أين العقلانية في تقديس المسلمين للحجر الأسود؟

السؤال: لو سألت المسلمين: ما السبب الذي يدعوكم لتقديس حجر مهترئ كالحجر الأسود؟ لَـمَا استطاعوا إجابتك.. ربّما إذا أراد أحدهم أن يتستّر على هذا الشيء اللاعقلانيّ الذي يقوم به لقال لك: (خالق الكون أمرنا بذلك)، ولماذا يأمرك خالق الكون بالدوران حول حجر، وإضاعة جهدك ومالك على فعل لا يقوم به شخص عاقل؟! هذا نفس التبرير الذي يستخدمه الهندوس لتقديس البقر، فهم يفعلون ذلك لأنّ الآلهة تريد ذلك، أي يبرّرون اللاعقلانيّة بنفس طريقة تبريرك، فلا فرق بينك وبينهم، هم يقدّسون البقر وأنت تقدس الحجر!

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

العقلانيّة التي يُطالِب بها المعترضُ هي العقلانيّة الماديّة التي تجعل الحواسَّ طريقاً حصريّاً للتعقّل، ونحن لا نسلّم بهذه العقلانيّة إذا أُرِيد لها أن تكون السبيل الوحيد لمقاربة جميع الحقائق؛ وذلك لأنّ حبسَ العقل في حدود الحسّ والمادّة جريمةٌ في حقّ الإنسان والعقل معاً، فقيمة العقل في إدراك عمق الحياة لا في معرفة ظاهرها، وقيمة الإنسان بأن يعيش في ذلك العمق لا في ظاهر السطح.

والتفكير الذي يهمل الإنسانَ في جانبه الروحيّ والمعنويّ يعمل حتماً على تجريد الحياة من غاياتها وأهدافها، ولا نعني بذلك أن يستغرق العقل في جانب الإنسان الروحيّ بعيداً عن جسده، فهو ليس مادّة بحتة حتّى يكون رهينة لمعادلات الأسباب والمسبّبات، وليس روحاً مجردّة لكي يحلّق بعيداً عن عالم المادّة.

فلا الفكر الماديّ الذي جعل الإنسان جسداً بدون روح، ولا الفكر الصوفيّ الذي جعله روحاً بلا جسد اقتربا من حقيقة الإنسان وجوهره.

فالإنسان في حقيقته كائن مركّب: قبضة من الطين ونفخة من الروح، فانتمى إلى الأرض من جهة الطينة، وانتمى إلى السماء من جهة تلك النفخة، يعيش على الأرض ولكنّه في حالة من التطلّع الدائم إلى عالَـم الغيب والمعنى، فلا يحكم الإنسانَ ميل أو اتّجاه واحد، وإنّما ينجذب إلى الأرض التي يعيش فيها بجسده، ويتطلّع إلى السماء التي ينتمي إليها بروحه، وعندما تتّزن علاقة الروح بالجسد يتّزن الإنسان وتتّزن معه الحياة، فيندفع في رحاب الحياة ليسخّر كلّ ما فيها فيكسب بذلك جسده، ويتطلّع بروحه إلى عالم الغيب ليعيش المعنى والقيم والكمال فيكسب بذلك إنسانيّته.

ومن هنا، نحن لا نسلّم لعقلانيّة العقل التجريبيّ التي يطالبنا بها السائل، فالعقل الذي أُريد له أن يكون متعارضاً مع الدين، هو العقل الوضعيّ أو العقل التجريبيّ.

وبما أنّ الدين في أصوله العقائديّة يرتكز على حقيقة غيبيّة، فمن الطبيعي أن لا يكون خاضعاً للعقل التجريبيّ، والإصرار على ذلك لا يكون مجحفاً في حقّ الدين فحسب، وإنّما يكون مجحفاً في حقّ العقل أيضاً.

فكما أنّ للعقل القدرة على إدراك الحقائق الحسيّة والماديّة، له القدرة أيضاً على إدراك الحقائق المعنويّة والغيبيّة. وإذا كان العقل يتعامل مع المادّة في حدود التجربة والمختبر، فإنّ العقل يتعامل مع غير الماديّ في حدود البرهنة والاستنباط والتفكير المنطقيّ. والعقل الذي يثق في نتيجة التجربة والمختبر إذا اكتملت شروطها الطبيعيّة، يثق أيضاً في البرهان والاستنباط والاستنتاج إذا اكتملت شروطه العقلانيّة. وإذا كان نظام التصديق بالحقائق الماديّة هو المطابقة مع الواقع، فإنّ نظام التصديق بالحقائق غير الماديّة هو المطابقة مع الحقائق الفطريّة، وهذه الحقائق الفطرية لها من الوضوح والظهور أكثر ممّا للحسّ من ظهور، فالبديهيّات والحدس الذي يعتمد عليها العقل التجريبيّ أكثر ظهوراً من التجربة نفسها.

