لماذا لم يحتجّ الإمام عليّ (ع) بالنصّ؟

السؤال: "ما سجّل التاريخ ولا نقل الرواة أنّ الإمام عليّ احتجّ على إمامته بالنصّ ولو من باب إلقاء الحجّة !". جواد مغنية/ فلسفات إسلاميّة-بتصرّف)

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

اعلم أخي القارئ الكريم أنّ ما نسبه السائل لمحمّد جواد مغنية ليس دقيقاً، لأنّه بالرجوع إلى كتاب (فلسفات إسلامية لمحمّد جواد مغنية) وجدنا نصّ السؤال هو ذاته الإشكال الذي طرحه محمّد جواد مغنية، ثمّ أجاب عنه، فلذا سنكتفي في الإجابة عن هذا السؤال بنقل ما جاء في كتاب فلسفات إسلاميّة (ص 186 – 190)، بعنوان (لماذا لم يحتجّ الإمام بالنصّ؟).

"تسأل: إذا كان هناك نصّ جليّ على إمامة الإمام عليّ (ع) فلماذا لم يحتجّ به على مَنْ أبعده عن الخلافة، ولو من باب إلقاء الحجّة على الأقل؟

الجواب: أنّ العالم لا يجزم نفياً أو إثباتاً إلّا بدليل قاطع .. ولا وجود لهذا الدليل على أنّ الإمام لم يحتجّ .. أجل ما سجّل التاريخ، ولا نقل الرواة ذلك عنه، ولكن ليس كلّ ما قاله عليّ وفعله قد حفظه التاريخ، ورواه الرواة بخاصّة تاريخ العصر الأمويّ الذي كان فيه يسبّ عليّ ديناً تدين به الدولة وأعوانها، ومثله أو أسوأ منه العصر العباسيّ.

ولو سلّمنا – جدلاً – بأنّ الإمام سكت ولم يحتجّ فليس من الحقّ في شيء أن نفسّر سكوت الإمام بوجود النصّ أو عدم وجوده إلّا في ضوء ما حدث وأحاط بالإمام من الظروف والملابسات آنذاك .. ولا يكون سكوت الإمام دليلاً على عدم النصّ إلّا إذا وجد المقتضى، وارتفعت جميع الموانع بحيث لو احتجّ الإمام لبايعه عمر وأبو بكر وسائر الصاحبة، أمّا إذا كان الاحتجاج بالنصّ وعدمه سواء بل يتولّد منه مفاسد أيضاً فلا يدلّ السكوت، - والحال هذا – على عدم وجود النصّ. وإذا نظرنا إلى تلك الظروف والأوضاع بعين الواقع والإنصاف – وجدنا أنّ قريشاً كانوا مصمّمين على معارضة الإمام في الخلافة على كلّ حال، وإبعاده عنها بكلّ سلاح حقداً وحسداً.

وقد ظهرت بادرة العداء لعليّ من قريش أوّل ما ظهرت حين أراد النبيّ (ص) – وهو على فراش الموت أن يكتب لإمّته كتاباً يعيّن فيه من يلي الأمر من بعده، كما قال أحمد أمين المصريّ في كتاب يوم الإسلام، فمنعته قريش، وقالت كلمة يهتزّ لها العرش، وهي (أ .. هجر) كما في الصحيحين: مسلم – والبخاريّ – وهذه الكلمة بذاتها قرينة قاطعة على أنّ عمر ما نطق بها إلّا لعمله ويقينه بأنّ النبيّ (ص) أراد أن يسجّل في الكتاب الخلافة من بعده لعليّ .. وإلّا فما هو الموجب لمنع الرسول (ص) عن الوصيّة، ووصفه بالهجر؟ وهل كان عمر يمنعه عنها، ويقول عنه ما قال لو ظنّ أو احتمل أنّ النبيّ أراد أن يوصي بشيء غير الخلافة، أو أراد أن يوصي بالخلافة إليه، أو إلى أبي بكر؟. ولا أستبعد أطلاقاً أنّ النبيّ (ص) لو أصرّ على الكتاب، وسجّل فيه الخلافة لعليّ من بعده لأصرّ أقطاب قريش بدورهم على أنّ النبيّ (ص) كان يهجر، وأثبتوا – والعياذ بالله – هذيانه .. ولأبطل السنّة بعد ذلك كلّ وصيّة يوصى بها في مرض الموت.

ولو لا هذا المحذور لأصرّ النبيّ (ص) على الكتاب، وسجّل فيه ما أراد .. وأيضاً لولا المحاذير التي سنذكرها بعد لحظة لأحتجّ الإمام بالنصّ على خلافته، فمن قال: لماذا لم يحتجّ عليّ بالنصّ؟ قلنا في الجواب: ولماذا لم يصرّ النبيّ (ص) على الكتاب، ويسجّل فيه ما أراد؟ والجواب الجواب.

