السّبيُ والفتوحاتُ الإسلاميّة 

ما هوَ السّبيُ في نظر الإسلامِ، كيفَ تصبحُ المرأةُ المتزوّجةُ المسبيّةُ على ذمّةِ رجلٍ آخر معَ بقاءِ زوجِها على قيدِ الحياة؟ وما هيَ نظريّةُ الإسلامِ بهذا الشّأن؟ وكيفَ ننظرُ للفتوحاتِ الإسلاميّةِ في مرحلةِ صدرِ الإسلامِ ومدى صحّتها؟ 

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته  

في البدءِ لابدَّ منَ الإشارةِ إلى أنَّ ظاهرةَ السّبي في الحروبِ ليسَت مُختصّةً بجماعةٍ أو دينٍ وإنّما هيَ ظاهرةٌ رافقَت التّاريخَ الإنسانيَّ وفي كلِّ الحضاراتِ، وبمرور الزّمنِ تطوّرتِ الإنسانيّة في حقلِ الحقوقِ والحريّاتِ حتّى باتَت لا تتقبّلُ ظاهرةَ سبي النّساءِ، ولِذا جاءَت القوانينُ والتّشريعاتُ الدّوليّةُ بأحكامٍ خاصّةٍ في شأنِ التّعاملِ معَ أسرى الحروبِ بما فيهم النّساء، فقد نصَّت إتّفاقيّةُ جنيف لأسرى الحربِ سنةَ 1949م في المادّةِ 13 و14 بالقولِ: (يجبُ معاملةُ أسرى الحربِ معاملةً إنسانيّةً في جميعِ الأوقات. ويحظرُ أن تقترفَ الدّولةُ الحاجزةُ أيَّ فعلٍ أو إهمالٍ غيرِ مشروعٍ يسبّبُ موتَ أسيرٍ في عهدتِها.. ويجبُ أن تعاملَ النّساءُ الأسيراتُ بكلِّ الإعتبار الواجبِ لجنسهنَّ) وعليهِ إنَّ البشريّةَ لم تلتفِت إلى حقوقِ الأسرى رجالاً ونساءً إلّا في أواسطِ القرنِ العشرينَ، في حينِ أنَّ الإسلامَ وفي القرنِ السّادسِ الميلاديّ شرّعَ مجموعةً منَ القوانينِ والضّوابطِ الأخلاقيّةِ التي تحافظ على حقوقِ الأسرى، مُضافاً إلى تفتيتِ ظاهرةِ الرّقِّ التي كانَت مُتجذّرةً في المجتمعِ، وقد نوّهنا في إجابةٍ سابقةٍ أنَّ إباحةَ الإسلامِ لنكاحِ ملكِ اليمينِ إنّما كانَ إقراراً لِما هوَ مباحٌ في المجتمعِ، فأمضاهُ الإسلامُ بحدودِه المشروعةِ عندَهم، أي في إطار ما يقبله البناءُ العقلائيُّ آنذاك، ممّا لا يراهُ المجتمعُ الإنسانيّ موردَ عيبٍ أو ضررٍ إجتماعيّ بنظرهم، وبذلكَ لم يأتِ الإسلامُ بمُلكِ اليمينِ إلى الوجودِ، فلا يصحُّ نسبتُه للإسلامِ على أنّهُ المؤسّسُ والموجدُ له، فقد عملَ الإسلامُ على معالجةِ هذهِ القضيّةِ بشكلٍ تدريجيّ وإستراتيجيّ، حيثُ أوجدَ الحدودَ والضّوابطَ التي تستدركُ ما يمكنُ إستدراكُه مِن مظالمَ، فرفعَ مِن قدرهم وساوى بينَهم وبينَ أسيادِهم في الحقوقِ الإنسانيّةِ، وأوجبَ على المالكِ إطعامَهم ممّا يطعمُ بهِ عيالَه وعدَّهم مِن أهلِ بيتِه وجُزءاً مِن عائلتِه، فحرّمَ الضّربَ أو الإضرارَ والإهانةَ، وضمنَ لهُم حرّيّةَ الفكر والعقيدةِ بعدَ أن كانوا في حالةٍ منَ الإحتقار والذّلّةِ، ولذلكَ قالَ الكُفّارُ منَ السّادةِ (إنَّ محمّداً قد أفسدَ علينا عبيدَنا وساوى بينَنا وبينَهم). 

