ماهو الدليل القاطع على وجود الله تعالى الذي نواجه به الملحدين والمرتدين والكفار

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قبلَ الإجابة لابدّ من الإشارة إلى أنّ هناكَ الكثيرُ من الأدلةِ على وجود الله تعالى، وقد تكفّل علماء الكلام والإلهيات ببيانِ العشرات منها بصورةٍ متقنة ومحكمة، ومع ذلك مازالَ هناك من يجادلُ في وجوده تعالى، الأمرُ الذي يدعونا للتأمّل من جديدٍ في ما يبحث عنه الملحدون، ويبدو أنّ سؤالهم عن الدليل يدلّ على عدم فهمهم لمعنى الدلالة من الأساس، وذلك إمّا للخلل في النظام المعرفي وإمّا لخلل نفسي يمنعهم من رؤية الحقيقة، ومن هنا كان من الواجب قبل التفصيل في الأدلة بيانُ ما يحاول الإلحادُ إحداثه من خروقات في قبال القبضةِ المحكمة للأدلة.

ومن أهمّ الخدع التي يمارسها الإلحادُ هو محاولة التستر بالعلم والقول أنّ الأدلة العلمية لا يمكنُ أن تثبتَ وجود إلهٍ خارج حدود الطبيعة، ومن هنا يعملُ على تهميش الأدلة العقلية وتسخيفها بوصفها مجرّد إفتراضات نظرية، وكما يبدو أنّ هذه مغالطةٌ واضحة؛ لأنّ أصل الخلاف بين الإيمان والإلحاد هو خلافٌ فلسفي وليس علمياً بالمعنى الطبيعي، وحسم الخلاف لا يكون إلا بدلالة العقلِ ضمن دائرة البحث الفلسفي، وقد أشار أنتوني فلو في كتابه (هناك إله) إلى ذلك، بقوله: "في عام 2004م، قلت بأنّ أصل الحياة لا يمكنُ تفسيره إذا بدأنا بالمادة فقط. ردّ المنتقدون بروح المنتصر قائلين بأنني لم أقرأ قط مقالاً في مجلة علمية ولا تابعتُ التطورات العلمية الحديثة المتعلقة بالتولد التلقائي (التولد الذاتي من كائناتٍ غير حية). هم بهذا النقد لم يفهموا الهدفَ الرئيسيّ من كلامي، فإهتمامي لم يكن منصباً على هذه الحقيقة أو تلك في الكيمياء أو في علم الجينات، بل كان إهتمامي منصباً على السؤال الرئيسي عن معنى أن يكون شيء ما حياً، وما علاقة ذلك بالحقائق الكيميائية والجينية ككل. أن تفكر على هذا المستوى، فأنت تفكر كفيلسوف"   

ولهذا لابدّ من وضع ملاحظاتٍ عامّة كمقدمةٍ ضرورية لمعرفة قيمة الأدلة العقلية على وجود الله أولاً، ومن ثمّ عدم الإنجرار خلف الإلحاد لإثبات إله من سنخ الطبيعة ثانياً.

أولاً: العلمُ هو بحثٌ في المخلوق بما هو حقيقة مادية لها وجود في الخارج، ولذلك تعتمدُ العلوم الطبيعية على منهج التجربة والفحصِ المختبري، لكونها تهتمّ بدراسة الجانب المادي من الأشياء، أمّا الإنسان فتتمّ دراسته إمّا من جانبهِ الجسدي فهو ينتمي الى عالم الطبيعة، وإمّا من جانبه الروحي والأخلاقي بوصفه كائناً له إرادة وقصد، وهو الجانب الذي تهتمّ به العلوم الإنسانية وهي علومٌ عقلية تقومُ على التحليل والإستنتاج.

ثانياً: بعيداً عن الإسهامات المقدّرة التي قدّمتها العلوم الطبيعية، إلا أنها لا تقع في نفس الخط الذي تسيرُ فيه الضرورة الدينية، فالبحث عن القوانين الطبيعية وربط الظواهر بأسبابها المباشرة لا يغني الإنسان عن الإرتباط بالغيب والبحث عن المطلق، فتفاعلُ الإنسان مع عالم المادة وتسخيرها ضمنَ شروطها الطبيعية يعدّ خطوةً ضرورية للتكامل المادي للإنسان، أمّا تكاملهُ الروحي وعروجه إلى المعاني السامية والقيم الكلية لا يكونُ إلا بإنفتاحه على الغيب، فلا التجربة المادية تحقّق للإنسان ما يصبو له روحياً، ولا الغيبُ والتأمل يحققُ له ما يحتاجه مادياً، وعليه فإنّ الإنسانَ لا يستغني بجانبٍ دون الجانب الآخر، ومن هنا فإنّ إهمالَ الإلحاد لجانب المعنى في الإنسان لا يمكن تبريرهُ بضرورة البحوث الطبيعية والمختبرية. 

