هل عالم الذرّ ثابت عند الشيعة؟

السؤال: يقول السيّد محمّد باقر الصدر : لم يثبت الذرّ عندنا لسببين: ﺍﻷﻭّﻝ: ﺳﺒﺐ ﺭﻭﺍﺋﻲّ، ﺃﻧّﻪ ﻭﺭﺩ ﺑﺨﺒﺮ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪ، ﻭﺃﺧﺒﺎﺭ ﺍﻵﺣﺎﺩ ﻟﻴﺴﺖ ﺣﺠّﺔ ﻋﻨﺪﻧﺎ ﻓﻲ ﺍﻷﻣﻮﺭ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﺘﺸﺮﻳﻌﻴّﺔ. ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ: ﺳﺒﺐ ﻓﻠﺴﻔﻲّ, ﻭﺫﻟﻚ ﻷﻥّ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺑﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﺬﺭّ ﻳﺘﻌﺎﺭﺽ ﻣﻊ ﻧﻈﺮﻳّﺔ ﺍﻟﻌﻠﻤﺎﺀ ﺍﻟﻘﺎﺋﻠﺔ ﺑﺠﺴﻤﺎﻧﻴّﺔ ﺃﻭ ﻣﺎﺩﻳّﺔ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺣﺪﻭﺛﺎً ﻭﺭﻭﺣﺎﻧﻴّﺘﻬﺎ ﺑﻘﺎﺀً، ﺃﻱْ ﺗﻄﻮّﺭﻫﺎ ﻣﻦ ﺃﺻﻞ ﻣﺎﺩّﻱ ﺇﻟﻰ ﻭﺟﻮﺩ ﺭﻭﺣﻲّ، ﻛﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﺜﺒﺖ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﺬﺭّ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﺴﻴّﺪ ﺍﻟﻤﺮﺗﻀﻰ ﻛﻤﺎ ﻭﺭﺩ ﻓﻲ ﺃﻣﺎﻟﻴﻪ ‏"ﺃﻣﺎﻟﻲ ﺍﻟﺴﻴّﺪ ﺍﻟﻤﺮﺗﻀﻰ.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

أوّلاً: العمدة في الدلالة على عالم الذرّ هو قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ)... والروايات التي تؤكّد عالم الذرّ كثيرة جدّاً تفوق حدّ التواتر المعنويّ، ويمكن مراجعة ذلك في أصول الكافي وبصائر الدرجات والمحاسن، وغير ذلك من المصادر الحديثيّة المعتمدة عند الشيعة، وقد جمع منها العلّامة المجلسيّ في البحار عشرين رواية حول تقدّم الأرواح على الأبدان (ج 58 باب 43). و 67 رواية حول الطينة والميثاق في (ج 5 باب 10).

ويعلّق العلّامة المجلسيّ على هذه الروايات بقوله: "اعلم أنّ ما تقدّم من الأخبار المعتبرة في هذا الباب، وما أسلفناه في أبواب خلق الرسول والأئمّة: - وهي قريبة من التواتر - دلّت على تقادم خلق الأرواح على الأجساد. وما ذكروه من الأدلّة على حدوث الأرواح عند خلق الأبدان مدخولة، لا يمكن ردّ تلك الروايات لأجلها" (البحار ج 61 ص 141).

وفي مقابل هذا الكمّ الكبير من الروايات لا توجد روايات معارضة لها، فجميع ما روي عن الرسول والأئمّة الأطهار صريح في وجود عالم الذرّ وفي تقدّم الأرواح على الأبدان، ولذا تسالم علماء الشيعة على قبوله والايمان به، يقول محمّد باقر المالكيّ الميانجيّ في كتابه (توحيد الإماميّة): "المستفاد من الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت صلوات الله عليهم أنّ الأرواح خلقت قبل الأبدان. وهذه الروايات الشريفة صريحة في أنّ الأرواح كانت واجدة للعقل والشعور وقد عرف الله تعالى نفسه إليهم. فآمن به تعالى من آمن منهم عن بيّنة وعرفان، وكفر منهم من كفر بعد المعرفة. وإنّما كان هذا الاختلاف بعد تعريفه تعالى نفسه إليهم. والروايات في هذا الباب كثيرة، حتّى إنّ المولى المحقّق صدر الدين الشيرازيّ قال: للنفس الآدميّة كينونة سابقة على البدن... وإليه الإشارة في قوله تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى... والروايات في هذا الباب من طريق أصحابنا لا تحصى كثرة، حتّى إنّ كينونة الأرواح قبل الأجساد كأنّها كانت من ضروريّات مذهب الإماميّة رضوان الله عليهم" (توحيد الإماميّة ص 135).

