شبهة عدم دفاع أمير المؤمنين(ع) عن الزهراء(ع)..!

السؤال: السلام عليكم..، حول قضيّة الهجوم على بيت سيّدة نساء العالمين، أتساءل: أين كان الإمام عليّ "عليه السلام" في وقتها..؟ ، وإذا كان موجوداً في البيت، فلماذا لم يفتح الباب بدلاً منها "صلوات الله عليها"..؟! ، وكيف لم يسمع الإمام ما جرى من حوار بين القوم وبينها "عليها السلام" إلّا بعد أن تعرّضت للاعتداء والضرب، رغم وجوده "صلوات الله عليه" في الدار..؟!))

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

الأخ السائل الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد.. فلا بدّ من ذكر بعض التنبيهات حتّى تُؤخذ بنظر الاعتبار من قِبَلكم في تحصيل الإجابة التامّة عن سؤالكم ، وهي كالتالي:

التنبيه الأوّل: لا شكّ في احتواء السؤال على شبهة قد أثارها المخالفون كالفضل بن روزبهان قبل ما يقرب من خمسمائة عام؛ وكان الهدف من ورائها التشكيك في أصل حادثة الاعتداء الآثم، تمهيداً لنفيها، فطرحوا مثل هذا التساؤل ليوهموا الناس أنّ الحادثة لو كانت صحيحة لكان أمير المؤمنين "عليه السلام" مخطئاً في سكوته، ومقصّراً في الدفاع عن حرمة رسول الله "صلّى الله عليه وآله"، والمفترض به "عليه السلام" أن لا يُخطئ؛ لأنّه إمام معصوم عند الشيعة ، ومن الخلفاء الراشدين عند العامّة، إلّا أن اللجوء إلى مثل هذه الأساليب الرخيصة يُعَدّ "حَيداً عن المطلوب"، فإنّ أهمّ ما في الموضوع وما له مساس مباشر بعقيدة المسلمين هو إثبات أو نفي أصل الحادثة تبعاً للأدلّة، ومع ذلك نحن مضطرون إلى الحديث في حدود السؤال؛ لأنّ البحث عن أصل الحادثة يُبعدنا عن مراد السائل الكريم.

التنبيه الثاني: اشتمال السؤال على مصادرة واضحة، إذْ يَفتَرِض السائل أنّ الواجب على الإمام (ع) آنذاك هو التصدّي والدفاع عن الصدّيقة الطاهرة "عليها السلام" مهما كانت العواقب..!، مع أنّ الواجب في الحقيقة هو الرجوع إلى منطق العقل والحكمة وما يسمح به الشارع المقدّس من ردود فعل تقي الأمّة من الفتنة والاقتتال الداخلي، وأنّ الواجب على ولي الأمر تقديم مصلحة الإسلام والمسلمين على شؤونه الشخصيّة، وقد تعهّدَ "عليه السلام" أن يلتزم بذلك في قوله: ((ووَاللَّه لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً.))[نهج البلاغة- الخطبة رقم74:ص102].

ويشهد لالتزامه (ع) بتعهّده رفضُه عرض أبي سفيان بأن يجمع له الخيل والرجال - وهو الذي جمع الأحزاب - لاستعادة الخلافة المغصوبة إن أراد ذلك، قال الطبريّ: ((حُدِّثتُ عن هشام قال حدّثني عوانة قال لمّا اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول: والله إنّي لأرى عجاجةً لا يطفئُها إلّا دمٌ. يا آل عبد مناف، فيما أبو بكر من أموركم...؟ أين المستضعفانِ أين الأذلّانِ عليٌّ والعباس..؟، وقال: أبا حسن ابسط يدك حتّى أبايعك فأبى عليٌّ عليه، فجعل يتمثّل بشعر المتلمّس:

ولن يُقيمَ على خسفٍ يُراد به * إلّا الأذلّان عِير الحيّ والوتدُ

هذا على الخسفِ معكوسٌ بِرُمَّتِه * وذا يُشَجُّ فلا يبكي له أحدُ

قال: فزجره عليٌّ وقال: إنّك واللهِ ما أردتَ بهذا إلّا الفتنة وإنّك والله طالما بغيتَ الإسلام شراً لا حاجة لنا في نصيحتك)) [تاريخ الطبريّ:ج2،ص449، والكامل في التاريخ لابن الأثير:ج2،ص326 وغيرهما].

