هل الانتحار حل لمشاكل الدنيا وآلامها؟
إنّ الانتحار حرام، فما الوسيلة الأخرى للموت؟ أو طلب الموت من الله؟ شكراً.
الجواب:
التخلّص من الحياة عبر التفكير في الانتحار كأنْ يُقْدِمَ الإنسان بنفسه على إنهاء حياته، أو التخلّص منها عبر تمنّي الموت كأنْ يتمنّى حصول قَدَرٍ ما يؤدّي إلى موته، كلّ ذلك مرتبط بشكل مباشر بفقدان الإنسان لأيّ قيمة للحياة كليّاً أو جزئيّاً، فالشعور بقيمة الحياة والإحساس بالحِكمة منها هو الذي يدفع الإنسان إلى التمسّك بها والمحافظة عليها، لأنّ كلّ اضطراب نفسيّ يسبقه بالضرورة اضطرابٌ في الرؤية العامّة للحياة، فالمنظار الذي ينظر به الإنسان إلى الحياة هو الذي يتحكّم بمدى عِلقته بها، فعندما يكون المنظار مظلماً أو مشوّهاً فإنّ صورة الحياة ستكون حتماً قاتمة ومشوّهة.
فكلّ مَنْ يفكّر في الانتحار أو يتمنّى الموت فهو ممّن اختلّ منظاره للحياة، فمع أنّ الاكتئاب النفسيّ يمثّل مقدّمة طبيعيّة للانتحار، إلّا أنّ جميع أسباب الاكتئاب يمكن إرجاعها إلى الشعور الذي يفتقد الإنسان معه الثقة في الحياة، فقد يكون لكلّ منتحر سبب مختلف عن الآخر إلّا أنّ الجامع المشترك بينهم جميعاً هو فقدان إحساسهم بقيمة الحياة، بل بعض الحالات التي يحصل فيها الانتحار بدون تفكير مسبق ناشئة من ردّات فعل عنيفة لحدثٍ ما، أو بسبب تعاطي المخدّرات، أو لأسباب مرضيّة أو عقليّة، فإنها تعود في جذورها البعيدة إلى لحظةٍ افتقد الإنسان معها الشعور بالحياة.
وممّا لا شكّ فيه أنّ الإحساس بقيمة الحياة يختلف من إنسان إلى إنسان آخر، كما أنّ هذا الإحساس يتأثّر بشكل كبير بالظروف والعوامل التي تحيط بحياة الإنسان، وهذه الظروف بدورها لا تمتلك تأثيراً متساوياً بين الجميع، فما يكون مؤثّراً على البعض لا يؤثّر في الآخرين، فالفقر مثلاً قد يكون ظرفاً قاتلاً للبعض، والحال نجد بعضهم يمتلك قدرةً على التأقلم معه، وهكذا الحال في الظروف الصحيّة والاجتماعيّة والعائليّة وغير ذلك من ظروف الحياة القاسية، وقدرة الإنسان على التكيّف مع هذه الظروف وإدارتها بالشكل الذي تظلّ فيه الحالة النفسيّة سليمة ومتماسكة هو الذي يميّز البعض عن البعض الآخر، فكلّ مَنْ يفكّر في الانتحار أو يتمنّى الموت يكون قد فشل بشكلٍ أو بآخر في إدارة ظروف الحياة القاسية، ومن هنا فإنّ وظيفة الطبيب النفسيّ هي مساعدة المريض على تجاوز العقد النفسيّة التي تنغّص عليه حياته، والمفتاح المركزيّ في هذه العمليّة هو تغيير المنظار الذي ينظر به المريض إلى الحياة.
وقد أشرنا في إجابةٍ سابقة إلى أنّ القلق والتوتر أصبحا من المظاهر الشائعة في مجتمعاتنا المعاصرة، والسبب في ذلك هو المظالم والإحباطات التي تجعل الإنسان يفقد الثقة في أيّ أمل مشرق، فمن الصعب أن يتجاوز الإنسان تحدّيات الحياة وهو في حالة من الاستسلام لهواجس النفس وظنونها وتخوّفاتها، فالنفس بطبعها في حالة من الاستنفار الدائم والتخوّف المستمر، ولذلك تنسج لصاحبها سيناريوهات تحذيريّة تجعله في حالة من التوتر والقلق الدائم، ولذلك حمّلت آيات القرآن ظنون النفس كامل المسؤوليّة عن كلّ الانحرافات السلوكيّة، وفي المقابل أكّد القرآن على ضرورة العقل والتعقّل بوصفه الطريق الوحيد الذي يحقّق للإنسان بصيرة في الحياة، فللعقل القدرة على التمييز بين التخوّفات الموضوعيّة التي تمتلك مبرّراً منطقياً وبين الهواجس النفسيّة، فكلّ ما ضعف جانب العقل كلّما تمدّدت النفس، وهكذا العكس بالعكس، والإنسان بين أن يجعل زمام المبادرة بيد عقله وبين أن يجعلها بيد ظنونه وهواجسه.