ويقول الشيخ المرواريد في كتابه (تنبيهات حول المبدأ والميعاد) وهو من الكتب النافعة في هذا المجال، يقول بعد ذكره لمجموعة من هذه الروايات: ".. وغير ذلك أخبار مناسبة لذلك، رواها كثير من ثقات الأصحاب وفقهائهم، فلا مجال للريب في صحّة أسانيدها كما يظهر من ملاحظتها، وعن طريق العامّة أيضا روايات بمضمونها أوردها في البحار. وروايات الفريقين متّفقة على ثبوت عالم الذرّ وسبق خلقة الإنسان، ولا وجه لرفع اليد عنها أو التأويل فيها بعد عدم الاختلاف في رواياتنا في ثبوت ذلك العالم. ويؤيّد المطلب وجود الاختلاف فيه بين علماء العامّة أيضا، فلو كان الأئمّة صلوات الله عليهم مخالفين للقول بثبوته لصدر عنهم ما يدلّ على خلافه، كيف والروايات متّفقة ظاهرة الدلالة عليه، غير قابلة للتأويل والتوجيه، إلّا أن يلتزم بأنّهم صلوات الله عليهم لم يكونوا في مقام الهداية والتعليم ، بل كانوا في مقام الألغاز الموجب للضلالة ، جلّت ساحة قدسهم عن ذلك. وعمدة ما أوقع بعض الأكابر – يقصد الشيخ المفيد - في التشكيك فيه بل الإنكار شبهات أثارها بعض المذاهب الفلسفيّة ومقالاتهم في كيفيّة الخلقة، وإلّا فمن أمعن النظر في ما ورد عن الأئمّة صلوات الله عليهم في كيفيّة الخلقة لم يبق له أيّة شبهة في إمكان ما دلّت عليه الروايات المذكورة، ويمنعه ذلك عن ردّ رواية واحدة ، فضلا عن ردّ جميعها ، بما لكثير منها من صحّة السند ووضوح الدلالة" (تنبيهات حول المبدأ والميعاد ص 120).

وعليه: فلا يمكن قبول التشكيك في هذه المسألة من باب التشكيك في الروايات بعد صحّتها وتواترها المعنويّ وغياب المعارض لها، والقول بأنّها أخبار آحاد ينفي فقط تواترها اللفظيّ، وهذا ليس كافٍ لرفض المضمون الذي اشتركت فيه جميع هذه الروايات، وخاصّة أنّه ليس مخالفاً لمحكمات الدين ولا معارض لضرورات العقل مضافاً إلى أن قبوله أوفق للاحتياط.

ثانياً: اعتمد في نفي وجود عالم روحيّ متقدّم على الوجود البدنيّ على دليل عقليّ مفاده أنّ القول بعالم الذرّ يتعارض مع نظريّة بعض الفلاسفة التي تؤكّد بأنّ الروح مادّية في حدوثها وروحيّة في بقائها، أيْ أنّها تتطوّر من أصل مادّي إلى وجود روحيّ.