التنبيه الثالث: لقد دأبَ الذين روّجوا لهذه الشبهة على المقايسة فيها بين آل البيت(ع) وبين غيرهم، إذْ يُقاس الإمام (ع) بغيره من عامّة الناس، وتُقاس طبيعة سلوكيّاته وردود أفعاله في هكذا حوادث شخصيّة بما عليه العرف السائد عند العوامّ، مع أنّ المقايسة المذكورة ممنوعة شرعاً، فعن أنس بن مالك عن النبيّ "صلّى الله عليه وآله" قال: ((نحن أهل بيت لا يُقاس بنا أحد))[كنز العمال للمتقي الهندي:ج12،ص104]، ولقد كان هذا المنع أمراً واضحاً لدى الصحابة، فعن أبي وائل عن عبد الله بن عمر قال: ((كنّا إذا عَدَدْنا أصحاب النبيّ "صلّى الله عليه وآله وسلم" قلنا: أبو بكر وعمر وعثمان..!، فقال رجل لابن عمر: فَعَلِيٌّ ما هو..؟ قال: إنَّ عليَّاً من أهلِ البيت لا يُقاس به أحد، هو مع رسول الله "صلّى الله عليه وآله وسلّم" في درجته، إنّ الله يقول: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}، ففاطمة مع أبيها "صلّى الله عليه وآله وسلّم" في درجته وعليٌّ معهما مع الحسن والحسين))[ينابيع المودة للقندوزيّ الحنفيّ: ج2،ص68]، فإذا عرفت ذلك فاعلم أخي السائل الكريم، أنّ لدينا نوعين من الجواب، أحدهما نقضيّ، والآخر حَلِّي:

1- فأمّا الجواب النقضيّ..، ففيه: أنّ سكوت المعصومين "عليهم السلام" عن تعرّض النساء لبعض أنواع الاعتداء والأذى لم يكن مقصوراً على حادثة الزهراء وأمير المؤمنين "عليهما السلام"، بل هنالك عدّة حوادث تعرّضت لها نساء الأنبياء "عليهم السلام" أو نساء أتباعهم ، ومع ذلك ولسبب وآخر لم ينهضوا بالسيف للدفاع عنها حينذاك، وإليك بعضاً منها لا جميعها:

النموذج الأوّل: من حوادث نساء الأنبياء "عليهم السلام" ما جاء في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة من قصّة السيّدة سارة وزوجها النبيّ إبراهيم الخليل "عليه السلام"، وخلاصتها: ((أنّ سارة كانت امرأة حسناء جميلة فدخلت مع زوجها إلى بلاد أحد الملوك الجبابرة فقيل لذلك الملك: يوجد رجل معه امرأة من أحسن الناس ولا ينبغي أن تكون إلّا لك. فأرسل في طلبهما فلمّا رآها لم يتمالك نفسه ومدّ يده لِيلمَس جسدها فأعرض إبراهيم (ع) حتّى لا يرى ذلك واشتغل بالصلاة والدعاء من الله تعالى ليكفيهما شرّ ذلك المتجبّر، فأوقف الله يد الجبّار وشَلّها عن الحركة، فطلب الرجل من سارة أن تدعو الله ليطلق يده لكي يتوب ولا يعود إلى ذلك ففعلت لكنّه عاد وفعل ذلك ثانية وثالثة وفي كلّ مرة تتوقّف يده ويستنجد بسارة، حتّى تركها وأمر بإخراجها وزوجها من مملكته...!))[صحيح البخاريّ ــ كتاب بدء الخلق: ج4،ص112، وصحيح مسلم باب فضائل إبراهيم(ع):ج7،ص98].

فقل لي أخي السائل: هل كان إبراهيم (ع) حين أعرض وتشاغل عن زوجته مقصّراً في ذلك وهو المعصوم الذي جعله الله إماماً لجميع الناس بنصّ القرآن وبلا خلاف فيه..؟!، أم كان – حاشاه ويجلّ مقامه الشريف - لا يعرف الغَيرة عليها..؟!،وقد قال الصادق "عليه السلام": ((قَالَ رَسُولُ اللَّه "صلّى الله عليه وآله" كَانَ إِبْرَاهِيمُ "عليه السلام" غَيُوراً ، وأَنَا أَغْيَرُ مِنْه ، وجَدَعَ اللَّه أَنْفَ مَنْ لَا يَغَارُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والْمُسْلِمِينَ..!))[الكافي لثقة الإسلام الكلينيّ - باب الغيرة: ج5،ص536].

