ارتدّ الناس بعد الحسين (عليه السلام) إلّا ثلاثة!!!

سؤال: ما معنى هذا الحديث: «ارتدّ الناس بعد الحسين (عليه السلام) إلّا ثلاثة: أبو خالد الكابليّ، ويحيى بن أمّ الطويل، وجبير بن مطعم، ثمّ إنّ الناس لحقوا وكثروا». (رجال الكشيّ ص 95)؟

: السيد علي المشعشعي

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

لا يخفى على كلّ ذي فطنة أنّ للارتداد معنيين:

الأوّل: لغويّ: وهو الرجوع عن الشيء إلى غيره، كما في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [سورة يوسف: 96].

وقوله سبحانه :﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [سورة النمل: 40].

والمعنى الآخر: حقيقيّ: وهو الرجوع عن الإسلام بترك بعض أصوله؛ مثل إنكار الشهادة لله تعالى بالربانيّة ولمحمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) بالنبوّة كما في قوله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ [البقرة: 217].

فإذا عرفت ذلك فأعلم: أنّ الردّة الواردة في حديث الإمام الصادق (ع) يُراد بها المعنى اللّغويّ، وبه فسَّرهُ بعضُ العلماء من الخاصّة والعامّة.

قال السيّد الداماد (طاب أثره) في تعليقته على رجال الكشيّ ص54: عند تعرّضه لحديث الحوض المرويّ في صحيح مسلم وغيره عن ابن عباس عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قال: (لم يزالوا مرتدّين).

قال السيّد (طاب أثره) لم يرد به الردّة عن الإسلام، إنّما معناه التخلّف عن بعض الحقوق الواجبة.

وقال السيّد الگلپايگانيّ : إنّ هذا الارتداد ليس هو الارتداد المصطلح الموجب للكفر و النجاسة والقتل ، بل الارتداد هنا هو نكث عهد الولاية ، ونوع رجوع عن مشي الرسول الأعظم ، وعدم رعاية وصاياه. ولو كان المراد منه هو الارتداد الاصطلاحيّ لكان الإمام عليه السلام - بعد أنْ تقلّد القدرة وتسلّط على الأمور - يضع فيهم السيف ويبدّدهم ويقتلهم من أوّلهم إلى آخرهم خصوصاً بلحاظ أنّ توبة المرتدّ الفطريّ لا تمنع قتله ولا ترفعه بل يقتل وإنْ تاب. [نتائج الأفكار، (1/ ص 196].

وقال الخطّابيّ: (ليس معنى الارتداد الرجوع عن الدين، إنّما هو التأخّر عن بعض الحقوق اللازمة، والتقصير فيها).

وقال ابن الأثير: وفي حديث القيامة والحوض: (فيقال: إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أدبارهم القهقرى): أيْ متخلِّفين عن بعض الواجبات، ولم يُرِد ردَّة الكفر...[النهاية في غريب الحديث 2/214].

وأمّا سبب الردّة، فيمكن أنْ يُعزى إلى أمرين:

الأوّل: أنّهم وجدوا الاَمال قد تبدّدت بقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، وسبي أهله، وظهور ضعف الحقّ وقلّة أنصاره، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فإنّ الرعب قد ملأ قلوبهم لمّا وجدوا دولة بني أميّة على هذه القسوة، وهو مِـمّا أدّى إلى عدم التقرّب من الإمام زين العباد (عليه السلام)، لأنّ ذلك سيؤدّي إلى اتّهامهم ومحاسبتهم من قبل السلطة الجائرة، فلذلك ابتعد الناس عنه (عليه السلام).