وإذا اعترف الإنسان بهذه البديهيّات، فمن السهل عليه الاعتراف بوجود أصول للغيب في فطرة الإنسان، وقد اعترف بعضُ مفكّري العلمانيّة بذلك، ففي كتاب [العلمانية والدين ص251] لعزمي بشارة يقول: (فهل هناك بنيةٌ ذهنيّةٌ تزرع في العالم شعورَ الإنسان باللامحدود واللانهائيّ والكلّيّ القدرة والعظيم والمرهوب، وتجعل هذه كلّها شعوراً غامضاً بالقداسة؟ ربّما توجد مثل هذه البنية في العواطف الإنسانيّة، لِـمَ لا؟ الواضح أنّ افتراض وجودها يفسر الكثير). فالنزعة الحسّيّة التجريبيّة نزعة متطرّفة، وقد تجاوزتها الفلسفة الغربيّة بعد أن كانت مبهورة بها كثيراً.

ومن الصعب هنا أن نفصّل في هذه المسائل المتعلّقة بنظريّة المعرفة، ولذا نكتفي بالإشارة إلى ما أحدثه الفيلسوف وعالم الاجتماع دوركايم في كتابه (الأشكال الأوليّة للحياة الدينيّة)، والذي انتهى من إعداده 1912م قبل رحيله بخمسة سنوات.

ويبدو أنّ السائل متأثر بنظريّة دوركايم التي اعتبر فيها الدين أو المقدّس - بحسب تعبيره - هو صناعة المجتمع، وبالتالي يقوم الفرد بالطقوس الدينيّة تقليداً للمجتمع فقط، فوجود أيّ دين هو حاجة اجتماعيّة ولا علاقة له بوجود خالق، أو وجود مقدّس في الحقيقة والواقع، أو وجود مبرّر عقلانيّ، وإنّما الدين هو صناعة مجتمعيّة وحسب.

وقد استخلص دور كايم نظريّته من دراسة الدين في المجتمعات البدائيّة ذات الطابع الطوطمي، مثل قبائل استراليا، وقد قدّم لذلك ببحث نظريّ عن المقدّس؛ ليصل إلى أنّه ليس أمراً مفارقاً للسياق الاجتماعيّ، بل هو أمر عاديّ بطبعه إلّا أنّ المجتمع هو الذي جعله مقدّساً، فيقول: (يصير الإنسان أو الحيوان أو الجماد، مشوباً بالقداسة في الوقت الذي يمرّ فيه داخل دائرة مغايرة لعالم الدناسة.

فالمقدّس هو اجتثاث جلي للأشياء من هذا العالم مقدراً لها أن تلعب وظائف غير مدنسة. المقدّس هو شيء من العالم الدنيويّ امحيت طبيعته الأولى وتغيّرت ملامحه تحت رغبة البشر أنفسهم. فالناس هم منتجو المقدّس، مثل آلهتهم، ثمّ يقدرون أنّ ذلك الشيء أو تلك الأشياء باتت مستقلّة عن إرادتهم؛ يصير المعتاد خارقاً، وبالتالي يمكن للمعتاد نفسه أن يدّعي تضمّنه لمكوّن علويّ لا يُعلَى عليه، وغير قابل للتجاوز) [علم المجتمع الدينيّ الإشكالات والسياقات، الدكتور سابينو أكوافيفا، بالاشتراك مع الدكتور إنزو باتشي، ترجمة د عز الدين عناية، ص37].

واستنتاجات دوركايم اعتمدت على رصد الرموز الدينيّة عند القبائل البدائيّة، والذي يبدو أنّه قام برصدها ودراستها من زاوية تحتيّة، أي من خلال تعلّق الناس بالرموز وإضفاء المقدّس عليها، فظنّ أنّ فكرة المقدّس هي فكرة اجتماعيّة بحتة، ولَـمْ يلحظ دوركايم تلك الرموز من زاوية فوقيّة، وهي الزاوية التي تنظر للمقدّس بوصفه حقيقة مطلقة ومجردّة، وإحساس الإنسان بتلك الحقيقة إحساس فطريّ متأصّل فيه، والإنسان في سعيه لذلك المقدّس والمطلق ابتدع رموزاً وطقوساً ظنّاً منه أنّها تشكّل نوعاً من الصلة بينه وبين ذلك المطلق، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، فالهندوسيّ الذي يقدّس البقرة إنّما يقدّسها بوصفها تجلّي لذلك المطلق، فالهندوسيّ في تقديسه للبقرة لا ينظر لشكلها الماديّ، وإنّما ينظر إليها على أنّها رمز يدلّ على الإله.

