أسطورة سحر النبي (ص)

السؤال: سلام عليكم يقول السنه أنّ الشيعة يكذبون علينا في قضية أنّ النبي (ص) وقع عليه السحر، فالسنة يثبتون فقط سحر النبي (ص) في جانبه البشري لا النبوي، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ} هذه الآية تدلّ على أنّ النبي (ص) له جانبان بشري ونبوي، والسحر الذي يثبته أهل السنة متعلق بالنبيّ (ص) كبشر وليس كرسول ونبيّ، أمّا قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا} هذه الآية وجميع الآيات التي تنفي السحر عن النبي (ص) تنفي عنه السحر في جانبه النبوي وليس البشري، فالنبي (ص) بشر مثلنا يعطش ويجوع ويمرض....هل هذا الكلام صحيح ؟ وماردكم عليه؟ وشكراً.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

احتاج البعض إلى كلّ هذه التبريرات خوفاً من تكذيب الحديث الذي انفردت عائشة بروايته، وأخرجه البخاريّ ومسلم في صحيحيهما. ومن الواضح أنّ هذه المحظورات ليست إلّا حواجز وضعها القوم دون مبرر شرعيّ أو عقليّ، فإذا دار الأمر بين التشكيك في رسول الله (ص) بسيطرة السحر عليه وبين التشكيك في الرواية فإنّ التشكيك في الرواية هو الأولى، وخاصّة أنّ الرواية لم تكن على لسان النبيّ (ص)، أي لم نرَ حديثاً واحداً يتحدّث فيه النبيّ (ص) عن نفسه بأنه قد سُحِرَ، فالموجود هو شهادة عائشة وحدها على واقعة السحر، ولا تُقبل شهادة الواحد على أمرٍ من المفترض أن يكون ظاهراً للجميع، فإذا كان النبيّ (ص) سحر لعدّة أيام أو لستّة أشهر أو لسنة - كما في بعض الأخبار -، فلماذا لَـم ينقل لنا هذا الحدث غير عائشة؟

وبالتالي الحادثة في حقيقتها إخبار عن واقعة من طرف واحد، ولَـم يدعم حدوث تلك الواقعة أيُّ شاهد آخر، سواء من بقيّة زوجات النبيّ (ص) أو أصحابه، والسؤال المنطقيّ: كيف اكتشفت عائشة سحر النبيّ (ص) ولَـم يكتشفه بقيّة زوجاته وخواصّ أصحابه؟

والذي يبدو أنّ حادثة السحر لم تكن حادثة سرّية ومخفيّة، فعندما أخبر اللهُ تعالى رسولَه بالبئر التي وُضِعَ فيها السحر أحضر معه جمعاً من أصحابه إلى تلك البئر، وقال عنها: « كأنّ ماءها نقاعة الحناء، أو كأنّ رؤوس نخلها رؤوس الشياطين » [صحيح البخاري: 5/ 2174]، ومع ذلك لَـم نرَ واحداً من ذلك الجمع نقل لنا هذا الحدث العظيم، ويضاف إلى ذلك: أنّ النبيّ (ص) أمر بهدمها وردمها، وهو أمر يحتاج إلى عدّة ساعات إنْ لم يكن عدّة أيام.

وعليه، لا يمكن التكتّم على مثل هذا الحدث، ولا يمكن إنجازه في الخفاء، وخاصّة أنّ البئر في تلك الفترة التاريخيّة تعتبر منشأة استراتيجيّة، ولا بدّ أنّها كانت مصدراً مهمّاً للمياه لمجموعة من أهل المدينة، فكيف تهدم وتردم ولسبب غريب جدّاً وهو وجود سحر للنبيّ (ص) في داخلها؟ ومع ذلك لم نجد مَن يخبر عن ذلك غيرُ عائشة الموجودة داخل دارها؟

فالطبيعيّ أن يشهد هذا الحدث جمع من أهل المدينة، والطبيعي أيضاً أن يكون مادّة خصبة للحديث وتناقل الأخبار بين أهل المدينة، ومع ذلك لـم يتحدّث أيّ واحد منهم عن ذلك.

وإذا رجعنا لنصّ الرواية في صحيحي البخاريّ – واللفظ له - ومسلم نجدها كالتالي:

عن عائشة قالت: « سَحر رسولَ الله رجلٌ من بني زريق، يُقال له: لبيد بن الأعصم، حتّى كان رسول الله يخيّل إليه أنّه كان يفعل الشيء وما فعله، حتّى إذا كان ذات يوم - أو ذات ليلة - وهو عندي، لكنّه دعا ودعا، ثمّ قال: يا عائشة، أشعرتِ أنّ الله أفتاني فيما استفتيتُه فيه، أتاني رجلان، فقعد أحدُهما عند رأسي والآخر عند رجليَّ، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب، قال: مَن طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أيّ شيء؟ قال: في مشط ومشاطة، وجفّ طلع نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان، فأتاها رسول الله في ناس من أصحابه، فجاء فقال: يا عائشة كأنّ ماءها نقاعة الحناء، أو كأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين، قلت: يا رسول الله، أفلا استخرجته؟ فقال: قد عافاني الله، فكرهت أن أثوِّر على الناس فيه شرّاً، فأمر بها فدفنت » [صحيح البخاري: 5 / 2174]

وفي روايةٍ للبخاريّ عن عائشة: « كان رسول الله سُحِر، حتّى كان يرى أنّه يأتي النساء ولا يأتيهنّ - قال سفيان: وهذا أشدّ ما يكون من السحر إذا كان كذا - ، وفي رواية قالت: مكث النبيّ - صلى الله عليه [وآله] وسلم - كذا وكذا يخيّل إليه أنّه يأتي أهله ولا يأتي » [صحيح البخاري: 5 / 2175]

ومن الواضح أنّ قبول هذا الخبر يتعارض مع شهادة القرآن بعصمة النبيّ (ص) عن السحر مطلقاً، قال تعالى في سورة الإسراء: نحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى، إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا، انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً.