ولم يثبُت بدليلٍ قاطعٍ أنَّ الرّسولَ إسترقَّ نساءً في حروبِه، وكلُّ ما هوَ مشاعٌ في التّاريخِ الإسلاميّ هوَ بفعلِ الخلفاءِ الذينَ إستلموا الحكمَ بطرقٍ غيرِ شرعيّةِ، وما ذكرَهُ بعضُ المؤرّخينَ بأن رسولَ اللهِ في غزوةِ أوطاس سبى نساءَ هوازن وقسَّمَ السّبايا بينَ المُسلمينَ، وأجازَ لهُم الدّخولَ بهنَّ، كلُّ ذلكَ لا يمكنُ قبوله لكونِه لا ينسجمُ معَ سماحةِ القرآنِ ولا معَ شخصيّةِ الرّسولِ الذي أدّبَه ربَّه فأحسنَ تأديبَه، مُضافاً إلى أنَّ معظمَ هذهِ الرّواياتِ التّاريخيّةِ مِن طرقِ أهلِ السّنّةِ وبطرقٍ غيرِ مُعتمدةٍ، وما جاءَ في بعضِ المصادرِ الشّيعيّةِ مثلَ ما رواهُ الشّيخُ الطّوسيُّ في التّهذيبِ (ج8، ص176) عنِ الحسنِ بنِ صالحٍ عنِ الصّادقِ، غيرُ مقبولٍ لأنَّ الحسنَ بنَ صالحٍ بتريٌّ مجهولٌ، والخبرُ الذي ذكرَه إبنُ شهر آشوبَ ضعيفٌ لكونِه جاءَ مُرسلاً، هذا غيرُ التّناقضِ والإختلافِ في مضامينِ هذهِ الرّواياتِ التّاريخيّةِ ممّا يجعلنا نشكُّ في حدوثِ مثلِ هذهِ الأمورِ منَ الأساسِ، فمثلاً كيفَ يجيزُ لهُم الرّسولُ نكاحَ نساءِ هوازنَ وهنَّ وثنيّاتٌ كما يذكرُ المُؤرّخونَ، وقَد حرّمَ الإسلامُ نكاحَ الوثنيّاتِ حتّى وإن كُنَّ أسيراتٍ، هذا مُضافاً إلى أنَّ نكاحَ المرأةِ ذاتِ الزّوجِ منَ الأفعالِ القبيحةِ في عاداتِ العربِ، فكيفَ يدعوهُم الرّسولُ إلى أمرٍ تنفرُ منهُ طباعُهم وتترفّعُ عنهُ نفوسُهم؟ وعليهِ حتّى لو كانَت هناكَ بعضُ الآراءِ الفقهيّةِ بينَ المدارسِ الإسلاميّةِ تجيز ذلكَ، فهيَ تظلُّ محكومةً بدائرةِ الإجتهادِ الذي لا يتحمّلُ الإسلامُ كلَّ ما فيهِ، وعلى أقلِّ تقديرٍ يصبحُ الأمرُ منَ المُتشابهاتِ التي يجبُ ردُّها إلى محكماتِ الإسلامِ التي تؤكّدُ على كرامةِ الإنسانِ، ولو سلّمنا بصحّةِ بعضِ الرّواياتِ في هذا البابِ فيجبُ ردُّ علمِها إلى أهلِ البيتِ ولا يجوزُ تركُ المُحكماتِ مِن أجلِ روايةٍ نحنُ لا نعلمُ تمامَ معناها وفي أيّ سياقٍ تاريخيٍّ وردَت.