ونحن هنا لا نقدّم وصفة علاجيّة لمن يفكّر في الانتحار، فإنّ ذلك دور الطبيب النفسيّ الذي يتابع الحالة عن قُرْبٍ، ويشخّص الدوافع الخاصّة لكلّ حالة، وإنّما نحاول وضع وصفة عامّة لها علاقة بفلسفة الحياة وسرّ وجود الإنسان فيها، فكلّما زاد وعي الإنسان بحِكمة الحياة وكلّما كان ارتباطه بالله تعالى عن عقيدة قويّة وصحيحة كلّما ازدادت حصانة نفسه من الاضطرابات والتوتّرات.
ولكي نفهم فلسفة الحياة لابدّ أن نفهم فلسفة الموت أوّلاً، فالذي يفكّر في الانتحار لم يفكّر فيه إلّا بعد أن تصوّر الموت راحة من ضغوطات الحياة، فالذي يتعامل مع الموت بوصفه عدم الحياة، وكانت الحياة عنده شعوراً بالألم دائماً، فإنّ الموت سيكون عنده هو الطريق الوحيد للتخلّص من هذا الألم، فكلّ الذين انتحروا كانوا يتصوّرون الموت نهاية لآلامهم، ومعالجة هذه الفكرة الخاطئة هو الذي يحصّن الإنسان من الانتحار أو التفكير فيه.
والأديان السماويّة بشكل عامّ والإسلام بشكل خاصّ هي العلاج الحقيقيّ لجميع الأمراض التي تجعل الصدور ضيّقة والنفوس متوتّرة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «القرآن هو الدواء». وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إنه شفاء من أمراض الخواطر، ومشتبهات الأمور» [تفسير الصافي ج2 ص407].
والعلاج الذي تقدّمه الأديان لجميع أمراض القلوب والنفوس هو هداية الإنسان إلى حقيقة الحياة وفلسفة وجودها، وما يترتّب عليها من حياة أبديّة في الجنّة أو النار، فالله تعالى خلق الإنسان للبقاء ولم يخلقه للفناء، وقد مكّن الله تعالى الإنسان من تحديد نوع الخلود الذي يختاره، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «أيّها الناس، إنّا خُلقنا وإيّاكم للبقاء لا للفناء، ولكنّكم من دار تنقلون، فتزوّدوا لِـما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه، والسلام» [مستدرك سفينة البحار ج1 ص389]، وعنه (عليه السلام) قال: «إنه ليس لأنفسكم ثمن إلّا الجنّة، فلا تبيعوها إلّا بها»، وقال: «إنّ مَنْ باع نفسه بغير الجنّة فقد عظُمت عليه المحنة»، وقال: «مَنْ باع نفسه بغير نعيم الجنّة فقد ظلمها» [ميزان الحكمة ج1 ص425].
وبكلمة مختصرة يمكننا أن نقول: إنّ الإيمان بالله تعالى هو الذي يفسّر بداية الحياة، والإيمان باليوم الآخر هو الذي يفسّر فلسفة الحياة والحِكمة منها، فالذي لا يفهم البداية ولا يفهم النهاية سيكون عُرضة لاضطرابات الحياة وتقلّباتها.
فإنّ الموت لا يمثّل نهاية الحياة، ولا يُعَدُّ طريقاً للهروب من آلامها ومشاكلها، وإنّما هو انتقال من دار إلى دار، ومن حياة إلى حياة، والأمر الذي يحدّد مصير الإنسان في الحياة الأبديّة هو ما يفعله في هذه الحياة المحدودة، فمَن يسعى هنا لرضا الله تعالى والعمل على وفق ما أراده سيكون مصيره الحياة الطيّبة في الدنيا والنعيم في الآخرة، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وفي مقابل ذلك يقول تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ. [طه: 124]
اترك تعليق