وقال في سورة الفرقان: وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ، لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا، أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا، وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا، انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً.

والسحر في هذه الآيات جاء مطلقاً، أي يشمل جميع أنواع السحر، ولا وجود لمخصّص يجعل بعض أنواع السحر غير داخل فيها، فعندما اتّهم المشركون والكفّار رسول الله بالسحر كانوا يقصدون سيطرة السحر عليه دون تخصيص لنوع هذا السحر، وهذه السيطرة قد تحقّقت من خلال ما جاء في هذا الروايات، حيث جاء فيها: « حتّى كان رسول الله يخيّل إليه أنّه كان يفعل الشيء وما فعله »، في الرواية الثانية: « حتّى كان يرى أنّه يأتي النساء ولا يأتيهن ».

ولا يمكن أن يقال: إنّ هذه السيطرة كانت في جانب الرسول البشريّ، دون جانبه النبويّ؛ لصعوبة تمييز ذلك بالنسبة لعامّة الناس، فالمسلم مكلّف بطاعة الرسول بشكل مطلق، فإذا أمر الرسول المسلمين أو بعضهم بتكليفٍ ما، هل بإمكانهم معرفة إنْ كان ذلك صدر عن الجانب البشريّ أو النبويّ؟ فإنْ كان صادراً من جانبه النبويّ وخالفوه ظنّاً منهم أنّها من جانبه البشريّ أثِمُوا ووقعوا في مخالفة الرسول، وإنْ كان صادراً من جانبه البشريّ وأطاعوه امتثالاً لأمر الله بوجوب طاعة الرسول حينها يكون الله قد تعمّد إيقاعهم في الجهل والخطأ، وحاشى الله أن يفعل ذلك بعباده.

يقول البعض: إنّ تخيّلَ إتيان الرسول للنساء وهو لم يأتيهن، فعلٌ يتعلّق بأمور الدنيا وليس الدين. وهو قولٌ عجيب وتبرير غريب؛ لأنّ الكلام في قدرة النبيّ (ص) على التمييز بين الحقيقة وبين الخيال، وهو أمرٌ له علاقة بالقدرة الإدراكيّة، ومجرّد التشكيك في هذه القدرة بأيّ مثال كان يُعتبر تشكيكاً في كلّ ما يصدر عنه. وعليه، فإنّ إتيانَ النساء وعدم إتيانهنّ في الرواية مجرّدُ مصداق ومثال لعدم قدرة الرسول على التمييز، ولم يذكر في الرواية على سبيل الحصر، ومن هنا يمكن تعميم هذه الحالة من عدم التمييز على كلّ أمر يحتاج إلى إدراك ومعرفة. والذي يؤكّد عموم هذه الحالة في جميع الأمور: هو ما جاء في الرواية الاخرى: « حتّى كان رسول الله يخيّل إليه أنّه كان يفعل الشيء وما فعله »، فكلمةُ «الشيء» عامّةٌ تشمل جميع الأشياء، وبالتالي لم يكن الأمر محصوراً في إتيان النساء فقط، وإنّما يشمل جميع التصرّفات.

وحتّى لو قلنا: إنّه محصور في إتيان النساء، فلا يخلو أيضاً من تعلّقه بأمور الدين، فعندما كان يعتقد أنّه أتى النساء، هل في هذه الحالة يجب عليه غسل أم لا؟ فإنْ أوجب على نفسه الغسل واغتسل يكون قد أوجب أمراً لم يوجبه الله تعالى؛ وذلك لأنّ الله أوجب الغسل على الجماع الفعليّ وليس مجرّد تخيّله، وإنْ لم يغتسل يكون في نظر نفسه قد خالف أمر الله بوجوب الغسل؛ لأنّه كان يعتقد أنّه أتى النساء.

أمّا إذا قالوا: إنّه كان مُدركاً أنّه لم يأتِ النساء، وبالتالي كان يعلم أن ليس عليه غُسل، أو أنّه كان مدركاً أنّه أتاهنّ، وبالتالي يعلم أنّ عليه غُسل، ففي هذه الحالة تسقط أسطورة سحر النبيّ (ص) إذا اثبتنا له هذه القدرة الإدراكيّة.

ولا يخفى أنّ هناك مناقشات كثيرة لهذه الأسطورة تقتضي ردّها، ونحن نكتفي هنا بما ذكرناه روماً للاختصار.

ونختم ذلك بالقول: إنّ الذي يقول بأنّ النبيّ (ص) مسحور، يكون قد قال بقول الكفّار والمشركين، وقد نعتهم الله في كتابه بالظالمين، والظالم في القرآن الكريم رديف الكافر، فدلّ ذلك على أنّ مَن وصف النبيّ بالمسحور - ولو لحظة واحدة - ظالم كافر.

ولو سلّمنا بأنّ السحر أثّر في الرسول (ص) ستّة أشهر أو أقل - كما قالت الأسطورة -، فهذا يعني أنّ وصف الرسول بالمسحور خلالها وبعدها ليس ظلماً، أي لو أنّ أحداً قال للمسلمين أيّام تأثّر النبيّ بالسحر: إنّكم تتبعون مسحوراً، أو قاله بعد ذلك باعتبار ما كان، لـم يكن ظالماً ولا كافراً، وذلك عين مناقضة كلام ربّ العالمين. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.