هل الأديان صناعة بشريّة لسدّ حاجاتها الحياتيّة؟

السؤال: لو تأمّلنا في كلّ الديانات التي اعتنقها الإنسان الكونيّ لاتّضح لنا جليّاً أنّ معظمها أتت لتلبّي حاجاته ومصالحه أو ملئ فراغ أو للتغطية عن نقائصه. وأنصار الماديّة يقولون: إنّ الإسلام وُجد ليلبّي حاجات المسلمين الذين كانوا يعيشون بؤساً اقتصاديّاً وطبيعة قاسية. لهذا فهم ابتدعوا فكرة الجنّة، إذْ نجد في وصفها التالي: "تجري من تحتها الأنهار" فبحكم الطبيعة الصحراويّة وغياب منابع المياه جعلتهم يتوقّعون جنّات بها أنهار ومياه عذبة... وأيضاً "حور عين" فبحكم طبيعة الرجل العربيّ وشغفه بالنساء فهو متشوّق للنساء اشتياق الظمآن للماء، وهذا ما جعله دائم التفكير فيهنّ ولو حتّى في الجنّة.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

أنّ التأمّل في الأديان كحقيقة راسخة ومتجذّرة في الواقع الإنسانيّ لا يمكن أنْ يقودَ إلى افتراض كونها مجرّد وهم أوجده الإنسان لسدّ حاجاته الحياتيّة؛ بل العكس تماماً؛ فإنّ التأمّل العقليّ والتفكير المنطقيّ والتحليل العلميّ هو الذي يقود إلى القول: إنّ الأديان حقيقة أصيلة لا تستقيم حياة الإنسان من دونها.

فالأديان ليست ظاهرة عابرة فرضتها الظروف في لحظة تاريخيّة معيّنة، وإنّما حقيقة ملازمة للإنسان وموجودة بوجوده في كلّ الأزمان والظروف، أي أنّ الإنسان متديّن بفطرته، وحاجته للدين ملازمة لوجوده ملازمة الروح للجسد، ويمكننا التعبير بالقول: إنّ الدين حقيقة وجوديّة حتميّة قائمة على فلسفة الخلق والإيجاد، والعلاقة التي تربط بين طرفين، أحدهما خالق، والآخر مخلوق، هي التي تُفسِّر لنا وجود الدين كحالة حتميّة، وبعبارة اُخرى؛ إنّ الدين هو إدراك عميق للإنسان لذاته وشعوره الدائم بالمخلوقيّة.

فالبداية الحقيقيّة لنشأة الأديان تبدأ بالدافع الفطريّ والعقليّ الذي يدفع الإنسان للبحث خارج الطبيعة عن الله الخالق، ولا يعني هذا أنّ الإنسان سيهتدي بالضرورة إلى الإله الحقّ، وإنّما يكفي إحساسه به، وبعد ذلك إمّا أنْ يتّبع الأنبياء فيهتدي إلى الدين الحقّ، وإمّا أنْ يختار لنفسه إلهاً ويصنع لنفسه ديناً، بل حتّى اللادينيّ لا يخرج عن هذه المعادلة؛ فرفضه لفكرة الإله وكفرانه بها هي شكل من أشكال استبدال الذّات بالمطلق، أو هي حالة تمرّد داخليّ على ذلك الإحساس الذي يشعره بالفقر والحاجة إلى سلطة غيبيّة، فعوضاً عن أنْ يخضع لها، نجده يعمل على تعظيم ذاته في محاولة لطرد ذلك الإحساس الذي يلاحقه.

وبكلمة مختصرة: إنّ حقيقة الدين هو تطلّع الإنسان نحو الغيب والارتباط به وجدانيّاً وسلوكيّاً.

