هل الزمان واجب الوجود لذاته؟
السؤال: ذكر بعض الفلاسفة أنّ للزّمان وجوداً مفارقاً للمادّة، إذْ إنّه جوهر أزليّ مستقلّ بالقيام بنفسه، وهو واجب الوجود بذاته، فيستحيل أن يتعلّق بالحركة، ويجوز أن يوجد الزمان، وإن لم توجد الحركة.
الجواب:
هناك نقاشات مطوّلة ومعقّدة بين الفلاسفة حول وجود الزمان وحول ماهيّته وحقيقته، وهل هو جوهر أو عرض؟ وهل هو جوهر مادّي أو جوهر مفارق، وغير ذلك من الاسئلة، ولا يسعنا في هذا المقام التطرّق لهذه النقاشات أو ترجيح أحدها على الآخر، ولذا سوف نكتفي بالإشارة إلى الرأي الذي تطرّق إليه السائل، وهو أنّ للزمان وجوداً مفارقاً وهو واجب الوجود بذاته.
ويبدو أنّ فخر الدين الرازيّ هو من تبنّى هذا الموقف ونسبه للأفلاطونيّة، بعد أن ناقش تصوّرات المشّائين والمتكلّمين وردّها جميعها، فقد انتقد تصوّر المتكلّمين الذين نفوا وجود الزمان أصلاً تحرّزاً من القول بقدم العالم، فالزمان عندهم مجرّد توقيت تصنعه النفس كوسيلة لرصد الحوادث الخارجيّة، وانتقد أيضاً تصوّر المشّائين لماهيّة الزمان بما هو كمّ متّصل ومقدار للحركة، كلّ ذلك دفع الرازيّ للبحث عن تصوّر أكثر تماسكاً وأقلّ عرضة للشكوك، فبلور إطروحة نسبها إلى أفلاطون، مضمونها أنّ الزمان جوهر قائم بنفسه مستقلّ بذاته، وإن كان يبدو في شعورنا متجدّد وسيّال، إلّا أنّه في الحقيقة ثابت وسابق للحركة والأجسام.
وما نفهمه من هذا الطرح أنّ للزمان بعدين، (فيزيائيّ، وميتافيزيقيّ)، فيزيائيّ من حيث كونه ملابساً للظواهر الزمانيّة مثل اليوم والشهر والسنة، فحركة الأفلاك والكواكب وانقسام الزمان إلى وحدات كلّ ذلك مرتبط بالزمان الفيزيائيّ، وفي مقابل ذلك هناك الزمان الميتافيزيقيّ وهو الأزل الباقي في وحدته أو هو المثال الذي خلق العالم على صورته، فبحسب فلسفة المثل الأفلاطونيّة هناك ماهيّات كلّيّة مجرّدة في الخارج مثل إنسان كلّيّ أزليّ وفرس كلّيّ أزليّ، فقياساً على ذلك هناك أيضاً زمان كلّيّ مجرّد سمّوه الدهر، ومكان كلّيّ مجرّد سمّوه الخلاء، ومادّة كلّيّة مجرّدة سمّوها الهيوليّ، وهذا خلاف ما تبنّته الفلسفة المشّائيّة التي تقول إنّ جميع هذه الكلّيّات موجودة فقط في الذهن وليس لها وجود في الخارج.
ويبدو من ذلك أنّ القول بكون الزمان جوهر مفارق له استقلال عن المادّة والحركة لا يمكن تصوّره إلّا من خلال نظريّة المثل الأفلاطونيّة، أمّا بحسب فلسفة أرسطو فإنّ الزمان لا يمكن تصوّره خارج حدود المادّة والحركة، فمتى كان هناك أحساس بالحركة كان هناك إحساس بالزمان، ومتى انتفى ذلك انتفى معه الزمان، وعليه يكون الزمان حادثاً ولكنه ليس حدوثاً زمانيّاً، أي لم يكن مسبوقاً بزمن وإنّما مسبوقاً بعلّته ومبدعه فقط، يقول ابن سينا: "ليس الزمان محدثًا حدوثًا زمانيًّا، بل حدوث إبداع لا يتقدَّمه محدثه بالزمان والمدّة، بل بالذات، ولو كان له مبدأ زمانيّ لكان حدوثه بعدما لم يكن؛ أي بعد زمان متقدِّم" (ابن سينا، برنارد كارا دو فو، ترجمة عادل زعيتر، ص 121)
ويقول السيّد الطباطبائيّ في نهاية الحكمة: "الحدوث الزمانيّ كون الشيء مسبوق الوجود بعدم زمانيّ، وهو حصول الشيء بعد أن لم يكن.. ويقابل الحدوث بهذا المعنى القدم الزمانيّ الذي هو عدم كون الشيء مسبوق الوجود بعدم زمانيّ... وهذان المعنيان إنّما يصدقان في الأمور الزمانيّة التي هي مظروفة للزمان منطبقة عليه، وهي الحركات والمتحرّكات. وأمّا نفس الزمان فلا يتّصف بالحدوث والقدم الزمانيّين، إذ ليس للزمان زمان آخر حتّى ينطبق وجوده عليه فيكون مسبوقا بعدم فيه أو غير مسبوق" (نهاية الحكمة 289). وهو بذلك يؤكّد بأنّ الزمان لا يمكن أن يتّصف بالحدوث أو القدم الزمانيّ؛ وذلك لعدم وجود زمان آخر لينطبق وجوده عليه أو يقاس حدوثه وقدمه عليه.
والذي يبدو لنا أنّ القول بجوهريّة الزمان ومفارقته للمادّة لا يقتضي القول بكونه واجباً للوجود، فبالإمكان تصوّره جوهراً مفارقاً وواجباً للوجود ولكن بغيره وليس بذاته، فالقول بكونه واجباً للوجود بذاته يتعارض مع كون الله هو واجب الوجود، فإمّا أن يكون هناك أكثر من واجب للوجود وهو محال، وإمّا أن يكون الزمان هو ذاته الله كما ادّعى البعض، وهذا لا يمكن قبوله لاتّصاف الزمان بما لا يمكن أن يتّصف به الله، وقد استدلّ الرازيّ على رفض ذلك بكون الزمان منقضياً ومتغيّراً يتقدّم أجزاءه بعضها على بعض لذاتها وتتقدّم الحوادث بعضها على بعض بسببها، وإلّا لو كان ثابتاً لامتنع تقدّم الحوادث بعضها على بعض، ولذا يبدو أنّ الرازيّ مال إلى كونه جوهر مفارق ولكنّه واجب الوجود بغيره، فحتّى لو كان الزمان جوهر ثابت بنفسه ومفارق للمادّة فإنّ ذلك لا يكون عائقاً أمام الاستدلال على وجود الله، ما دام أنّه ممكن الوجود، وإمكانه يجعله بالضرورة مضطرّ إلى فاعل واجب والوجود.
ومن أراد أن يفهم أكثر حول هذا الموضوع ومن دون الدخول في نقاشات فلسفيّة طويلة ومعقّدة يمكنه الرجوع إلى بحث أكاديميّ منشور بعنوان (تصوّر فخر الدين الرازيّ لحقيقة الزمان ومرجعيّته الأفلاطونيّة) لأستاذ الفلسفة محمّد الصادقي، على الرابط التالي:
اترك تعليق