ثالثاً: الإنسانُ وبهذه الشخصية المركبة من روح ومادة يمكنه السيرُ في إتجاهات مختلفة في ذات الوقت، فبعض الأمور ينظرُ لها بعقل تجريبي، والبعض الآخر بعقل تأمّلي، ويتفاعل مع بعض الحقائق حسّياً ويتفاعل مع البعض الآخر عاطفياً ووجدانياً، وهكذا الإنسان ليس ذاتاً بسيطة ينظر للأشياء من زاوية واحدة، ومن هنا نفهم ما أحدثه الإنسان من تطوّر مادي، وفي نفس الوقت نتفهّم ما أحدثه من تكامل عرفاني وتأمّل روحي. يقول الدكتور ماكس نور دوه عن الشعور الديني: "هذا الإحساسُ أصيلٌ يجده الإنسان غير المتمدّن كما يجده أعلى الناس تفكيراً وأعظمهم حدساً، وستبقى الديانات ما بقيت الإنسانية، وستتطوّر بتطورها، وستتجاوب دائماً مع درجة الثقافة العقلية التي تبلغها الجماعة" . ومن هنا يمثل الدينُ والإيمان ضرورة للإنسان بوصفه روحاً تتطلعُ نحو الكمال، ولا يمكن تجاوز ذلك من خلال تضخيم الجانب المادي في الإنسان.

رابعاً: المعارفُ التي تعتمد على المفاهيم الكلية، والعناوين التأملية، والمعارف التحليلية، هي من مكتسباتِ العقل عندما يحلق في آفاق الحياة الواسعة، بما لها من تاريخ عريق، وحضارات متنوعة، وإجتماع إنساني فاعل ومتفاعل، فحصرُ العقل وحبسهُ بين جدران المختبر جريمة في حقّ العقل والعلم معاً، وفي ظنّي أنّ التفكير الطفولي الذي كان يطمح في جعل العلوم الإنسانية شبيهة بالعلوم التجريبية هو المسؤول عن هذا الخلل، وقد بدأ هذا النمط من التفكير الحالم مع عصر النهضة، وبنضوج العلوم وتقدّم المعرفة بات هذا التفكيرُ مرحلة ساذجة لا يعتدّ بها أحد، ولذلك إنتهى عصر الفلسفة الوضعية عندما أعلن مُنظرها الأكبر (سير الفريد آير)  "في خمسينات القرن العشرين أنّ هذه الفلسفة ملأى بالتناقض، بالرغم من أنه قضى السنوات الطوال في معالجة أخطائها. لقد تنبّه آير إلى أنهُ لا يمكننا تطبيق قواعد البحث في العلوم التجريبية التي تعتمدُ على الحواس (كالكيمياء والفيزياء) على العلوم الإنسانية (كالفلسفة والمنطق والأخلاق). كذلك لا يمكنُ دراسة المفاهيم الدينية بمقاييس المفاهيم العلمية؛ فلا ينبغي - مثلاً - محاولة فهم مقولة: (إنّ الله موجود في كلّ مكان – كلي الوجود-) بمفاهيم المكان في فيزياء نيوتن أو فيزياء أينشتاين. بذلك قام آير بإعلان موت الفلسفة الوضعية المنطقية ودفنها" 

وإذا اتضحَ ذلك يتضحُ الخلل في نظام التفكير الإلحادي الذي جعل العلم الطبيعي مسؤولاً عن الجانب العقدي والمعرفي للإنسان، وهو خلط واضحٌ بين البحث في الطبيعة وبين البحث خارج حدود الطبيعة، فالأول تجريبي والثاني إستدلالي برهاني، فالملحد لم يصبح ملحداً لأنّ الفيزياء اضطرته لذلك، فالله ليس من موضوعات الفيزياء حتى نسأل عنه آينشتاين، واللحظة التي يتحدّث فيها الملحد عن الإلحاد هي ذاتها اللحظة التي يتخلى فيها عن الفيزياء لينتقل للحديث كفيلسوف، وهنا يحقّ لنا مناقشته فلسفياً ولا يفيده إن كان فيزيائياً.