النموذج الثاني: ما حصل لأمّ المؤمنين خديجة الكبرى "عليها السلام" بسبب حصار قريش للنبيّ الأكرم "صلّى الله عليه وآله" ولجميع بني هاشم، إذْ نبذوهم في العراء فجعلوهم يفترشون الأرض في شِعب أبي طالب (ع) وقاطعوهم وقطعوا عنهم الطعام والشراب لمدة ثلاث سنين حتّى أكلوا ورق الشجر" [أضواء البيان للشنقيطيّ:ج8،ص562]، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين "عليه السلام": ((فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيِّنَا واجْتِيَاحَ أَصْلِنَا ، وهَمُّوا بِنَا الْهُمُومَ وفَعَلُوا بِنَا الأَفَاعِيلَ ، ومَنَعُونَا الْعَذْبَ [أي الماء] وأَحْلَسُونَا الْخَوْفَ ، واضْطَرُّونَا إِلَى جَبَلٍ وَعْرٍ...))[نهج البلاغة من كتاب له إلى معاوية:ص368] ومات بسبب ذلك الحصار أبو طالب وخديجة "عليهما السلام"..!، ومع ذلك ما فعل النبيّ "صلّى الله عليه وآله"– وهو الذي أَغيَرُ من إبراهيم (ع) – أكثر من إعلان الحداد وتسمية ذلك العام بعام الأحزان، فما شَرَعَ رمحاً ولا انتضى سيفاً بوجه القوم..!.[ انظر البداية والنهاية لابن كثير:ج3،ص105].

النموذج الثالث: قد تكون النماذج المتقدّمة مندرجة تحت عنوان الحقوق الشخصيّة للأنبياء "عليهم السلام" فلهم حقّ التصرّف فيها بإسقاطها أو السكوت عنها؛ لأنّها من شؤونهم الخاصّة بهم، لكن..! حينما يتعلّق الأمر بأتباعهم وأممهم فليس ذلك حقّاً شخصيّاً حتّى يسقطوه أو يسكتوا عنه، ومع ذلك نراهم قد سكتوا في بعض الحوادث وأمروا أتباعهم بالصبر عليها، وسنقتصر على ذكر مشهدين هنا، أحدهما: ما حصل مع أتباع موسى "عليه السلام"،إذْ يقول تعالى: { وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}[الأعراف:127/129] ، فانظر كيف يبقر فرعون بطون نسائهم، وكيف يشتكون ذلك لموسى(ع) فلا يزيد على أن يأمرهم بالصبر وليس بالقتال مع أنّهم أمّة كاملة لا شخص واحد..!.

وأمّا المشهد الآخر: فما حصل مع المسلمين في مكّة قبل الهجرة من قتل وتعذيب للنساء المسلمات حتّى قُتِلَتْ سميّة أمّ عمّار بن ياسر تحت التعذيب فكانت أوّل شهيدة في الإسلام ، وروى ابن هشام: ((..ومرّ [أبو بكر] بجاريةِ بني مؤمّل - حيٌّ من بني عديّ بن كعب- وكانت مسلمةً، وعمر بن الخطّاب يُعذّبها لتترك الإسلام، وهو يومئذٍ مشرك، وهو يضربها، حتّى إذا مَلَّ قال: إنّي أعتذر إليكِ ، إنّي لم أترككِ إلّا مَلالةً..!، فتقول: كذلك فعل الله بك، فابتاعها أبو بكر، فأعتقها)) [السيرة النبويّة لابن هشام الحميريّ:ج1،ص211].

