وراثة الكتاب بين الظالم لنفسه والسابق بالخيرات

السؤال: يقول الله تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)، ما هو الكتاب بالآية؟ وكيف يورثه لمن يظلم نفسه؟

: - اللجنة العلمية

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تعـدّ هذه الآية الكريمة من جملة الآيات المختصّة بالمعصومين (عليهم السلام)؛ وذلك لاختصاصهم بوراثة الكتاب، والكتاب يُطلق على المصحف الشريف الذي بين الدفّتين وعلى الحقيقة الملكوتيّة له، وقد وردت آيات عديدة في بيان الحقيقة الغيبيّة له، كقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [سورة النحل: 89]؛ وذلك بقرينة تخصيص وراثته بخصوص المصطفين؛ إذ لَـو كان المراد هو المصحف الشريف لَـمَا صحّ التخصيص بوارث خاصّ؛ لأنّ المصحف الشريف في متناول كلّ البشر فضلاً عن المسلمين والمؤمنين.

ومن ذلك يظهر: أنّ المراد بـ{الْكِتَابَ} هو القرآن الكريم؛ بقرينة الآية السابقة: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [سورة فاطر: 31-32]، فاللام في {أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} للعهد، وهو المذكور سابقاً في قوله: {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ}، قال العلّامة الطباطبائيّ: (والمراد بالكتاب في الآية - على ما يعطيه السياق - هو القرآن الكريم، كيف؟ وقوله في الآية السابقة: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} نصّ فيه، فاللام في {الْكِتَابَ} للعهد دون الجنس، فلا يُعبأ بقول مَن يقول: إنّ اللام للجنس، والمراد بالكتاب مطلق الكتاب السماويّ المنزل على الأنبياء) [تفسير الميزان ج17 ص45].

ثـمّ إنّه وقع كلامٌ عند العلماء في مرجع الضمير في {فَمِنْهُمْ} على قولين:

الأوّل: أنّ الضمير يرجع إلى {عِبَادِنَا}، فالعباد على ثلاث طوائف: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات. ولا يخفى أنّ هذا لا يقتضي توريث الكتاب للظالم لنفسه، وإنّما يدلّ على توريث الكتاب لأحد الطوائف الثلاث؛ لأنّ الآية تفيد توريث الكتاب للمصطفين من العباد، والعباد على ثلاث أقسام، فالتوريث للمصطفين من هذه الأقسام، ولا شكّ أنّه ليس الظالم لنفسه.

قال السيّد المرتضى: (الذي أعتمده وأعوّل عليه: أن يكون {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} من صفة {عِبَادِنَا} أي أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، ومن عبادنا ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات، أي فليس كلّ عبادنا ظالماً لنفسه، ولا كلّهم مقتصداً، ولا كلّهم سابقاً بالخيرات، فكان الذين أورثوا الكتاب السابقون بالخيرات دونهما) [رسائل المرتضى ج3 ص102].

وقال الشيخ الطوسيّ: (ويكون قوله {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} راجعاً إلى (عباده)، وتقديره: فمِن عبادنا ظالم لنفسه، ومن عبادنا مقتصد، ومن عبادنا سابق بالخيرات؛ لأنّ مَن اصطفاه الله لا يكون ظالماً لنفسه، فلا يجوز أن ترجع الكناية إلى الذين اصطفينا) [تفسير التبيان ج8 ص430].

وقال ابن شهر آشوب: ({فَمِنْهُمْ} يرجع بالكناية فيه إلى العباد، لا إلى الذين اصطفوا؛ لأنّه أقرب إليه في الذكر، فكأنه قال تعالى: ومن عبادنا ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات) [متشابه القرآن ج1 ص206.

والثاني: أنّ الضمير يرجع إلى {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}، فتكون الطوائف الثلاث – الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات – شركاء في الوراثة وإنْ كان الوارث الحقيقيّ هو السابق بالخيرات، بمعنى أنّ هناك ثلّة مصطفاة جعل الله وراثة الكتاب فيهم، ويكفي في هذا أن تكون وراثة الكتاب حقيقةً لبعض هذه الثلّة، ولا يشترط أن يكون جميعهم ورثةً للكتاب. ونظير ذلك قول الله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ * هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [سورة غافر: 53-54]، فإنّ الآية وإنْ كانت ظاهرة في وراثة بني إسرائيل للكتاب إلّا أنّ القائم به حقيقةً هو بعضهم لا جميعهم كما هو واضح.

ومثل هذا الاصطفاء العامّ متحقّق كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [سورة آل عمران: 33]، فإنّ الآية تبيّن اصطفاء (آل إبراهيم)، ونظيره الحديث النبويّ – الذي رواه مسلم بن الحجّاج في صحيحه وغيره -: « إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم »، فهذا اصطفاء عامّ لـ(كنانة)، ثـمّ اصطفاء عام أخصّ من السابق لـ(قريش)، ثم أخصّ منه لـ(بني هاشم)، ثمّ للنبيّ (صلى الله عليه وآله).

فهذه الآية الكريمة تبيّن أنّ الله تعالى أورث كتابه المصطفين من عباده، وهؤلاء المصطفين هم ذريّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) من ولد فاطمة (عليها السلام) – كما هو المأثور عن الأئمّة (عليهم السلام) -، أي جعل الله تعالى وراثة الكتاب في هذه الفئة، وهذه الفئة وإنْ كان فيها الظالم والمقتصد والسابق ولكن الوارث حقيقةً هو السابق بالخيرات فحسب، ويصحّ مثل هذا الإسناد للكلّ مع إرادة البعض، كما أشرنا في وراثة بني إسرائيل.

الحاصل: في مرجع الضمير في {فَمِنْهُمْ} قولان، وعلى كلا القولين لا يكون الظالم لنفسه وارثاً للكتاب، بل هي مختصّة بالسابق بالخيرات، جاءت في ذلك روايات مستفيضة بل متواترة عن أهل البيت (عليهم السلام)، عقد لها الشيخ الصفّار باباً بعنوان: « في الأئمة (ع) أنّهم الذين قال الله فيهم أنّهم أورثهم الكتاب وأنّهم السابقون بالخيرات » وأدرج فيه 15 حديثاً [ينظر بصائر الدرجات ص64]، وجمع العلّامة المجلسيّ في « باب أنّ مَن اصطفاه الله من عباده وأورثه كتابه هم الأئمّة، وأنّهم آل إبراهيم وأهل دعوته » أكثر من 50 حديثاً [ينظر بحار الأنوار ج23 ص212-228].

والحمد لله ربّ العالمين