والسؤال هنا: هل إحساس الإنسان بالمقدّس إحساس نابع من ضرورة عقليّة وفطريّة، ثمّ تأتي الرموز والطقوس كتعبير عن ذلك الشعور؟ أم أنّ الإنسان يوجِد لنفسه رموزاً وطقوساً، ثمّ بعد ذلك يولّد شعوراً بالمقدّس؟

ومن الواضح أنّ وجود الدافع لابدّ أن يكون سابقاً، ومن هنا يمكننا أن نقول: إنّ الدافعَ نحو الدين والتديّن دافعٌ متأصّل في عقل وفطرة الإنسان، أمّا أشكال ومظاهر التديّن فهي تختلف باختلاف الظروف والبيئة. وقد وصف سان كلود ذلك بقوله: (يمكن للمقدّس أن يُظهِر نفسه في حجارة أو أشجار.. أنّه لا يتعلّق بتمجيد حجر أو شجرة بذاتها. فالحجر المقدّس والشجرة المقدّسة لم يُعبَدا بصفتهما تلك، وإنّهما ليسا موضع عبادة فعلاً لأنّهما تجلّيان، ولأنّهما يُظهِران شيئاً ما ليس هو لا حجر ولا شجرة، وإنّما الكائن المطلق) [المقدس والمدنس، مرسيا إلياد، ترجمة عبد الهادي عباس، ص 17].

وفي هذا السياق نفهم ضرورة النبوّة والرسالة، فإذا كان الدين ضرورة حتميّة بما يمثّله من حاجة وجوديّة، فإمّا أن يتكفّل الإله بإخبار البشر عبر الأنبياء والرسل بالدين الصحيح، وإمّا أن يصنعه الإنسان لنفسه باجتهاده الخاصّ وبحسب ظرفه التاريخيّ، ولذا كان بعث الانبياء تعبيراً عن حاجة أصيلة في الإنسان.

والفرق الجوهريّ بين الأديان السماويّة والأديان الأرضيّة: هي أنّ الأديان السماويّة تعبير صادق عن ذلك المقدّس الذي يشعر به الإنسان في عمق كيانه ووجوده، في حين أنّ الأديان الأرضيّة هي تعبير مشوّه وكاذب عن تلك الحقيقة. وفي هذه النقطة يمكن الاستعانة بجميع الأدلّة والبراهين التي تمّ طرحها في علم الكلام عن ضرورة النبوّة والرسالة، وما يستدلّ به في صدق دعواهم.

وفي المحصّلة: المقدّس في الإسلام بالحقيقة وبالذات هو الله تعالى وحده، وما دونه يكون مقدّساً بالتبع لارتباطه بالله تعالى مثل الأنبياء والكتب السماويّة والعبادات والتشريعات وغير ذلك.

ومن هنا، نحن لا يمكن أن نفهم قداسة الحجر الأسود بشكل مجرّد ومنفصل عن السياق الذي جُعل فيه الحجر الأسود مقدّساً، وهو الإيمان بالله وبما جاء به الأنبياء وبالحقائق الغيبيّة التي تمّ كشفها لنا عن طريقهم، فالذي يكذّب بالله وبرسله لا يمكن مناقشته حول قداسة الحجر الأسود.

ولا يمكن للسائل مطالبتنا بالعقلانيّة وفي نفس الوقت يتجاهل ما تقضيه العقلانيّة من تسلسل في التفكير، وترابط في منطق الاستدلال، وترتيب المقدّمات للوصول للنتائج، كما أنّ الذي يطالب بالتفكير العقلانيّ يجب أن يبتعد عن المقارنات التي تقف عند حدود الشكل والمظهر، فما أوجده من مقارنة بين قداسة الهندوس للبقرة وقداسة المسلمين للحجر ليس إلّا مقارنة طفوليّة لا تفهم الأشياء إلّا في حدود شكلها الظاهري، بينما مقارنات العقلاء لا تهمل السياق الموضوعيّ الذي جعل البقرة مقدّسة عند الهندوس وجعل الحجر الاسود مقدّساً عند المسلمين، وتباين هذه السياقات كافٍ لجعل هذه المقارنة مستحيلة.