النموذج الرابع: لأنّ أتباع مدرسة الخلافة لم يتورّعوا عن المقايسة بين أمير المؤمنين "عليه السلام" وبين عوامِّ الناس فلنا أن نحكمهم بذلك من باب (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم) ونتساءل عمّا جرى لزوجة الخليفة عثمان، وهي نائلة بنت الفرافصة الكلبيّة فإنّ بعض الذين هجموا على داره قد لمس مواضع الحياء من جسدها وتغزّل بها ثمّ ضربها بالسيف فقطع أصابع يدها، كلّ ذلك بمرأى ومسمع من الخليفة عثمان وفي نفس الحجرة التي يجلس فيها، ومع ذلك فإنّه سكت ولم يجرّد سيفاً فيذود عنها بل بقي جالساً حتّى قتلوه على فراشه..!. [انظر التفاصيل في البداية والنهاية لابن كثير:ج7، من ص198- إلى ص212] فهل كان مقتل عثمان كذباً وهو عندهم من أصدق الأحداث على مرّ التاريخ..؟!، أو أنّ الخليفة قد تنازل عن غيرته على زوجته وهو الذي كان ولا يزال في نظرهم أفضل من عليٍّ "عليه السلام"، وقد كانت السلطة بين يديه وجيش المسلمين كلّه تحت إمرته ..؟!.

ولقد برّرَ الخليفة سكوته هذا بما روي بسندٍ صحيح - عندهم وليس عندنا - عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ": ادْعُوا لِي بَعْضَ أَصْحَابِي. قُلْتُ: أَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: لَا ، قُلْتُ: عُمَرُ؟ قَالَ: لَا ، قُلْتُ: ابْنُ عَمِّكَ عَلِيٌّ؟ قَالَ: لَا ، قَالَتْ: قُلْتُ: عُثْمَانُ؟ قَالَ: نَعَمْ ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: تَنَحَّيْ ، فَجَعَلَ يُسَارُّهُ وَلَوْنُ عُثْمَانَ يَتَغَيَّرُ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الدَّارِ وَحُصِرَ فِيهَا قُلْنَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا تُقَاتِلُ قَالَ: لَا..، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ" عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا وَإِنِّي صَابِرٌ نَفْسِي عَلَيْهِ..!))[مسند أحمد:ج6،ص51]، وسيأتي معنا رواية علماء العامّة أنّ عليّاً (ع) كان مأموراً بالصبر والسكوت..!. هذا تمام الكلام في الجواب النقضيّ، وإذا ما كان لدى القوم مبرّرٌ منطقيّ وشرعيّ يمكن من خلاله تفسير جميع هذه الحوادث، فَلْيُفسَّر بمثله سكوت الإمام "عليه السلام" عن حادثة الاعتداء..!.. هذا إن كان (ع) قد سكت فعلاً..!.

2- وأمّا الجواب الحَلِّي.. فينحلُّ إلى عدّة إجابات، وإليك أهمها أيضاً لا جميعها :

الإجابة الأولى: التزام الإمام بوصيّة النبيّ "صلّى الله عليه وآله" له بالصبر والتحمّل، فعن أنس بن مالك قال: ((كنّا مع رسول الله "صلّى الله عليه وآله" وعليّ بن أبي طالب معنا، فمررنا بحديقة، فقال عليّ: يا رسول الله، أَلَا ترى ما أحسنَ هذه الحديقة! فقال: إنّ حديقتك في الجنّة أحسن منها، حتّى مررنا بسبع حدائق، يقول عليّ ما قال، ويجيبه رسول الله "صلّى الله عليه وآله" بما أجابه. ثُمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله" وقف فوقفنا ، فوضع رأسه على رأس عليّ وبكى، فقالّ عليٌّ: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتّى يفقدوني، فقال: يا رسول الله، أَفَلا أَضَعُ سيفي على عاتقي فأُبيدَ خَضراءَهم؟! قال: بل تصبر..!، قال: فإن صبرت؟! قال: تُلاقي جُهداً [يعني أذىً شديداً]، قال: أَفي سلامة من ديني؟ قال: نعم، قال: فإذاً لا أُبالي)) [روي بعدّة طرق مختصراً ومفصّلاً في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:ج4،ص107 واللفظ له، المعجم الكبير للطبرانيّ:ج11،ص61، مسند أبي يعلى:ج1،ص427، مسند البزار:ج2،ص293 الحديث716، مجمع الزوائد للهيثميّ:ج9،ص 118وقال عنه: "رواه أبو يعلى والبزّار، وفيه: الفضل بن عميرة; وثقّه ابن حبّان وضعّفه غيره، وبقيّة رجاله ثقات"، ميزان الاعتدال للذهبي:ج4،ص480، المصنّف لابن أبي شيبة:ج7،ص502، ص323، تهذيب الكمال للمزّيّ:ج23،ص 239، المستدرك للحاكم:ج3،ص150،وقال: " هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه"،...].

