كيفيّة معرفة النبيّ.

والنصّ أعمّ من النصّ القرآنيّ والنصّ النبويّ والنصّ المولويّ؛ وذلك أنّ النصّ كاشف عن اختيار الله تعالى لهذا الإنسان لأن يكون إماماً، فلا فرقَ بين أن يكون ذلك بتنصيص الله تعالى عليه في كتابه الكريم، أو تنصيص النبيّ الأكرم في حديثه الشريف، أو تنصيص الإمام السابق، فكلّ ذلك كاشف عن اختيار الله تعالى.

وبهذا يتبيّن: أنّه لا ضرورة أن يكون الإمام منصوصاً عليه بالنصّ القرآنيّ أو النصّ النبويّ، بل يكفي النصّ ولو كان من الإمام السابق؛ لأنّ نصّ الإمام السابق يكشف عن اختيار الله تعالى أيضاً.

الأمر الثاني: شمول النصّ القرآنيّ للاسم والصفة:

يرى أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) أنّ الله تعالى نصّ على الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) - الذين هم خلفاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) – في القرآن الكريم، وهذا التنصيص القرآنيّ أعمّ من التنصيص على الاسم الشريف أو الصفة والعلامة، فإنّ القرآن الحكيم نصّ على جماعةٍ بذكر أسمائهم الصريحة كإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) ومحمّد (صلّى الله عليه وآله) وغيرهم، كما نصّ على جماعةٍ بذكر صفتهم وعلامتهم من دون ذكر أسمائهم كالخضر (عليه السلام) وأصحاب الكهف (رضوان الله عليهم) وغيرهم، فهؤلاء مذكورون في القرآن الكريم بأوصافهم وعلاماتهم وإنْ لَـم تُذكر أسماؤهم صريحاً، وتُعلَم أسماؤهم بتفسير وتأويل العالمين الراسخين في العلم.

وأهل البيت (عليهم السلام) مذكورون في القرآن الكريم بأوصافهم وعلاماتهم، كآية التطهير وآية المباهلة وآية الولاية وآية كمال الدين وغيرها من الآيات الكريمة، فإنّ هذه الآيات وإنْ لم تصرّح بذكر الأسماء المباركة لأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، لكنّها ذكرت أوصافهم وعلاماتهم ونزلت في حوادث محتفّة بأحاديث وأخبار وقرائن تفيد العلم بنزولها في شأن أهل البيت (عليهم السلام) وأنّها تدلّ على إمامتهم وولايتهم على الأمّة.

فالشيعة الإماميّة عندما يذكرون الآيات القرآنيّة في ضمن أدلّة إمامة الأئمّة (عليهم السلام) يقصدون النصّ على أوصافهم وعلاماتهم، والتي يفسّرها الأحاديث الشريفة والآثار المنقولة عن الصحابة، والقرائن الحاليّة والمقاليّة المكتنفة لنزول الآيات، وتلك هي مصنّفاتهم الكلاميّة وكتبهم العقديّة لترى ذلك جليّاً، والملاحظ فيها أنّهم يستندون إلى الأحاديث المرويّة من طرق ومصادر غير الإماميّة لأنّ ذلك أشدّ إلزاماً وأقوى حجّةً.

ولا تجدهم يذكرون في هذه الكتب أنّ المعصومين (عليهم السلام) ذُكرَت أسماؤهم صراحةً في القرآن الكريم؛ إذْ لا ضرورة لأن تُذكَر أسماؤهم صراحة فيها؛ لأنّ العقل والعقلاء كما يرون (النصّ) حجّة كذلك يرون (الظاهر) حجّة أيضاً، ألا ترى أنّ قول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} دليل على وجوب إقامة الصلاة مع أنّه ليس نصّاً في الوجوب لاحتمال إرادة الاستحباب، وإنّما هو ظاهر في الوجوب، والظهور حجّة كما أنّ النصّ حجّة، كذلك يرون (الحجّة البسيطة) و(الحجّة المركّبة)، وأيضاً يرون (الدلالة التضمّنيّة) و(الدلالة الالتزاميّة) حجّتين كما أنّ (الدلالة المطابقيّة) حجّة، وكذلك (دلالة الاقتضاء وأخواتها)، فلا يقصرون الحجّيّة على (النصّ) و(الدلالة المطابقيّة)، فقولك: (زيد كثير الرماد) إخبار عن كثرة رماد زيد، ولكن هذا المعنى ليس مراداً بل هو وسيلة للإخبار عن معنى آخر، وهو جود زيد وكرمه، وقد ذكروا: أنّ الكناية أبلغ من الإفصاح، والتعريض أوقع من التصريح.

وقد ذكرنا في جوابٍ سابق عدّة أجوبةً عن سؤال: (لماذا لَـم يُصرَّح باسم الإمام عليّ والأئمّة من ولده (عليهم السلام) في القرآن الكريم؟)، يمكن مراجعته.

