الاجتهاد الممدوح والاجتهاد المذموم

السؤال: تقوم بعض الجهات بتوزيع منشورات تتضمن أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) في ذم الاجتهاد، فما هو الجواب عن هذه الروايات؟

: - اللجنة العلمية

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لا يخفى أنّ الإنسان المكلّف يجب عليه أن يتعلّم الأحكام الشرعيّة مقدّمة لامتثالها، وطريق تعلّمها إمّـا من خلال النظر في الأدلّة الشرعيّة مباشرةً إنْ كان أهلاً لها، وإمّـا من خلال الرجوع إلى مَن له الأهليّة للرجوع إلى الأدلّة. والطريق الأوّل يُسمّى بالفقاهة والاجتهاد، والطريق الثاني يسمّى بالتقليد. ومن الواضح أنّ الاجتهاد بهذا المعنى – أي بذل الوسع لاستنباط الحكم من الأدلّة الشرعيّة – ممدوحٌ، بل هو من الأمور الضروريّة؛ لكونه طريقاً لمعرفة الحكم الشرعيّ.

ولكنْ، لأنّ كلمة (الاجتهاد) – الذي هو في اللّغة بمعنى بذل الوسع والطاقة – قد استُعملت عند علماء المخالفين على أساس أنّها قاعدةٌ مستقلّةٌ في الاستنباط، وتعني: « أنّ الفقيه إذا أراد أن يستنبط حكماً شرعيّاً ولم يجد نصّاً يدلّ عليه في الكتاب والسنّة رجع إلى الاجتهاد بدلاً عن النصّ »، فالاجتهاد عندهم هو التفكير الشخصيّ للفقيه، ويعدّ دليلاً من الأدلّة، فكما أنّ الفقيه يستند إلى الكتاب والسنّة كذلك يستند في حالات عدم توفّر النصّ إلى تفكيره الخاصّ ويبني على ما يرجّحه في فكره الشخصيّ.

ثُمَّ إنّ الاجتهاد يستعمل بمعنى (القياس). قال الشافعيّ: (ما القياس؟ أهو الاجتهاد أم هما مفترقان؟ قلت: هما اسمان لمعنى واحد) [الرسالة ص477]، أو بمعنى يعمّ (الاستحسان) و(الاستصلاح) أيضاً والتي يجمعها (القول بالرأي)، قال السمعانيّ: (الذي عليه جمهور الفقهاء هو أن الاجتهاد غير القياس وهو أعمُّ لأنّ القياس يفتقر إلى الاجتهاد وهو من مقدّماته وليس الاجتهاد يفتقر إلى القياس) [قواطع الأدلّة ج2 ص71].

فالاجتهاد بهذا المعنى – أي القياس أو القول بالرأي – هو الذي درج عليه علماء المخالفين، واشتهرت به مدرسة أبي حنيفة، وهو باطلٌ عند الإماميّة، ولقي معارضة شديدة من الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، ووردت عنهم روايات كثيرة في ذلك، فكلُّ ما ورد من رواياتهم (عليهم السلام) في ذمّ الاجتهاد في الإفتاء فالمقصود به هذا المعنى، إذْ كان مصطلحاً عليه في ذلك الزمان.

وقد صرّح ببطلانه أيضاً علماء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وإليك كلامَ عالمين من علماء الطائفة، قال الشيخ الطوسيّ: (وأمّـا القياس والاجتهاد فعندنا أنّهما ليسا دليلين، بل محظور استعممالهما) [العدّة في أصول الفقه ج1 ص8]، وقال ابن إدريس: (والقياس والاستحسان والاجتهاد باطلٌ عندنا) [السرائر ج2 ص170].

بل صنّفوا في الردّ على أصحاب الرأي والاجتهاد رسائل وتصانيف، منها: كتاب الاستفادة في الطعون على الأوائل والردّ على أصحاب الاجتهاد والرأي لعبد الله بن عبد الرحمن الزبيريّ، ومنها: كتاب الردّ على مَن ردّ آثار الرسول واعتمد نتائج العقول لهلال بن إبراهيم، ومنها: كتاب النقض على عيسى بن أبان في الاجتهاد لإسماعيل النوبختيّ. [ينظر رجال النجاشيّ].

ثـمّ إنّ كلمة (الاجتهاد) تطوّرت في مصطلح فقهاء الإماميّة إلى معنى آخر مغاير للمعنى الذي تبنّاه علماء المخالفين، وهو أن يبذل الفقيه جهده الفكريّ لاستنباط الحكم الشرعيّ من الأدلّة الشرعيّة – وهي الكتاب والسنّة -، فنفس عمليّة الاستنباط يسمّى اجتهاداً، قال المحقّق الحليّ [ت676هـ] – الذي يعدّ كلامه أقدم نصّ يبيّن هذا التطوّر -: (وهو في عرف الفقهاء: بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعيّة، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلّة الشرع اجتهاداً) [معارج الأصول ص179]،

فهذا المعنى للاجتهاد – كما هو واضح – اصطلاحٌ آخر غير الاصطلاح الذي درج عليه علماء المخالفين، والذي ورد الذمّ له في كلمات المعصومين (عليهم السلام) والعلماء الأبرار (رضوان الله عليهم).

والفرق بين الاصطلاحين لكلمة (الاجتهاد) واضح؛ إذْ إنّ الاجتهاد في الاصطلاح الأوّل – الذي عليه المخالفون، وتصدّى له المعصومون والعلماء بالذمّ والتشنيع – هو أن يستنبط الفقيه من تفكيره الخاصّ في حالة عدم توفّر النصّ، فإذا قيل له: ما هو دليلك ومصدرك؟ قال: الدليل هو اجتهادي وتفكيري الخاصّ، في حين أنّ الاجتهاد في الاصطلاح الثاني – الذي عليه متأخّرو الإماميّة – لا يسمح للفقيه أن يبرّر أيّ حكم من الأحكام بأنّه من اجتهاده وتفكيره؛ لأنّ الاجتهاد ليس مصدراً للحكم، بل هو نفس عمليّة استنباط الأحكام من مصادرها، فإذا استنبط الفقيه حكماً من الأدلّة وقال: هذا اجتهادي، فهو يعني أنّ هذا هو ما استنبطه من الأدلّة، وعندما نسأله عن الدليل يرشدنا إلى تلك الأدلّة من الكتاب والسنّة، فليس رأيه هو الدليل، بخلاف المصطلح الأوّل.

فالحاصل: الاجتهاد لغة هو بذل الجهد والوسع، وله معنيان اصطلاحيّان:

أحدهما: مذموم، وهو التفكير الشخصيّ للفقيه واعتباره دليلاً من أدلّة الأحكام الشرعيّة، وهذا المعنى هو الذي درج عليه المخالفون، وذمّه المعصومون (عليهم السلام).

والآخر: ممدوح: وهو عمليّة استنباط الحكم الشرعيّ من الأدلّة الشرعيّة، فالاجتهاد هو نفس عمليّة الاستنباط، وليس دليلاً من أدلّة الأحكام، وهذا المعنى هو الذي جرى عليه متأخّرو الإماميّة.