معنى قول الإمام (ع): "كنت إذاً أهجر"
السؤال: ما هو المراد من قول الإمام (ع) «كنت إذاً أهجر» في حديث حمران بن أعين قال: «قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): أنبياء أنتم؟ قال: لا. قلتُ: فقد حدَّثني من لا أُتهم أنك قلت إنَّكم أنبياء، قال: من هو أبو الخطاب؟ قال: قلت: نعم، قال: كنت إذا أهجر»؟ فهل هذا النص يخدش بعصمة الإمام؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم –أيدك الله– أن هذه الرواية وردت في مصدرين، وجاءت العبارة - محلّ الشاهد - فيها بصياغتين:
الأول: روى الشيخ الصفار بإسناده عن حمران بن أعين قال: «قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): أنبياء أنتم؟ قال: لا، قلتُ: فقد حدّثني مَن لا أتّهم أنّك قلتَ إنّا أنبياء، قال: مَن هو؟ أبو الخطّاب؟ قلت: نعم، قال: كنت إذاً أهجر. قلت: فبما تحكمون؟ قال: بحكم آل داود، فإذا ورد علينا شيءٌ ليس عندنا تلقّانا به روح القدس» [بصائر الدرجات ص278 وص482].
الثاني: نقل الراونديّ مرسلاً: «وقال حمران بن أعين لأبي عبد الله (عليه السلام): أنبياء أنتم؟ قال: لا قلت: حدثني من لا أتهمه أنَّكم أنبياء، قال: من هو؟ أبو الخطاب؟ قلت: نعم. قال: هجر»، وفي نسخةٍ: «قال: أهجر» [الخرائج والجرائح ج2 ص860].
وقبل بيان المراد من الفقرة المذكورة، ينبغي التنبيه على أمر، وهو أنّ أبا الخطّاب وجماعة ادّعوا النبوّة في الإمام الصادق (عليه السلام)، فلعنهم الإمام وتبرّأ منهم، وصدرت منه نصوصٌ كثيرةٌ في البراءة منهم، منها: قوله (عليه السلام): «أبرأ ممّن يزعم أنّا أنبياء» [رجال الكشيّ ج2 ص587]، ومنها: قوله (عليه السلام): «مَن قال إنّا أنبياء، فعليه لعنة الله، ومَن شكّ في ذلك فعليه لعنة الله» [رجال الكشيّ ج2 ص590]، وغيرها من النصوص.
فإذا تبيّن ذلك، فاعلم أنّ الفقرة المذكورة: «كنت إذاً أهجر» - كما في البصائر -، و«هجر» أو «أهجر» - كما في الخرائج – يراد بها الردّ على المقولة التي نسبها أبو الخطّاب للإمام الصادق (عليه السلام)؛ وذلك لأنّها وردت عقيب قول حمران: «حدّثني مَن لا أتّهم أنّك قلت: إنّا أنبياء»، فنفى ذلك الإمام بقوله: «كنت إذاً أهجر» أو قوله: «هجر» أو «أهجر»
أمّـا ما ورد في الخرائج: «هجر» أو «أهجر» - حسب اختلاف النسخ – فمعناه واضح؛ إذ قوله: «هجر» يدلّ على هذيان أبي الخطّاب، وقوله: «أهجر» استفهام عن هذيان أبي الخطّاب.
إذن: ما ورد نقل الخرائج يدلّ على أنّ الإمام (عليه السلام) ينسب الهذيان لأبي الخطّاب، وهذا أسلوبٌ بليغٌ في ردّ هذه المقالة المكذوبة وبيان سخافتها.
أمّـا ما ورد في البصائر: «كنتُ إذاً أهجر»، فهو ظاهرٌ في الردّ على أبي الخطّاب – إذ ورد تعليقاً على كلام أبي الخطّاب –، ويمكن أن تُفسَّر بوجوه عديدة ذكرها العلماء، نذكر منها وجهين:
أحدهما: أنّ العبارة وردت بصيغة جواب الشرط عن فعله المحذوف المقدّر، كما هو معروفٌ في لسان العرب، وحاصله: لو قلتُ ذلك الكلام لكنتُ إذنْ أهجرُ، والمقصود: لم أقل ذلك وهو مكذوب عليّ؛ إذ لو قلته لكنتُ أهذي، والهذيان لا يصدر عنّي.
قال العلّامة المجلسيّ: (قوله (عليه السلام): «كنت - إذاً - أهجر»، أي: لم أقل ذلك وكُذِبَ عليّ؛ إذ لو قلتُ ذلك لكان هذياناً، ولا يصدر مثله عن مثلي) [بحار الأنوار ج25 ص56].
والآخر: أنّ العبارة وردت بصيغة الاستفهام التوبيخيّ، ومعناه: أنّك لو كنتَ – يا حمران – تصدّق أبا الخطّاب في مقالته المكذوبة هذه، فهل أنا أهذي حتّى تصدّق صدور مثل هذا الكلام عنّي؛ فالعاقل لا يصدر منه مثل هذا الكلام؟!
قال العلّامة المجلسيّ: (قوله (عليه السلام): «كنتُ إذاً أهجرُ»... على صيغة التكلّم وكذا «أهجر» أيضاً على التكلّم ويكون على الاستفهام التوبيخيّ، أي: على قولك حيث تصدّق أبا الخطاب في ذلك، فأنا عند هذا القول كنت هاذيّاً؛ إذ لا يصدر من العاقل مثل ذلك في حال العقل) [بحار الأنوار ج52 ص320].
إذن: يريد الإمام (عليه السلام) بمقالته: «كنت إذاً أهجر» الردّ على أبي الخطّاب وبيان كذبه، فهي صادرةٌ لبيان سخف القول بنبوّته أو لتوبيخ حمران في الاعتماد على نقولات أبي الخطّاب.
ولا يعقل أن يريد الإمام (عليه السلام) بمقالته، أن ينسب الهجر – أي الهذيان – لنفسه حقيقةً؛ لأنّه حينئذٍ سيكون إقراراً بأنّه – والعياذ بالله – ادّعى النبوّة، ويكون تصديقاً لكلام أبي الخطّاب الكذّاب، وهذا اللازم باطلٌ جزماً ويقيناً، خصوصاً مع ما تقدّمت الإشارة إليه من ورود رواياتٍ كثيرةٍ عنه (عليه السلام) في لعن مَن يدّعي فيه النبوّة والبراءة منهم وتكذيبهم.
نكتفي بهذا القدر، والحمد لله أوّلاً وآخراً
اترك تعليق