فالثّابتُ أنَّ رسولَ اللهِ لَم يكُن لهُ أسيراتٌ مِن حروبِه، وبالتّالي لم يُدخِل رسولُ اللهِ جواريَ جُدداً في المجتمعِ على ما كانَ موجوداً قبلَ الإسلامِ، وإنّما تعاملَ الإسلامُ معَ ما كانَ موجوداً في المُجتمعِ، ولو سارَ الإسلامُ بالمسارِ الذي أرادَه اللهُ وعادَ الأمرُ إلى ولاةِ الأمرِ الذينَ أمرَنا اللهُ بطاعتِهم لانتهَت ظاهرةُ الرّقِّ ومُلكِ اليمينِ في فترةٍ وجيزةٍ، إلّا أنَّ الأمرَ قد إنحرفَ عن مساره الطّبيعيّ وتسيّدَ على الأمّةِ خلفاءُ حكموا العالمَ الإسلاميَّ تسعةَ قرونٍ فتحوا فيها البلدانَ وجلبوا منها الجواريَ، فكرّسوا بذلكَ ظاهرةَ الرّقِّ وملكِ اليمينِ، وقد بدأ عددُ السّبايا يزدادُ بينَ المُسلمينَ بوتيرةٍ مُتصاعدةٍ كلّما إتّسعَت هذهِ الفتوحاتُ، وكانَ أوّلُ سبيٍ يصلُ إلى المدينةِ في خلافةِ أبي بكرٍ أرسلَه خالدٌ بنُ الوليدِ كما ينقلُ البلاذريّ، ثمَّ بعثَ معاويةُ في عهدِ عُمر بنِ الخطّابِ إلى المدينةِ سبايا  قيسارية وكانوا أربعةَ آلافٍ، أمّا سبيُ (صنهاجة) في أفريقيا ومَن كانَ معها منَ البربرِ لمّا فتحَها موسى بنُ نصيرٍ بلغَ مائةَ ألفِ رأسٍ، وفي فتحِ (سجوما) بلغَ سبيُهم مائتي ألفِ رأس. وهكذا إطّردَ عددُ الجواري وإزدادَ بصورةٍ لافتةٍ في العصرِ الأمويّ والعبّاسيّ حتّى أصبحَ لهُم أسواقٌ خاصّةٌ، وكانَ معاوية يأتي بالجواري فيوزعهنَّ على المُقرّبينَ إليه، ويعهدُ لبعضهنَّ بالوقوفِ مِن ورائِه ليدفعنَّ عنهُ الذّبابَ، وليروحنَّ له بالمراوحِ، أو ليأتينَه بما يحتاجُ إليهِ مِن شرابٍ، وما قامَت بهِ داعشُ هوَ محاكاةٌ لفعلِ الخلفاءِ ومحاولة لإعادةِ تلكَ الفترةِ التّاريخيّةِ للحاضرِ، فشرعيّةُ داعش مُكتسبةٌ مِن فعلِ الخلفاءِ وليسَ منَ الإسلامِ، ولذا سمَّت نفسَها دولةَ الخلافةِ تيمُّناً بسلفِهم مِن بني أميّةَ وبني العبّاس. 

وقد حاولَ البعضُ تقديمَ الفتوحاتِ الإسلاميّةِ بوصفِها ضرورةً دينيّةً لنشر الرّسالةِ وليسَت لها علاقةٌ بأيِّ دوافعَ سياسيّةٍ، إلاّ أنَّ الدّافعَ الدّينيَّ وحدَه لا يمتلكُ التّبريرَ الأخلاقيَّ لفرضِ الدّينِ على النّاسِ بالقوّةِ، والدّعوةُ في الأدبِ القرآنيّ قائمةٌ على ركيزةِ الحوار والجدالِ بالتي هيَ أحسن: ﴿ادعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ﴾. وليسَ فيها إعتداءٌ على المناطقِ الآمنةِ والسّيطرةِ على مُقدّراتِها وثرواتِها وإسترقاقِ رجالِها ونسائِها. 

فالمسارُ السّياسيُّ وحدُه يجبُ أن تُقرأ بهِ حركةُ الفتوحاتِ الإسلاميّةِ، حتّى وإن كانَت المُحصّلةُ إنتشارَ الإسلامِ في المناطقِ المفتوحةِ، وبهذهِ الحالةِ يمكنُنا التّأكيدُ على أنَّ الدّافعَ السّياسيَّ وحدَه هوَ الذي يقفُ خلفَ تلكَ الحروبِ ولا علاقةَ للإسلامِ كمبدأٍ بكلِّ ما جرى مِن تجاوزاتٍ، وحينَها لا نكونُ مُضطرّينَ للدّفاعِ عَن تلكَ التّجربةِ التّاريخيّةِ بوصفِها تجربةً دينيّةً، وإنّما هوَ فعلٌ سياسيٌّ تتحمّلُ مسؤوليّتَه السّلطةُ السّياسيّةُ الحاكمةُ في تلكَ الفترة. 

