هل الشيطان هو من أوحى الشرائع؟
السؤال: إذا كان آدم وزوجته قد أغواهما الشيطان في الجنَّة فأخرجهما، فكيف يمكنك إثبات أنَّ الذي كلَّم موسى على الجبل، والذي أتى محمداً في الكهف، ليس هو الشيطان؟ إذا كان الشيطان ماكراً ومراوغاً فأخرج آدم من الجنَّة بمكره وحيلته، فلماذا لا نقول إنّ تلك الشرائع من الشيطان؟ لأنَّ محتواها يدلُّ على أنها من الشيطان، من قتل وعنف وكراهية.
الجواب:
هذا الكلام ينطوي على واحدةٍ من أشهر المغالطات المنطقيَّة وهي (مغالطة التشابه الزائف)، وتحدث عندما يتم القياس بين شيئين بينهما بعض أوجه الشبه السطحية واستبعاد أو تجاهل الاختلافات الجوهريَّة بينهما، ومن ثم بناء استنتاجٍ غير صحيحٍ على هذا القياس.
فقياس وسوسة الشيطان لآدم في الجنَّة على نزول الوحي على الأنبياء عليهم السلام وتبليغ الشرائع، هو قياسٌ باطلٌ؛ لأن الفارق بين الحالتين جوهريٌّ وأساسيٌّ من عدَّة وجوه:
أولاً: آدم عليه السلام كان يعرف َّأن الذي يكلمه هو إبليس، لكنه لم يكن يتصور أنَّ مخلوقاً يمكن أنْ يحلف بالله كذباً، فاغترَّ بقوله وظنَّ أنَّ من يحلف باسم الله لا يمكن أنْ يكون كاذباً، كما قال تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 21ـ22]. لم يكن إبليس يدّعي أنَّه مرسلٌ من الله، ولا أنَّه رسولٌ أو ملكٌ، بل اكتفى بالخداع والإغواء بالكلام، وهذا ما جعل آدم يخطئ التقدير.
ثانياً: أما الأنبياء، فالوحي نزل عليهم عبر ملكٍ معلوم الهوية، وهو جبرائيل (عليه السلام)، وكانوا يعلمون بذلك علماً يقينيَّاً؛ لأنَّ التجربة النبويَّة ليست مجرّد خواطر داخلية، بل مقترنةٌ بشهودٍ حسيٍّ وروحيٍّ، وآثارٍ خارجيَّةٍ، منها ما كان يُرى ويُسمع، ومنها ما جاء في صورة معجزات وخوارق للطبيعة تشهد بأنَّ هذا وحيٌّ من الله، لا من غيره. قال تعالى عن النبي محمد: {فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ} [النجم: 10-12]، وقال عن موسى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص: 30-31] إلى آخر الآيات... فالوحي كان مباشراً وصريحاً، لا لبس فيه ولا خداع.
ثالثاً: ولو تنزّلنا وسلّمنا جدلاً بأنَّ الشيطان قد يملك مكراً وتمويهاً، فهل يصح أنْ يُنسب إليه ما لا يُنسب إلَّا إلى الله؟ هل من المعقول أن يكون الشيطان هو من بعث الأنبياء، وأنزل الكتب، وهدم عبادة الأصنام، وأسقط عروش الطغاة، وحرّم الربا والزنا والظلم، وأسس لأعظم دعوةٍ أخلاقيَّةٍ عرفتها البشرية؟ بل هل من المعقول أنْ يكون الشيطان هو من حمل الناس على التوبة والورع والصدق والرحمة، ثم أمرهم أنْ يجعلوه عدواً ويتقوا مكائده؟ هذا ليس من المكر، بل من العبث العقليّ؛ لأن الشيطان – بطبيعته – لا يمكن أنْ يسعى لما يُضعف سلطانه، ويفضح وساوسه، ويُفشل مشروعه التاريخي الذي أقسم أنْ يسلكه منذ لحظة الطرد من الجنَّة. الشرائع التي حملها الأنبياء لم تكن دعوة للدمار أو الكراهية، بل كانت دعوةً لتحرير الإنسان من عبادة الهوى والطاغوت، ولبناء مجتمعٍ يقوم على التوحيد والعدل والرحمة. فهل يعقل أنْ يكون الشيطان هو من صنع كل ذلك، وهو الذي قال عنه الله: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]؟
رابعاً: القول بأنَّ محتوى هذه الشرائع يدلُّ على أنَّها من الشيطان لأنَّها اشتملت على القتال، هو جهلٌ وتجنٍ على الإسلام. وقد تطرّقنا في إجاباتٍ سابقةٍ لمثل هذا الكلام الباطل. فالشرائع السماويَّة شرّعت القتال في حالات الضرورة، للدفاع عن النفس، وردع الظلم، وحماية المستضعفين، وليس لنشر الكراهية أو التسلط، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ...﴾ [النساء: 75]. بل إنَّ هذه الشرائع وضعت للقتال ضوابط أخلاقيَّةً صارمةً، وحرّمت الاعتداء، وأمرت بالسِلم متى ما تحقق العدل. فهل يُعقل أنَّ الشيطان يُقنّن استخدام القوة بدل أنْ يطلقها في الفوضى؟!
خامساً: لو كان الشيطان هو مصدر الشرائع، فلماذا لم ينسبها لنفسه؟ ولماذا لم يدعُ الناس لعبادته كما فعل في سائر وساوسه؟ بل كل هذه الرسالات تُحذّر منه، وتكشف أساليبه، وتعلن عداءه، وتأمر بمحاربته، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]، فهل من المنطقي أنْ يبني الشيطان منظومة تهدم نفسه، وتفشل مشروعه، وتمنح الإنسان أدوات الانتصار عليه؟
وفي المحصلة، يظهر جلياً أنَّ الربط بين الشيطان والشرائع السماوية هو ربطٌ غير منطقيٍّ، وغير مستندٍ إلى دليلٍ عقلانيٍّ أو شرعيّ.
فالشرائع التي بعث بها الأنبياء تهدف إلى نشر الحق والعدل، وتحرير الإنسان من الظلم والشرك، وتأسيس قيم الأخلاق والمساواة. فلا يعقل أنْ يكون الشيطان هو مصدر هذه الشرائع، بل إنَّ مصدرها هو الله تعالى الذي أراد للإنسان الخير والنجاة.
اترك تعليق