 والخلاصة: العلومُ أمور محايدة لا تتصف بالإيمان ولا بالإلحاد، لكونها تبحث في المادة بما هي مادة سواء كان هذا الباحث مؤمناً أو ملحداً، والخلاف بين الإيمان والإلحاد يحسم في ميادين البحوث العقلية والفلسفية وليس في المختبرات والمعامل التطبيقية، فقد صرّحت الأكاديمية الامريكية للعلوم: العلمُ هو وسيلة للمعرفة عن العالم الطبيعي، ويقتصرُ على تفسير العالم الطبيعي (اي المادي) من خلال الأسباب الطبيعية، لذلك لا يمكنُ للعلم أن يقول أيّ شيء عمّا هو فوق طبيعي، فمسألة وجود الله أو عدم وجوده هي أمرٌ يقف العلم تجاهها على الحياد. من خلق الله، إدكار اندورز، 70. ومن هنا يصبح السؤالُ عن بداية الكون أو عن بداية الحياة سؤالاً فلسفياً بإمتياز، ومحاولة الإجابة عنه وفقاً لشروط البحث العلمي غيرُ ممكنة بل مستحيلة، فالبحث عن تاريخ ما قبل المادة، أو ما قبل الحياة، أو ما قبل الإنسان، يتعدّى حدود المختبر والتجربة الحسّية، والطريق الحصري لبحث مثل هذه الأسئلة هو البحثُ النظري القائم على التحليل العقلي، والخلط الذي يحدثه الإلحاد في ما يخصّ موضوعات المعرفة يهدفُ إلى تشويش الرؤية والتسطيح بعقول البسطاء من الناس، فالبحث سواء كان علمياً أو فلسفياً يبدأ بفرضية أولية ثمّ يأتي العمل على إثباتها أو نفيها، والفرق بين الفرضية العلمية والفرضية الفلسفية هو أنّ الأولى يتمّ تأكيدها بالفحص المختبري، أمّا الفرضية الفلسفية فيتمّ تأكيدها من خلال البرهان العقلي، وموضوعات ما قبل التاريخ أو ما قبل الإنسان لا تخضعُ للفرضيات العلمية وإنما يتمّ بحثها ضمن الفرضيات النظرية التي يستدلّ عليها بالبرهان العقلي. ويكتب أوستن فاور: كلّ علم يختار منحى من مناحي الأشياء في العالم ويظهر لنا كيف تعمل، وكلّ شيء يقع خارج هذا العالم فإنه يقعُ خارج مجال العلم، ونظراً لأنّ الإله ليس جزءاً من هذا العالم، وبالأحرى ليس أحد مظاهره، فلا يمكن أن يقول العلم  أيّ شيء عنه.هل العلم ديانة .. العالم الأنساني جان فان 1997 الصفحة 26.

وممّا سبق يتضح أنّ بحث وجودِ الله من مختصّات الفلسفة والبحوث العقلية، وتعتمد هذه البحوث على نظام معرفي خاص قوامهُ البرهنة والإستدلال، ولا يجوز التملصُ من هذا المنهج البحثي بحجة المطالبة بأدلة حسية ملموسة، لكوننا نبحث عن إثباتِ شيء خارج عن الأشياء فلا يمكنُ حينها البحث عنه وسط هذه الأشياء. وسوف نورد هنا بنحو الاجمال بعضَ الأدلة العقلية الدالة بشكلٍ قاطع على وجود الله تعالى.

الأول: برهان الصديقين 

يتميّز هذا البرهان في أنّه لا يتخذُ واسطة لأثبات الخالق، وإنما من خلال النظر إلى الوجود بما هو وجود وبشكلٍ مباشر يستنتج أنّ هناك واجباً للوجود، حيث لم ينطلق من ممكن إلى الواجب، ولا من الحادث إلى المبدأ، ولا من الحركة إلى المحرّك، بل في هذا البرهان يكون الحقّ (الله) هو الحدّ الوسط في البرهان لا غير.

ويتضحُ هذا البرهان بإقامة بعض المقدمات، ويمكن تلخيصها في الاتي:

1- أنّ هناك موجوداتٍ في الخارج، وهذه الموجودات لا تخلو من أحد أمرين، فهي إمّا واجبة الوجود، او حادثة ممكنة الوجود، فإن كانت واجبة ثبت المطلوب، وهو أنّ هناك موجود أزلي لا يفنى ولا يقبل العدم، فإنّ وجوب الوجود يعني أنّ وجوده ضروري لا يمكنُ أن ينفك عنه، وإن كان ممكنَ الوجود فكلّ ممكنٍ يتوقّف على غيره، فننقل الكلامَ الى هذا الغير ونسأل هل وجوده واجب، فيثبت المطلوب، أو وجوده ممكن، فإن كان واجباً ثبت المطلوب، وإن كان ممكناً توقّف على غيره، وهكذا يتسلسل الى ما لا نهاية، فلابدّ أن تنتهي هذه السلسلة الى موجود لا يتوقف وجوده على غيره وهو واجبُ الوجود، فثبت المطلوب.