ويمكن مناقشة هذه الفكرة من عدّة وجوه

الوجه الأوّل: تقديم دليل العقل على دليل الشرع لا يكون مسوقاً إلّا إذا كان دليل الشرع مخالفاً مخالفة واضحة لدليل العقل القطعيّ، وهذا لا يتحقّق إلّا إذا كان دليل الشرع يفضي إلى اجتماع المتناقضين أو يفضي إلى إنكار مبدأ عقليّ مقطوع بصحّته، وهذا لا وجود له في مسألة الإيمان بعالم الذرّ أو بتقدم الأرواح على الأبدان، فالإيمان بها لا يفضي إلى التناقض ولا يخالف مبدأ عقليّ مقطوع بصحّته، وكلّ ما استدلّ به الصدر هو مخالفته لمبدأ ظنّي اعتقد به بعض الفلاسفة، فالقول: (بأنّ الروح مادّية في حدوثها وروحيّة في بقائها، أو أنّها تتطوّر من أصل مادّي إلى وجود روحيّ) لا يعدو كونها مجرّد فكرة قال بها البعض، وبالتالي لا تصلح أبداً لجعلها قاعدة كلّية نحاكم بها الروايات، فحتّى لو قلنا بأنّ الروايات ظنّية فإنّ هذه الفكرة أيضاً ظنّية، ولا يستبعد أن يغيّر القائلون بها موقفهم إلى القول بتقدّم العالم الروحانيّ على العالم المادّي، فكثيراً ما يغيّر الفلاسفة موقفهم ويبدّلون أفكارهم، فهل حينها نصدّق بهذه الروايات أو نظلّ على إنكارها؟

الوجه الثاني: القبول بقول الفلاسفة (الروح مادّية في حدوثها وروحيّة في بقائها) فإنّ ذلك لا يستلزم بالضرورة العقليّة إنكار عالم الذرّ، أو على الأقلّ لا يعارضه، فالقول بالحدوث المادّي للروح لا يعني ملازمته لحدوث البدن، فكون الروح خلقت مادّية لا يعني خلقها في البدن العرضيّ، فعلى الأقل في لحظة حدوثها هي منفصلة عن البدن الذي رُكّبت فيه، وبالتالي يمكن عقلاً أن يخلقها الله تعالى بلا بدن باعتبارها من الجواهر المنفصلة عن البدن العرضيّ، وهذا المقدار كافٍ لانفكاك الروح عن البدن، وبخاصّة أنّ الروايات تؤكّد بأنّ الله تعالى خلقها منفصلة عن بدن صاحبها ثمّ أدخلها في القالب البدنيّ في الحياة الدنيا، وإذا ثبت ذلك فلا فرق بين أن يكون انفصالها عن البدن للحظة أو لآلاف السنين، وعليه فلا وجود للملازمة بين خلق الروح وبين كونها موجودة في البدن.

وإذا سلّمنا جدلاً بوجود ملازمة بين حدوث الروح وتعلّقها بالبدن، فلماذا لا يكون البدن الذي تعلّقت به الروح في العالم الأوّل هو البدن المثاليّ؟ وقد ذكرت الأخبار الشريفة أنّ الله خلق روح النبيّ وأهل بيته الطاهرين في عالم الأظلّة ووضعها في قوالب مثاليّة نورانيّة، والأخبار في ذلك كثيرة.

أمّا انفكاك الروح عن البدن بعد تعلّقها به، فهو ثابت بالأخبار الكثيرة التي تتحدّث عن انفصال الروح عن البدن عند الموت، إذْ تبقى الروح بلا بدن قبل نزوله إلى حفرته، وقد يكون ذلك لساعات أو أيّام، والروح - وهي في هذه الحالة - تسمع وترى وهي من دون بدن، مضافاً للأخبار التي تتحدّث عن الأرواح في عالم البرزخ.

ثالثاً: الاستدلال بإنكار الشريف الرضيّ لعالم الذرّ ليس تامّاً، فحتّى لو ثبت فهو رأي يمكن مناقشته قبولاً ورفضاً، أيْ لا يعدُّ دليلاً قائماً بذاته، والذي يبدو أنّ الشريف الرضيّ أنكر صحّة الاستدلال بآية الذرّ على وجود عالم ذريّ ولم ينكر الأخبار الدالّة على ذلك، أي أنّ الآية في نظره ليست تامّة في أثبات عالم الذرّ.

