هل بالضرورة أن تتطرق الحضارات القديمة للأنبياء؟
سؤال: خزعَل الماجديّ (باحثٌ عراقيّ) يقولُ إنَّ الحضاراتِ القديمةَ المُفترضُ وجودُ الأنبياءِ في عصرِها كالسومريّةِ والأكّاديّةِ وغيرِها ذكرَت تفاصيلَ دقيقةً عن حياةِ البشرِ والحروبِ والمأكولاتِ وغيرِ ذلك ولكنّها لم تتعرَّض لذكرِ الأنبياءِ والرّسل وهذا يدلُّ على أنّهم وهميّونَ ألّفَ قصصَهم بنو إسرائيل بناءً على تراثٍ مسروقٍ مِن مناطقَ أخرى..
الجواب:
ناقَشنا بعضَ مقولاتِ خزعل الماجدي في ردودٍ سابقةٍ ونحن قبل الإجابة لابد من التطرق لمنهج الدكتور الماجدي وقيمته العلمية:
أوّلاً: منهج الدكتور الماجدي:
ينتمي الدكتور الماجدي وكذلك الكاتب السوري فراس السواح لمدرسة الحد الأدنى في دراسة التاريخ Minimalists)) والتي ترفض اعتماد النصوص الدينية كأدلة تاريخية، وهي مدرسة ظهرت أواسط سبعينيات القرن الماضي، متأثرة ببعض مخرجات فلسفة ما بعد الحداثة، بادعاء أن النص لا يمكن استخراج معنى موحد منه.
كما تتسم بانحيازها لمبادئ (الفلسفة العدمية) القائم على هدم المعنى والقيم، والتي تسببت بظهور الإلحاد في القرن التاسع عشر.
في قبال هذه المدرسة هناك مدرسة الحد الأعلى، وهي السائدة بين علماء الأركيلوجيا والآثار، وبحسب هؤلاء يكون النص الديني الموروث من أهم الأدلة التاريخية. وعليه فيكون مذهب الدكتور الماجدي يمثل الأقلية من مؤرخي الحضارات القديمة.
ثانياً: تقييم منهج مدرسة الحد الأدنى:
ان البحث الأركيولوجى يتعامل مع بقايا العمران القديم بعد أن تهدم وضاع منه الكثير مما قد يقود أحياناً الى استنتاجات خاطئة، فالمعروف بين علماء الآثار، إن نسبة المكتشف من آثار السابقين لا تتعدى نسبة 5%، وإن ما تم اكتشافه فعلياً لم تتم دراسته كله ونشر الأبحاث عنه، فمثلاً من بين 25 ألف لوحة نقوش طينية مسمارية من مجموعة ماري/تل حريري لم ينشر حتى الان سوى بضعة آلاف ويقول أحد مشرفي المتحف البريطاني أنه من بين 150 ألف لوحة طينية مسمارية تم فقط أرشفة الثلث.
بل إن الفجوات في الأدلة الأركيولوجية واضحة جداً، فمثلاً إن أورشليم القديمة التي قُتلت بحثاً، ولم يظن أحد إمكان الكشف عن جديد فيها، شهدت كشف مُجمع إداري أثري كامل سنة 2020.
وفي جنوب شرق آسيا إمبراطورية كاملة لا يعرف عنها أحد شيئاً لولا ذكر وجودها في السجلات الصينية القديمة، وفقط في 2023 بدأ العثور على بعض آثارها.
فى ظل كل ما سبق يتضح بجلاء أي لغة وثوقية قائمة على الادعاء بقطعية وشمولية استنتاجات الأبحاث الأركيولوجية، فالمنهج الذي يعجز عن إثبات وجود إمبراطوريات كاملة فهو في إثبات وجود بعض الشخصيات (الأنبياء) أعجز.
جواب الشبهة:
إذا اتضح ما تقدم يتضح جواب الشبهة، فالتفاصيل الحياتية لأي أمة تشمل مساحة بحث كبيرة مكانياً وزمانياً شاملة كل المساحة الجغرافية لتواجد هذه الأمة، وكل الفترة الزمانية والتي تصل الى مئات أو الاف السنين. ومن الطبيعي في هذه الحالة ألا يتم اكتشاف سوى الأواني وعظام الحيوانات وبقايا الطعام الذي كان يمثل "زاد الاخرة" في المقابر بجوار المومياوات.
وهذا يختلف جذرياً عن نطاق البحث عن آثار النبوة والتي تشمل ملاحقة آثار بضعة أشخاص قل أتباعهم ولم يكن لهم سلطان سياسي أو نفوذ أو مناصب الا فيما ندر، بل لفظتهم أقوامهم و كذبتهم في معظم الأحوال، قال تعالى: (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ)، هود 17، وقال أيضاً: (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ)، الأعراف 101.
واتهمتهم أممهم بالسحر والجنون، قال تعالى: (كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)، الذاريات 52.
بل إن ملوكاً مشهورين من قبيل سرجون الثاني، وسنحاريب، تندر النصوص التي تثبت وجودهم، حتى ساد الاعتقاد بأن الملك الأشوري توديا شخصية خرافية إلا أن تم اكتشاف نص يشهد لوجوده.
وإذا كان الملوك الذين هم أكثر الشخصيات سطوة وتأثيراً ونفوذاً والمعظمين والممجدين دائما يمكن أن تضيع أو تندر آثارهم فما بالنا بقلة مستضعفة معارضة كالأنبياء وأتباعهم؟!
فحوليات الملوك والنقوش التي يعتمدها الماجدي وأمثاله، ما هي الا مدونات لتمجيد الحكام وطمس عيوبهم، يكتبها من يختارهم الملك ذاته، ويتم استخدامها للتباهي والتفاخر، فمن الطبيعي يتم فيها إهمال كل من يعارضهم ويقف في وجوههم من الأنبياء.
اترك تعليق