الثاني: برهان الوجود والإمكان، أو دليل الخلق والإيجاد:

وهو إستدلالٌ يحكم بضرورة وجود الله طالما مظاهر حدوث الكون ظاهرة للعيان، فمن الواضح أنّ كلّ شيء يحدث بعد أن لم يكن، فمن الضروري حينها أن يكون له سبب وفاعل، وهو إستدلال عقلي يقيني لا يختلف فيه أصحاب الفطرة الإنسانية السليمة. ويقوم هذا البرهان على مقدمتين أساسيتين 

الأولى: أنّ الكون حادثٌ غير قديم ويثبت ذلك بدليل العقل والعلم، ولا يجادل في ذلك عاقل.. 

الثانية: قانونُ العلة والمعلول والسّببِ والمسبّب، وهو من القوانيين المنطقية الثابتة بالبداهة.

وحتى يكتملَ الإستدلال لابدّ من إثبات بطلانِ التسلسلِ والدور وهو ما تكفّل به علم المنطق، فالعللُ لا يمكنُ أن تكون غير متناهية، والحادثُ لا يمكن أن يوجد نفسه، وبمقتضى الجمع بين المقدمتين تصبحُ النتيجة الحتمية أنّ الكون الحادث لابدّ له من إله أحدثه. 

الثالث: برهانُ النظم، أو دليل الإحكام والإتقان، أو دليلُ التصميم

يُستدلّ بهذا الدليل على ضرورة وجود الله تعالى، وذلك لما في العالم من الإتقان في الخلقة والإحكام في تفاصيله الدقيقة المذهلة، ولتحقق ذلك لا بدّ من فاعل يتصفُ بالقدرة والحكمة وسعة العلم. وبالتالي دليل الإتقان لا يتضمّن فقط الإقرار بوجود خالق بل يتضمن كذلك إتصافه بصفات العلم والإرادة والحكمة.

ويقوم البرهان على مقدمتين

الأولى: وهي رصد النظام الدقيق الذي يكتنف هذا الكون، سواء كان رصداً حسياً بسيطاً أو كان رصداً علمياً تجريبياً، كما هو حال العلوم الطبيعية التي تتحدث بدهشة عن دقة هذا النظام، وهناك دراسات علمية مفصلة في شتى الحقول والمجالات تتحدّث عن هذا النظام الكوني، ومن هذه الزاوية تدخل الأدلة العلمية في إثبات وجود الله تعالى، وعليه يقوم البرهان على بداهة هذا النظام في الكون. 

 الثانية: دليلُ العقل على أنّ كلّ معلول لابدّ له من علة، فبعد التأكيد على وجود هذا النظام والتسليم به، يأتي العقل ليحكم بضرورة وجود مُنظم لهذا النظام؛ لأنه من المستحيل عقلاً القول بوجوده عن طريق الصدفة.

 وهكذا تكتملُ الشروط الأساسية للبرهان، وحتى يكون ملزماً للآخر لابدّ من إبطال التسلسل والدور كما أشرنا سابقاً، وعليه يصبح برهان النظم دليلاً محكماً في إثبات وجود الخالق سبحانه وتعالى.

وهكذا الحال في بقية الأدلة فإنها ترتكز جميعها على بداهة قانون العلة والمعلول والسّبب والمُسبّب، فلا يعقل أبداً أن يكون هذا الكون قد أتى من فراغ، وقد ساعدت البحوث والإكتشافات العلمية على تمتين البحوث الفلسفية وجعلها أكثر قرباً من وعي الإنسان المعاصر، ولكن هذا لا يعني أنّ إثبات وجود إلهٍ خاضع لإشتراطات البحوث العلمية الطبيعية. وفوق كلّ ذلك يظلّ دليلُ الفطرة والوجدان هو الدليلَ الأقرب فالله فطر الجميع على معرفته فكلّ إنسان طبيعي يشعر بوجوده تعالي في عمق شعوره ووجدانه، قال تعالى: (قَالَتْ رُسُلُهُم أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)