هل يسمح الله لأتباعه بالفشل؟

السؤال: إذا كان «الله» قويّاً أو عادلاً؛ فَلِمَ سمح لأتباعه بأن يتمّ هزيمتهم أو قتلهم أو إهانتهم، ولما جعل أتباعه الافشل من ناحية الإبداع العلمي, أو لما سمح للحيوانات البريئة بأن تُقتَل ببشاعة، أو للبشر بأن يولدوا بأمراض مميتة أو بإعاقة دائمة، أو بأن تكون العشوائية هي الصفة الغالبة على الحياة

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

لدينا الكثير من الأجوبة في مركزنا عن أسئلة شبيه بهذا السؤال، وقد ناقشنا في كثير من العناوين فلسفة وجود الكوارث الطبيعيّة والأمراض والإعاقات التي تصيب البعض، ولذا سوف نجعل الإجابة مختصّة بالسؤال الذي يسأل عن تخلّي الله عن المؤمنين وتركهم في حالة من التخلّف والفقر والفشل، بالنقاط الآتية.

أوّلاً: ممّا لا شكّ فيه أن خالق السماوات والأرض وما فيها يتّصف بالقوّة والقدرة والعدل وجميع صفات الكمال والجمال، وعليه فليس الأمر مجرّد افتراض ليبدأ السائل بقوله: إذا كان الله قويّاً أو عادلاً؟ فأمام السائل خياران، الأوّل: أن يؤمن بوجود الله الخالق لكلّ شيء، وحينها يترتّب على ذلك الإيمان بأنّه قويّ وقادر وحكيم. والثاني: أن ينكر وجوده سبحانه وتعالى وحينها يكون مطالباً بتعريفنا بمن خلق كلّ هذا الكون، إذ لا يمكن للعقل التصديق بأنّ الكون أوجد نفسه أو أنّه وجد من فراغ ومن لا شيء.

ثانياً: تحميل السائل لله مسؤوليّة المظالم في الحياة دليل على إقراره بأنّ وجوده تعالى هو الوحيد الذي يجعل للحياة حِكمة، فإذا كان الكون خلق من عدم ويمضي إلى عدم فبأيّ حقّ نسأل عن وجود العدل أو الظلم؟ وكلّ ذلك يتوقّف على وجود إرادة حكيمة تقف خلف وجود الكون. وهنا نضع السائل أيضاً أمام خيارين، الأوّل: أن يعترف بأن وراء وجود الكون حِكمة، وحينها لا بدّ أن يعترف بوجود إله قويّ وعادل وحكيم، والخيار الثاني: أن لا يؤمن بوجود حِكمة من وجود الكون وكلّ ما فيه عبث في عبث، وفي هذه الحالة لا يمكنه أن يطالب بالعدل أو يعترض على الظلم مادام العبث هو الذي يحكم كلّ شيء.

ثالثاً: الله تعالى في نظر المؤمنين به هو إله جميع المخلوقين وليس خاصّاً بفئة دون الأخرى، فالله ربّ العالمين والجميع تحت سلطانه وعدله ورحمته، يقول تعالى: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، ويكرّر المؤمنين كلّ يوم عشرات المرّات قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فليس هناك فرق بين المؤمن والكافر بالنسبة للقوانين والسنن التي تحكم الوجود، فالجميع خاضع لمعادلة واحدة، أي أنّ الله سخّر الكون للإنسان بما هو إنسان، فمن يعمل وفقاً لهذه السنن والأسباب يصل حتماً إلى النتيجة سواء كان مؤمناً أم كافراً، ولا يجوز للمؤمن أن يتخلّى عن مسؤوليّته في إعمار الارض بحجّة أنّه مؤمن بالله، فالكافر مطالب بالإيمان بالله ولا يعفيه عن ذلك تمكّنه من أسباب الحياة؛ وذلك لأنّ الدنيا ليست خاتمة المطاف وإنّما هناك حياة أخرى يجب أن يعمل لها أيضاً، وفي المقابل المؤمن مطالب بإعمار الأرض والعمل على وفق السنن والأسباب ولا يعفيه إيمانه بالله عن القيام بذلك؛ وذلك لأنّه ليس مسؤولاً عن حياته الأخرويّة فحسب، وإنّما مسؤول عن حياته الدنيويّة أيضاً، يقول تعالى: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا).

وإن كان الإيمان يعفي عن الأخذ بالأسباب لكان رسول الله أولى بهذا العفو، ومع ذلك فقد واجه الفقر بالعمل، والجهل بالعلم، والمرض بالعلاج، وكان يستعيذ بالله من الهمّ والحزن والعجز والكسل، ويتّخذ الأسباب في الأكل والشرب، ولم ينتظر أن ينزل عليه الرزق من السماء. وقال لمن سأله: هل يعقل ناقته أو يتركها ويتوكّل؟ قال: "اعقلها وتوكّل". وقال: "وَفِرْ من المجذوم فرارك من الأسد".

قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) (الأنفال: 60). إنّ تحقيق التمكين لهذا الدين يتطلّب الاستعداد بكلّ أسباب القوّة، وقد أولى القرآن الكريم أهمّية كبيرة في توجيه الأمّة نحو العمل والأخذ بالأسباب، فما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب كما يقول الأصوليّون.

وفي الحديث كما رواه الكلينيّ في الكافي عن أبي عبد الله (ع) قال: "أَبَى اللَّه أَنْ يُجْرِيَ الأَشْيَاءَ إِلَّا بِأَسْبَابٍ فَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا وجَعَلَ لِكُلِّ سَبَبٍ شَرْحًا وجَعَلَ لِكُلِّ شَرْحٍ عِلْمًا وجَعَلَ لِكُلِّ عِلْمٍ بَابًا نَاطِقًا عَرَفَه مَنْ عَرَفَه وجَهِلَه مَنْ جَهِلَه" (الكافي ج1 ص 183).

رابعاً: ليس هناك أقدار حتميّة على الإنسان وكلّ ما يصيبه فهو من جهده وعمله، فالذي يعيش في الظلم ولا يسعى لتغيير وضعه يكون ظالماً لنفسه، فالله منح الإنسان العقل والقدرة والإرادة وهيّأ له أسباب الحياة الكريمة فلا يتوقّع بعد ذلك أن ينوب الله عنه ليعمل بدلاً منه، وقد بيّن القرآن الكريم نموذجاً لهؤلاء في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا). فقد وصفتهم الآية بأنّهم ظالمي أنفسهم مع أنّهم يعيشون حالة من الظلم والاستضعاف، وأرجعت الآية السبب في ذلك إلى مسؤوليّتهم الشخصيّة عن رفع الظلم عنهم، ولم تكتفِ الآية بذلك وإنّما بيّنت لهم أحد الخيارات التي كان بإمكانهم العمل بها وهي الهجرة بعيداً عن الظالمين، وبالتأكيد الخيارات متعدّدة ومختلفة بحسب الظرف الزمنيّ، ولا عذر للإنسان أمام ما يصيبه من ظلم واستضعاف.

وقد قلنا في إجابة سابقة، لا نجد أيّ مبرّر لحشر قضيّة الإيمان بالله فيما يحدث في عالمنا من مظالم، إلّا أن يكون نوعاً من التهرّب من المسؤوليّة وإيكال الأمر إلى الغيب، فالله سبحانه خلق الإنسان ومنحه القدرة والعقل والإرادة وسخّر له كلّ ما في الدنيا ليبني لنفسه حياة سعيدة، فكيف بعد ذلك يحمّل الله مسؤوليّة ما يصنعه بيديه؟ والعجيب أنّ الإنسان في حالة الرخاء ينسى الله ويتصوّر ما عنده من نعم استحقّها بمقدّراته وكسبه الخاصّ، كما هو حال قارون الذي (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي) وفي المقابل إذا ما ضاقت على الإنسان معيشته عَـدّ ذلك إهانة وظلماً من الله، قال تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً)

وفي المحصّلة أنّ الظلم موجود في هذا العالم من سوء تقدير الإنسان وظلمه لنفسه ولغيره وليس من تقدير الله على العباد، وإن كان المسلمون اليوم يعيشون حالة من التخلّف والرجعيّة فإنّ السب يعود إلى ابتعادهم عن القيم الحضاريّة التي نادى بها الإسلام، فالعلم، والعمل، والتقدّم، والتطور، والعدل، والحرية، والمسواة، والتنمية، وغير ذلك من قيم النهوض تمثل قيماً إسلامية لا تتمّ العبادة لله إلّا بها، كما أنّ الضمير الأخلاقيّ الذي ينمّيه الإسلام في نفسيّة الأمّة هو الضامن لحصانة الأمّة من الانحراف، إلّا أنّ الأمّة تخلّت عن قيمها وعن ضميرها الأخلاقيّ فكان هذا هو حالها.

وعليه فإنّ مسؤوليّة الإنسان المرتبط بالله هي تحمّل أمانة خلافته في الأرض، فواجب المؤمن هو منع الفساد والظلم وإقامة حكم الله في الأرض، ومن هنا فإنّ الذي يبحث عن الإله الذي يكون بديلاً عنه للقيام بواجبه في إعمار الارض ومنع الفساد لن يجده، وأمّا الذي يبحث عن الإله الذي يستمدّ منه قيم الحقّ والفضيلة لكي يقوم بواجبه ومسؤوليّاته، فإنّه سيجده معه في كلّ خطوة من خطواته وفي كلّ موقف من مواقفه.