الأمر الثالث: أحاديث التحريف غير تامّة سنداً أو دلالةً:

إنّ الأحاديث الواردة عند الإماميّة التي يُزعم دلالتها على تحريف القرآن الكريم وقع فيها كلامٌ كثير عند المحقّقين، وخلاصة الكلام فيها – بعد جميعها وسبرها وتحقيقها سنداً ودلالةً -:

أنّ جميعها تدور بين ضعف الصدور وضعف الدلالة؛ وذلك أنّ جملة منها منقولة من مصادر غير معتبرة عند الإماميّة، أو منقولة عبر الرواة الضعفاء والمجهولين، ولا يخفى أنّ ذلك يضرّ في حجيّة صدورها، وأمّـا الأحاديث التامّة سنداً فهي لا تدلّ على تحريف النصّ القرآنيّ، وإنّما هي في مقام بيان مصداق الآية وتأويلها، وأنّ التحريف قد وقع في تأويل الآية الكريمة؛ وذلك أنّ الله تعالى عندما كان ينزل الآيات القرآنيّة على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان ينزل معها تأويلها وتفسيرها، يعني أنّ المُنزَل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هو أمران: (النصّ القرآنيّ) الذي هو متن القرآن المجموع بين الدفّتين، و(تأويل النصّ القرآنيّ) وهو تفسير الآيات وتأويلها وبيان معانيها وغير ذلك.

فـ(تأويل القرآن) مُنزَل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، كما هو حال (نصّ القرآن)، فكلاهما نزل بهما جبرئيل (عليه السلام) على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، غاية الأمر أنّ (النصّ القرآنيّ) هو متن القرآن الذي له أحكامه الشرعيّة الخاصّة كتلاوتها في الصلاة وغير ذلك، في حين أنّ (تأويل القرآن) هو حواشي على النصّ القرآنيّ، لبيان معانيه وكشف مضامينه، ويمكن أن تُوزَن وزان (الأحاديث القدسيّة)، إلّا أنّها مرتبطة بالنصّ القرآنيّ.

فجملة من الأحاديث الدالّة على التحريف إنّما تدلّ على (تحريف تأويل القرآن)، لا (تحريف نصّ القرآن)، يعني أنّ الآية الكريمة نزلت بهذا النصّ المدوّن في المصحف المجموع بين الدفّتين، إلّا أنّ تأويلها وتفسيرها قد حُرِّف، وذلك أنّ تأويلها المنزَل في أهل البيت (عليهم السلام)، ولكن عمد الضالّون المحرِّفون لتحريف معنى الآية وتأويلها وجعلها في غير أهل البيت (عليهم السلام)، فهذا يُعـدّ تحريفاً للقرآن، ولكن لا لنصّه ومتنه، بل لتأويله ومعناه.

وتحريف معاني الآيات القرآنيّة أمرٌ واقعٌ بلا مرية؛ وأوضح شاهد: كثرة التفاسير عند المسلمين، فإنّ التفاسير مختلفة فيما بينها في بيان معاني الآيات الكريمة، وهذا الاختلاف يعني أنّ بعضها صحيح وبعضها باطل، وهذا البعض الباطل تحريف للمعنى الصحيح للآيات الكريمة كما هو واضح، وللاستزادة يمكن مراجعة الأجوبة التي كتبناها حول شبهة (تحريف القرآن عند الإماميّة).

ويتبيّن مـمّا سبق: أنّ جميع ما ورد في السؤال غلط واشتباه:

أمّـا قوله: (من غلوّ الشيعة في الأئمّة ادّعاء وجود النصّ عليهم في القرآن الكريم)، فهو غلطٌ واضحٌ؛ لأنّه وإنْ أراد بالغلوّ المعنى اللّغويّ وهو تجاوز الحدّ، فإنّ دعوى الشيعة وجود النصّ القرآنيّ على الأئمّة (عليهم السلام) ليس من الغلوّ أصلاً؛ لأنّ المسلمين قاطبة يقرّون بنزول آيات كثيرة في أهل البيت (عليهم السلام)، كآية التطهير وآية المباهلة وآية الولاية وغيرها، ولا يمكن لمسلمٍ إنكار نزولها فيهم إلّا أن يكون ناصبيّاً منافقاً.

وقول الشيعة بوجود النصّ على أهل البيت (عليهم السلام) يشمل التنصيص على أوصافهم وعلاماتهم المفسَّرة بأحاديث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وآثار الصحابة، وليس مقصوراً على التنصيص على أسمائهم المباركة.

وأمّـا قوله: (ولمّا لم يجدوا هذه النصوص في القرآن الكريم الذي بين يدي المسلمين لم يكن أمامهم إلّا الادّعاء بتحريف القرآن الكريم خدمة للمذهب) فهو غلطٌ أيضاً؛ لأنّ المذهب الرسميّ للشيعة الإماميّة (أنار الله برهانهم) هو القول بصيانة القرآن الكريم من التحريف، والشيعة يرون التنصيص على الأئمّة (عليهم السلام) بآيات عديدة كآية الولاية، ولَـم يدّعوا لزوم التنصيص عليهم بالاسم الصريح في نصّ القرآن الكريم، وتلك هي المدوّنات العقديّة لعلماء الطائفة، تستدلّ بآيات من المصحف الذي يتداوله المسلمون، وليس من مصحف خاصّ.

وأمّـا قوله: (وأصبحت مصنّفاتهم وعلى رأسها كتاب " الكافي " للكلينيّ طافحة بنصوص التحريف لكتاب الله العزيز بالنقص والتغيير. واختلقوا مئات الروايات التي تثبت - كذبا- تحريف القرآن الكريم -حاشاه- وقد قال تعالى : " إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون ")؛ فقد تبيّن أنّه غلطٌ أيضاً؛ لأنّ جميع الأحاديث التي يُدّعى دلالتها على التحريف لا تخلو: إمّـا أنّها ضعيفة السند مرويّة من مصادر غير معتبرة أو أسانيد غير موثوقة، وإمّـا أنّها لا تدلّ على تحريف النصّ القرآنيّ، وإنّما هي في صدد بيان تحريف معنى النصّ القرآنيّ لا النصّ القرآنيّ نفسه كما ذكرنا سابقاً.