والثاني: هو ما حصل من منازعة بينه (عليه السلام) وبين عمّه محمّد بن الحنفيّة بشأن الإمامة، إذْ كان أحد الأسباب الداعية إلى تفرّق الناس عنه لولا أن شهد الحجر له بالإمامة في القصّة المعروفة التي رواها الكلينيُّ بِسَنَده عَنْ أبي جَعْفَرٍ الباقِرِ (عَلَيْهِ السَّلامُ) أنّه قالَ: لمّا قُتِلَ الحُسَينُ (عَلَيْهِ السَّلامُ) أرْسَلَ مُحَمَّدُ بنُ الحنفيَّةِ إلى عَليِّ بنِ الحُسَينِ (عَلَيْهِما السَّلامُ)، فخَلا بِهِ فقالَ لهُ: يا بنَ أخِي قدْ علِمْتَ أنَّ رَسُولَ اللهِ (صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ) دَفعَ الوصيَّةَ والإمامَةَ منْ بَعْدِهِ إلى أمِيرِ المُؤمنينَ، ثمَّ إلى الحَسَنِ، ثمَّ إلى الحُسَينِ. وقدْ قُتِلَ أبوكَ ولمْ يُوَصِّ، وأنا عَمُّكَ وصِنْوُ أبِيكَ، وولادَتِي منْ عَلِيٍّ في سِنِّي وقدِيمِي أحقُّ بِها مِنْكَ في حَداثتِكَ، فلا تُنازِعْنِي في الوَصِيَّةِ والإمامَةِ، ولا تُحاجِّنِي، فقالَ لهُ عليُّ بنُ الحُسَينِ (عَلَيْهِ السَّلامُ): يا عَمِّ، اتَّقِ اللهَ ولا تدَّعِ ما ليسَ لكَ بِحَقٍّ، إنِّي أعِظُكَ أنْ تكونَ منَ الجاهلينَ. إنَّ أبِي يا عَمِّ أوصى إليَّ قبلَ أنْ يتوجَّهَ إلى العِراقِ، وعَهِدَ إليَّ في ذلِكَ قبلَ أنْ يُسْتَشْهَدَ بِساعَةٍ، وهذا سِلاحُ رَسُولِ اللهِ عِنْدِي، فلا تتعَرَّضْ لِهذا؛ فإنِّي أخافُ عليْكَ نقصَ العُمُرِ وتشتُّتَ الحالِ. إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ جَعَلَ الوَصِيَّةَ والإمامَةَ في عَقِبِ الحُسَينِ (عَلَيْهِ السَّلامُ)، فإذا أردْتَ أنْ تعلمَ ذلِكَ فانْطلِقْ بِنا إلى الحَجَرِ الأسودِ حتّى نتحاكَمَ إليْهِ، ونسألَهُ عنْ ذلِكَ. قالَ أبو جَعْفَرٍ – (عَلَيْهِ السَّلامُ): وكانَ الكلامُ بينَهُما بِمَكَّةَ، فانْطلقا حتّى أتَيا الحَجَرَ الأسْوَدَ، فقالَ عَليُّ بنُ الحُسَينِ لِمُحَمَّدِ بنِ الحَنَفِيَّةِ: ابدأْ أنتَ فابتهلْ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وَسَلْهُ أنْ يُنْطِقَ لكَ الحَجَرَ، ثمَّ سَلْ، فابتهلَ مُحَمَّدٌ في الدُّعاءِ وسألَ اللهَ ثمَّ دَعا الحَجَرَ فلمْ يُجِبْهُ، فقالَ عَليُّ بنُ الحُسَينِ (عَلَيْهِما السَّلامُ): يا عمِّ، لوْ كُنْتَ وَصِيّاً وإماماً لأجابَكَ، قالَ لهُ مُحَمَّدٌ: فادْعُ اللهَ أنتَ يا بنَ أخِي وسَلْهُ، فدَعا اللهَ عَليُّ بنُ الحُسَينِ (عَلَيْهِما السَّلامُ) بِما أرادَ ثمَّ قالَ: أسألُكَ بالذي جعلَ فيكَ مِيثاقَ الأنبياءِ، ومِيثاقَ الأوصياءِ، ومِيثاقَ النّاسِ أجمعينَ لمّا أخبرْتَنا مَنِ الوَصِيُّ والإمامُ بَعْدَ الحُسَينِ بنِ عَليٍّ (عَلَيْهِ السَّلامُ)؟ قالَ: فتحَرَّكَ الحَجَرُ حتّى كادَ أنْ يزولَ عَنْ موضِعِهِ، ثمَّ أنطقَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ بِلِسانٍ عَرَبيٍّ مُبينٍ، فقالَ: اللهمَّ إنَّ الوَصِيَّةَ والإمامَةَ بَعْدَ الحُسَينِ بنِ عَليٍّ (عَلَيْهِما السَّلامُ) إلى عَليِّ بنِ الحُسَينِ بنِ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ وابنِ فاطِمَةَ بنتِ رَسُولِ اللهِ، قالَ: فانصَرَفَ مُحَمَّدُ بنُ عَليٍّ وهوَ يتولّى عَليَّ بنَ الحُسَينِ. [الكافي 1: 348].

وبعد هذا كلّه تمكّن (عليه السلام) من استعادة قواه، واسترجاع موقعه الاجتماعيّ بين الناس بالقرينة التي أشارت إليها الرواية: (ثمّ إنّ الناس لحقوا وكثروا).

والحمد لله أولا وآخرا