وعليه، فإنّ الأديان ترتكز على مبرّرات فطريّة وعقليّة لا يمكن إهمالها وتجاهلها، فاضطرار الإنسان إلى معرفة مَنْ أوجده من جهة، وحاجته إلى الكمال من جهة أخرى، وتطلّعه إلى مصير الحياة ومستقبلها المجهول من جهة ثالثة، يحتّم عليه التطلّع إلى الغيب والبحث خارج حدود المادّة، وهذا النوع من الوعي المتساميّ عن المادة والمترفّع عن الحسّ، يمثّل جانب الإشراق في الإنسان.

فإهمال الإنسان لعالم الحسِّ - في ما يتعلّق بسبب الوجود - والبحث عمّا وراء المادة لهو دليل علمٍ وتعقّل، لا دليل جهلٍ وعجز.

والذي يؤكّد ذلك أنّ أبجديات التفكير العقليّ تقود الإنسان في أوّل مراحل تفكيره إلى السؤال عن علل الأشياء وغاياتها، وهو سؤال العقل الأوّل؛ بل العقل ليس شيئاً آخرَ غير هذا السؤال.

فكون الإنسان عاقلاً هو معنى آخر لكون الإنسان متسائلاً عن فلسفة الأشياء وغاياتها.

والإنسان هو الموجود الوحيد الذي يعي وجوده ووجود ما حوله، والوعي ليس شيئاً آخر غير الاستفسار عن الشيء في حقيقته ومصدره وغايته، فقولنا: ما هذا؟ ومن أين أتى؟ وإلى أين؟ تمثّل أبجديات الفكر البشريّ.

والذي يفترض ضرورة أنْ تكون الأجوبة حسيّة، يتغافل عن كون الأسئلة في شقّها الاكبر غير حسيّة، فالسؤال عن العلّة لا يقف عند حدود العلّة المباشرة وإنّما يتجاوزها حتّى يصل إلى العلّة الأولى، والسؤال عن الغاية لا يقف عند الغاية المحسوسة؛ لأنّها لا تشبع طموح الإنسان وتطلّعه.

ويقول شاشاوان: مهما يكن تقدّمنا العجيب في العصر الحاضر... علميّاً، وصناعيّاً، واقتصاديّاً، واجتماعيّاً، ومهما يكن اندفاعنا في هذه الحركة العظيمة للحياة العمليّة، وللجهاد والتنافس في سبيل معيشتنا ومعيشة ذوينا، فإنّ عقلنا في أوقات السكون والهدوء – عظاماً كنّا أو متواضعين، خياراً كنّا أو أشراراً - يعود إلى التأمّل في هذه المسائل الأزليّة: لما وكيف كان وجودنا ووجود هذا العالم؟ وإلى التفكير في العلل الأولى أو الثانية، وفي حقوقنا وواجباتنا؟) [عبد الله دراز، الدين بحوث ممهدة لدراسة لدراسة تاريخ الأديان، ص 83].

ويقول الفيلسوف ريتشارد سوينبرن في مقام توضيح ما يقوم به الدين تكميلاً للعلم: (عندما أتحدّث عن الإله، فإنّني لا أطرح إلهاً ليسدّ الثغرات التي لم يجب عنها العلم حتّى الآن، فأنا لا أُنكر قدرة العلم على استكمال التفسير. ولكنّني أطرح الوجود الإلهي لأفسِّر لماذا صار العالم قادراً على التفسير؟) [خرافة الإلحاد ص 70].

وفي المحصّلة، لا يمكن قبول تفسير نشوء الأديان بحاجات الإنسان الحياتيّة أو بجهل المجتمعات بالأسباب الطبيعيّة للظواهر، بل الدين ظاهرة أصيلة وجدت بوجود الإنسان وسوف تستمر بوجوده.

ففطرة الإنسان وتطلّعه الدائم للغيب يمثّل البنية التحتيّة لكلّ الأديان.

وظاهرة الأنبياء والرسل (عليهم السلام) هي التي تلبّي للإنسان هذا التطلّع، ومن دونها لا يبقى الإنسان بلا دين وإنّما سوف يضطر إلى صنع دين لنفسه.