ذبح الحيوان والرحمة الإلهية

السؤال: كيف يُبيح الإسلام ذبح الحيوان مع حرصه الشديد على الرحمة به ـ الذي تتميز به تعاليم الدين ـ وعدم جواز تعذيبه؟

: الشيخ أحمد الكعبي

الجواب:

يثير البعض إشكاليَّةً أخلاقيَّةً في تعامل الإنسان مع الحيوانات، مبرزًا أوجه التشابه بينهما في الشعور بالألم والخوف من الموت، ومدى انسجام ذلك مع المفاهيم الدينيَّة. حيث يرى البعض أنَّ الحيوانات كالإنسان، تمتلك روحًا تختبر الألم ومرارة الفناء، وتنزع إلى الحفاظ على الذات، ما يُوجِب التعاطف معها وعدم تعذيبها، فما يُسبِّب معاناةً للإنسان يُسبّبها لها. ويستند هذا الموقف إلى قياسٍ منطقيٍّ يُطالب بتمديد الرحمة الإنسانية لتشمل سائر الكائنات الحية، فإذا كان الألم مرفوضًا عندما يلحق بالإنسان، فكيف يُبرّر إلحاقه بغيرهم ممن يشاركونه هذه القدرة على الشعور؟

ثم ينتقل السائل إلى تساءل: كيف تتلاءم رحمة الله الواسعة وتنسجم مع جواز قتل الحيوان لإرضاء رغبات الإنسان، رغم أنَّ كليهما خلْق لله تعالى ويستحق الحياة؟ فحرمان الحيوان من نعمة البقاء لمجرد التلذذ البشريّ يعتبر مناقضاً لعدالة الخالق ورحمته.

في المقابل، تُقدّم الرؤية الإسلاميَّة إجاباتٍ عن الإشكاليات الأخلاقيَّة حول تعذيب الحيوانات وأكلها، مُستندةً إلى تحليلٍ كونيٍّ وفلسفيٍ يُبرر هذه الممارسات ضمن نظام الخلق الإلهي.

فالنقد القائم على العواطف الإنسانيَّة ـ بحسب السائل ـ يغفل حقيقة أنَّ الكون مُؤسسٌ على ناموس التحول والتبادل الغذائيّ، حيث تُصبح كلّ مادةٍ في الوجود قابلةً للتحول إلى أخرى، سواءٌ بفعل التفكك الطبيعيّ أو عبر السلسلة الغذائيَّة. فالأرض تبتلع الأجسام الميتةَ لتعيدها عناصر أوليَّةً تُغذي النبات، والنبات يصير غذاءً للحيوان العاشب، الذي بدوره يُصبح فريسةً للحيوان المفترس، وهكذا في دورةٍ لا تنتهي حتى تعود الجميع إلى الأرض.

هذا النظام ـ بكل ما فيه من افتراس وتحلُّل ـ ليس فوضويّا، بل هو تعبيرٌ عن حكمة الخالق في ضمان استمرار الحياة عبر توازنٍ دقيقٍ بين الآكل والمأكول.

ولا ينفصل الإنسان عن هذا الناموس الكونيّ، بل هو جزءٌ مُتناغمٌ معه. فتركيبه الجسديّ ـ من أسنانٍ تجمع بين القواطع لتمزيق اللحوم، والطواحن لطحن النبات ـ دليلٌ على أنَّ الله تعالى سوَّاه تسويةً تتيح له التغذي على كليهما. والأمر لا يقف عند الهيكل العظميّ، بل يتعدَّاه إلى الشهوة الفطريَّة للحم، وقدرة الجهاز الهضميّ على معالجته، ما يُشير إلى هدايةٍ تكوينيَّةٍ من الخالق، تُبيح له ما يتناسب مع فطرته.

وهنا نتساءل ونقول: إذا كان التكوين البشريّ نفسه بكل تفاصيله يُشير إلى إباحة أكل اللحوم، فكيف يُناقض ذلك رحمةَ الله تعالى؟

الجواب: التشريع الإلهيُّ لا ينفصل عن السنن الكونيَّة، بل هو تنظيمٌ لها. فالإذن بأكل اللحوم مع اشتراط الذبح الرحيم ليس انتهاكاً للرحمة، بل تحقيقٌ لتوازنٍ أعظم؛ إذ يضمن بقاء الإنسان مع تقليل معاناة الحيوان قدر الإمكان. فالرحمةُ الإلهيَّة لا تعني إلغاء الألم مطلقًا، فهذا مستحيلٌ في عالمٍ قائمٍ على التغذية المتبادلة، بل تعني ضبطه ضمن حدود المصلحة العامة.