والذي أنكر عالم الذرّ صراحة هو الشيخ المفيد، وقد نقل العلّامة المجلسيّ رايه بقوله: "وقال الشيخ المفيد قدس الله نفسه - في أجوبة المسائل السرويّة: فأما الخبر بأنّ الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام فهو من أخبار الآحاد، وقد روته العامّة كما روته الخاصّة، وليس هو مع ذلك ممّا يقطع على الله بصحّته، وإن ثبت القول فالمعنى فيه أنّ الله تعالى قدّر الأرواح في علمه قبل اختراع الأجساد، واخترع لها الأرواح، فالخلق للأرواح قبل الأجساد خلق تقدير في العلم كما قدّمناه وليس بخلق لذواتها كما وصفناه، والخلق لها بالإحداث والاختراع بعد خلق الأجسام والصور التي تدبّرها الأرواح. ولولا أنّ ذلك كذلك لكانت الأرواح تقوم بأنفسها ولا تحتاج إلى آلات تعلّقها، ولكنّا نعرف ما سلف لنا من الأرواح قبل خلق الأجساد كما نعلم أحوالنا بعد خلق الأجساد، وهذا محال لا خفاء بفساده. وأمّا الحديث بأنّ الأرواح جنود مجنّدة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، فالمعنى فيه أنّ الأرواح التي هي الجواهر البسائط تتناصر بالجنس وتتخاذل بالعوارض، فما تعارف منها باتّفاق الرأي والهوى ائتلف، وما تناكر منها بمباينة في الرأي والهوى اختلف، وهذا موجود حسّا ومشاهد، وليس المراد بذلك أنّ ما تعارف منها في الذرّ ائتلف كما ذهبت إليه الحشويّة كما بيّناه من أنّه لا علم للإنسان بحال كان عليها قبل ظهوره في هذا العالم، ولو ذكر بكلّ شيء ما ذكر ذلك، فوضح بما ذكرناه أنّ المراد بالخبر ما شرحناه والله الموفّق للصواب (انتهى).

ويعلّق العلّامة المجلسيّ على كلامه في موضعين، الأوّل يقول فيه: "قيام الأرواح بأنفسها أو تعلّقها بالأجساد المثاليّة ثمّ تعلّقها بالأجساد العنصريّة ممّا لا دليل على امتناعه، وأمّا عدم تذكّر الأحوال السابقة فلعلّه لتقلّبها في الأطوار المختلفة، أو لعدم القوى البدنيّة، أو كون تلك القوى قائمة بما فارقته من الأجساد المثاليّة، أو لإذهاب الله تعالى تذكّر هذه الأمور عنها لنوع من المصلحة كما ورد أنّ الذكر والنسيان من صنعه تعالى، مع أنّ الانسان لا يتذكّر كثيراً من أحوال الطفوليّة والولادة. والتأويل الذي ذكره للحديث في غاية البعد لا سيّما مع الإضافات الواردة في الأخبار المتقدّمة" (بحار الأنوار ج 58 ص 144).

ويقول في الموضع الثاني: "طرح ظواهر الآيات والأخبار المستفيضة بأمثال تلك الدلائل الضعيفة والوجوه السخيفة جرأة على الله وعلى أئمّة الدين، ولو تأمّلت فيما يدعوهم إلى ذلك من دلائلهم وما يرد عليها من الاعتراضات الواردة لعرفت أنّ بأمثالها لا يمكن الاجتراء على طرح خبر واحد، فكيف يمكن طرح تلك الأخبار الكثيرة الموافقة لظاهر الآية الكريمة بها وبأمثالها، وسيأتي الأخبار الدالّة على تقدّم خلق الأرواح على الأجساد في كتاب السماء والعالم، وسنتكلّم عليها" (البحار ج 5 ص 267).

ويعلّق الشيخ المرواريد على تعليق العلّامة المجلسيّ بقوله: "أقول: ولا ينافي ذلك جلالة الشيخ المفيد، بل صدور مثل ذلك من مثله ثمّ كشف خلافه إنّما هو من الأدلّة على أنّ من قامت الحجّة القطعيّة على وجوب عصمته ينحصر في الرسول والإمام المنصوب بشخصه من قبل الله تعالى شأنه. ويحكى عنه نظير ذلك ، وهو حكمه بدفنّ حامل مع حملها" (تنبيهات ص 118).