هذه أوّل بادرة من قريش ظهرت في عدائهم لعليّ بعد أنْ رأوا أمارات الموت على رسول الله (ص)، أمّا البادرة الثانية فقد ظهرت من قريش في عداء عليّ، حين أسرعوا إلى سقيفة بني ساعدة قبل أن يجرّد النبيّ (ص) عن ثيابه، ويبرد جسده الشريف، أسرعوا إلى السقيفة، واختلفوا على من يلي الأمر، وتجاهلوا عليّاً عن عمد، وهم أعرف الناس بمكانه .. ولا سرّ إلّا الحقد والبغضاء، وإلّا التصميم والعزم على إبعاد عليّ عن كلّ ما يمتّ إلى الخلافة بصلة .. أمّا الاعتذار بأنّ عليّاً كان في شغل شاغل لتجهيز النبيّ (ص) فهو أوهن من بيت العنكبوت، لأنّ التجهيز مهما طال أمده فلا يستغرق أكثر من بضع ساعات.

فالبادرة الأولى من عداء قريش لعليّ كانت، والنبيّ في ساعاته الأخيرة، وجاءت الثانية قبل أن يوارى الجسد الشريف، أمّا الثالثة من عداء قريش لعليّ فقد جاءت بعد الدفن بقليل، وهي اغتصاب فدك، وافتراء حديث: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث). فعلوا كلّ هذا وأكثر من هذا ومع ذلك لم يرضوا من عليّ بالسكوت والحياد، بل هجموا عليه ليكرهوه على الخضوع والاستسلام لأبي بكر .. وكان من أمر هذه الغارة على بيت فاطمة بضعة الرسول الأعظم (ص) ما كان.

وإذا لم يتركوا فدكاً لعليّ، ولم يقنعوا منه بالسكوت والحياد، فهل يتركون له الحكم والخلافة، ويقولون له: مد يدك حتّى نبايع بمجرّد أن يتفوّه بالوصيّة؟. وإذا منعوا النبيّ (ص) أن يكتب الوصيّة، وهو في مرض الموت، ونعتوه بالهجر كما في صحيح البخاريّ ومسلم، فهل يسمعون لعليّ ويطيعون إذا احتجّ عليهم بالنصّ أو يضعون حديثاً في نسخ ما يحتجّ به الإمام على غرار حديث: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) الذي اتّفق السنّة على صحّته، لا لشيء إلّا لأنّ راويه خليفة، ولو روي حديث النسخ ابن الخطّاب – مثلاً – لأصبح منزلاً تماماً كحديث (نحن معاشر الأنبياء) الذي ما رواه أحد إلّا أبو بكر .. وقد وضع عمرو بن العاص بعد حين إرضاءً لمعاوية حديث: (إنّ آل أبي طالب ليسوا بأولياء)، ولكنّه ترك وأهمل؛ لأنّ راويه لم يتولّى الخلافة، ولو تولّاها لاعترف بها السنّة وبالحديث المفترى عملاً بمبدأ الاعتراف بالأمر الواقع الذي تقدّم الكلام عنه.

لا نستبعد شيئاً من ذلك – أيّها القاري – فكلّه جائز ومعقول بالنسبة إلى قريش .. ألم يمكروا بالرسول الأعظم (ص) ويصمّموا على قتله، وأوشكّ أن يتمّ كلّ شيء لولا أن يحول الله بينهم وبين ما أرادوا بخروج النبيّ (ص) من مكّة، ومبيت الإمام على فراشه؟ . ومن الذي فعل بكربلاء ما فعل، وأقام مجزرة أهل بيت محمّد، قريش أو غيرهم؟ ولو أنّ عليّاً أصرّ على الامتناع عن بيعة أبي بكر لقتلوه وفعلوا به وبأهل بيته ما فعلوا بالحسين ونسائه وأطفاله .. وإليك الدليل، قال الإمام عليّ (ع) في الخطبة 215 من خطب نهج البلاغة: (اللّهُمّ إنّي أستعديك على قريش ومن أعانهم فإنّهم قد قطعوا رحمي وأكفئوا إنائي وأجمعوا على منازعتي حقّا كنت أولى به من غيري وقالوا: ألا أنّ في الحقّ أن تأخذه وفي الحقّ أن تمنعه، فاصبر مغموما أو مت متأسّفا، فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذابّ ولا مساعد إلّا أهل بيتي فضنّنت بهم عن المنيّة فأغضيت على القذى وجرعت ريقي على الشجا وصبرت من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم وآلم للقلب من وخز الشفار.

ثمّ يقوم المؤلّف بشرح بعض العبارات في خطبة أمير المؤمنين، ثمّ يقول: والخلاصة: أنّ حقد قريش على الإمام، وحسدهم له، وإصرارهم على حربه مهما كانت النتائج إذا أصرّ على حقّه هو الذي منعه من الاحتجاج بالنصّ، كما أنّ خبث السرائر، وسوء الضمائر هو الذي دعا الرسول الأعظم (ص) أن يكفّ ويمتنع عن الكتاب بعد أن حاول وأراد – هو في مرض الموت – أن يعيّن لأمّته من يلي الأمر من بعده".