الإجابة الثانية: أنّ في السؤال محلّ البحث إغفالاً وبخساً لدور الزهراء "عليها السلام" في خدمة الرسالة الإسلاميّة، فمع أنّ الذي يتلقّى الوحي هو خصوص النبيّ "صلّى الله عليه وآله" دون أهل بيته (ع)، إلّا أنّ لبقيّة أصحاب الكساء (ع) أدواراً ومشاركاتٍ فعلية كثيرة على الصعيد العمليّ في الرسالة، ولعلّ من أبرزها ما أجمع عليه المسلمون من مبيت الإمام (ع) على فراش النبيّ "صلّى الله عليه وآله" ، وتبليغه سورة براءة نيابة عنه ، ومن الخروج بهم (ع) جميعاً للمباهلة ، وعلى هذا فَلِمَ لا يكون للزهراء "عليها السلام" إسهامها بعد وفاة النبيّ "صلّى الله عليه آله" في حفظ الدعوة من الانقلاب الذي أخبر عنه تعالى بقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] ..؟! وهل كانت الزهراء "عليها السلام" - وهي سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين - لِتَقصُرَ في تضحيتها عن مريم ابنة عمران التي ضحّت بشبابها بل بسمعتها لَـمّا طُعِنَت في شرفها، فتحمّلت جميع ذلك من أجل نصرة رسالة عيسى(ع) ؟!.، قال تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}[مريم:27-28]

الإجابة الثالثة والأخيرة: وفيها خلاصة الكلام فإنّ للأنبياء والأوصياء "عليهم السلام" تكاليفهم الخاصّة ، وكذا الحال فيمن ارتبط بهم من زوجاتهم وذريّاتهم من الصالحين وغيرهم ، فمن ذلك تكليف نبيّ الله إبراهيم (ع) بترك زوجته السيّدة هاجر وولدها إسماعيل في صحراء مكّة إذْ لا كلأ فيها، ولا ماء ، والعودة عنهم إلى فلسطين ؛ للاشتغال بشؤون الدعوة إلى الله، كما في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]، ومنها تكليف أمّ موسى (ع) بإلقائه في النيل، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[القصص:7]، وهكذا الكثير من الأمثلة في المقام ؛ وحينئذٍ لا بدّ أن يكون لأهل البيت (ع) تكاليفهم الخاصّة بهم أيضاً، وإذا ثبت بالأدلّة قيامهم (ع) ببعض الأفعال المستغربة التي لم نجد تفسيراً لها ولم نفهم حكمتها فلا بدّ من حملها على أنّها تكاليف خاصّة بهم ولها حكمتها الخافية علينا، هذا مضافاً إلى ضرورة أخذ عقيدتنا في عصمتهم (ع) بنظر الاعتبار وجعلها الثابت والمنطلق الذي ننطلق منه في حمل تلك الأفعال على الصحّة والصواب، ثمّ نَرُدُّ تفسيرها وفهم حقيقتها إليهم (ع) تماماً كما نفعل ذلك مع أحاديثهم، قال الإمام الباقر(ع): (( إنّ حديثنا صعب مستصعب لا يؤمن به الّا نبيّ مرسل أو ملك مقرّب أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان فما عرفت قلوبكم فخذوه وما أنكرت قلوبكم فردّوه إلينا))[بصائر الدرجات للصفار:ص43] ، وعليه فليكن هكذا أيضاً تعاملنا مع شؤونهم (ع) وسائر أحوالهم وأمورهم التي لم نفهمها ؛ لأنّها هي الأخرى صعبة مستصعبة، كما قال أمير المؤمنين (ع) ((إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْمِلُه إِلَّا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللَّه قَلْبَه لِلإِيمَانِ ولَا يَعِيَ حَدِيثَنَا إِلَّا صُدُورٌ أَمِينَةٌ وأَحْلَامٌ رَزِينَةٌ))[نهج البلاغة - تحقيق صبحي صالح:ص280].هذا مختصر ما يمكن الإجابة به في المقام ..، ودمتم سالمين.