أما الفرق بين الهداية التكوينية - كالأسنان والشهوة - والتشريع الأخلاقي - كأحكام الذبح - فهو فرقٌ وظيفيٌّ: الأولى تُبيّن الإمكانيَّة الطبيعيَّة، والثانية تُنظمها أخلاقيًّا. فليس التناقض بينهما حقيقيّا، لأنَّ النظام الكوني بافتراس الحيوانات لا يُلغي الرحمة، ما دامت الغاية هي حفظ الحياة، لا التعذيب العبثي.

خلاصة الأمر، يجب التوفيق بين العاطفة الإنسانيَّة المُشفقة على الحيوان، وبين إدراك الحكمة الكامنة في النظام المادي. فرفضُ أكل اللحوم بناءً على العاطفة وحدها يتجاهل أنَّ التبديل والتغذية المتبادلة قانونٌ كونيٌّ لا يُحابي كائناً على آخر، وأنَّ الخروج عنه يعني اختلالَ الحياة نفسها. ومع ذلك، يبقى الضمير الأخلاقيُّ المُستمد من الدين ضروريّا لضمان ألا يتحول هذا النظام إلى فوضى قائمةٍ على القسوة، بل يظلّ ضمن إطار الرحمة المُنضبطة بالحكمة.

الإسلام دين فطريّ يرتكز على إحياء الفطرة الإنسانيَّة السليمة التي فطر الله تعالى الناس عليها، بعيداً عن تشوهات الجهل والأهواء، فهو لا يهدف إلَّا إلى حماية جوهر الإنسان وتنمية جسمه وروحه ومجتمعه، وذلك بتحريم كلِّ ما يضرّ بالصحة الجسديَّة كاللحوم الضارة والخبائث التي تنفر منها الطباع المستقيمة، وتحريم ما يفسد النظام الاجتماعيّ كالذبائح المُهداة لغير الله تعالى، أو ما يُكتسب بطرق الظلم والقمار، وهو في تشريعاته هذه لا ينفصل عن حكمة التكوين الكوني الذي وضعه الخالق، فيربط بين أحكامه وقوانين الفطرة التي تسير عليها الحياة.

ولا يتجاهل الإسلام الرحمةَ كموهبةٍ إلهيَّةٍ وضعت في فطرة الإنسان والحيوان، لكنه يرفض جعلها حاكمةً مطلقةً تتعارض مع حكمة التشريع ومصالح الوجود، فالعالم قائمٌ على سننٍ إلهيةٍ تتطلب التوازن بين الرحمة والعدل، ولو سادت العاطفة وحدها لفسدت الأرض بترك العقاب على الجرائم أو منع رد العدوان، لذلك يضع الإسلام للرحمة حدودا عقلانيةً تخدم المصلحة العامة، فلا يمنع ذبح الحيوان للغذاء، لكنه يرفق به فيذبحه بأقلّ ألمٍ، ويحرم تعذيبه أو إرهاقه، ويأمر بإطعامه وإروائه، وينهى عن الذبح أمام حيوانٍ آخر، فالجمع بين الرحمة والعقلانيَّة سمةٌ أساسيَّةٌ في تشريعاته.

أما الرحمة الإلهيَّة فهي ليست عاطفةً بشريَّةً ماديَّةً، بل هي إفاضة الخير وفق حكمةٍ إلهيَّةٍ توزن بميزان العدل والاستحقاق، فما يراه الإنسان شرّا قد يكون رحمةً في ميزان الله تعالى، كالابتلاء الذي يُصلح النفوس، أو العقاب الذي يحقق العدل؛ لذلك لا تخضع التشريعات الإلهيَّةُ لعواطف البشر النسبيَّة، بل تُبنى على مصالح كليَّة تحفظ نظام الكون، وتوازن بين متطلبات الروح والجسد، والفرد والمجتمع، والرحمة والعدل.

وهكذا يتجلى الإسلام دينا عقليّاً يوائم بين الفطرة والرحمة والتشريع، فلا يتبع عاطفةً عمياء، ولا ينفصل عن واقع الحياة، بل ينسجم مع سنن الكون التي وضعها الله تعالى، فيحلل الطيبات ويحرم الخبائث، ويأمر بالرفق بالحيوان دون أن يقدِّم عاطفة الرحمة على مصلحة الإنسان، فتشريعاته محكمةٌ تلتقي فيها حكمة التكوين مع حكمة التشريع، لتظلَّ شاهدةً على أن هذا الدين هو الدين القيم الذي لا تبديل لخلق الله تعالى فيه. [ينظر: تفسير الميزان ج5 ص185].

الخلاصة:

ذبح الحيوان في الإسلام لا يُقصد به التلذذ العشوائيّ، بل يُشترط أنْ يكون للضرورة كالتغذية، مع مراعاة شروط الذبح الرحيم التي تُقلِّل الألم، كما أنَّ التمييز بين الإنسان والحيوان في التكليف الشرعيّ لا يلغي حقوق الحيوان الأخلاقية، بل يُؤكِّد ضرورة الرحمة في التعامل.

والحمد لله رب العالمين.