فالتّحليلُ المنطقيُّ لِما وقعَ مِن أحداثٍ بعدَ وفاةِ الرّسولِ الأكرمِ (صلّى اللهُ عليه وآله) يؤكّدُ على وجودِ مطامعَ سياسيّةٍ محرّكةٍ لتلكَ الأحداثِ، فلم يكُن هناكَ صراعٌ بخلفيّاتٍ عقديّةٍ أو صراعُ أفكار وأيدولوجيّاتٍ، فمنذُ الخلافِ الذي حدثَ في السّقيفةِ ومروراً بما يُسمّى حروبَ الرّدّةِ وإنتهاءً بحركةِ الفتوحاتِ، كانَت الأهدافُ السّياسيّةُ ومطامعُ السّلطةِ والنّفوذِ هيَ الأكثرُ حضوراً وتأثيراً، ولا يمكنُ فهمُ ما حدثَ إلّا ضمنَ التّحليلِ السّياسيّ الذي يُفسّرُ كلَّ ما حدثَ على أنّه صراعٌ على السّلطةِ، فكانَ مُسيلمةُ نبيُّ ربيعة، وطليحةَ نبيُّ مضر، والعنسيُّ نبيُّ اليمنِ، يفهمونَ النّبوّةَ مُلكاً وسلطاناً، وقَد إزدادَ هذا التّوجّهُ بعدَ وفاةِ رسولِ اللهِ (ص) فنشطت حركاتٌ جديدةٌ وإنضمَّت قبائلُ أخرى وبدأت بالزّحفِ نحوَ المدينةِ بعدَ أن إدّعَت قريشٌ أنَّ السّلطةَ حكرٌ لها ولا حقَّ لغيرِهم في وراثةِ محمّدٍ (ص) في سلطانِه، وبذلكَ طمعَت جميعُ قبائلِ العربِ ورجعَت الى أحلافِها القديمةِ، وأصبحَت تُشكّلُ خطراً حقيقيّاً على الدّولةِ الوليدةِ في المدينةِ، فما كانَ أمامَ السّلطةِ الجديدةِ إلاّ أن تقفَ بكلِّ صلابةٍ أمامَ هذهِ الحركاتِ، فوقعَ ما وقعَ مِن حروبٍ عُرفَت بحروبِ الرّدّة.

ومنَ الواضحِ أنَّ الخيارَ العسكريَّ لا يُحقّقُ الحلَّ النّهائيَّ لأيّ مشكلةٍ ذاتِ جذورٍ سياسيّةٍ أو إقتصاديّةٍ أو إجتماعيّةٍ قبليّةٍ، والحربُ لا يمكنُها القضاءُ على المطامعِ المُتأصّلةِ في النّفسِ الإنسانيّةِ، فلو هُزمَت هذهِ القبيلةِ اليومَ لا يمنعُ أبداً أن تُعيدَ ترتيبَ نفسِها والتّحرّكَ مِن جديدٍ، فالنّاسُ لا تتحوّلُ إلى ملائكةٍ بينَ ليلةٍ وضُحاها، ولا يمكنُ الإعتمادُ على سياسةِ الرّدعِ العسكريّ دائماً، فالجيوشُ الإسلاميّةُ ليسَت جيوشاً نظاميّةً لها معسكراتٌ ونقاطُ إرتكازٍ موزّعةٌ على مساحةِ الجزيرةِ العربيّةِ، وبالتّالي يصعبُ المراقبةُ الدّائمةُ لتحرّكاتِ هذهِ القبائلِ الطّامعةِ في السّلطةِ والثّروةِ، وبهذا الشّكلِ لن تهدأ الجزيرةُ العربيّةُ ما لم يُفتَح أمامَها مساحاتٌ جديدةٌ تتجاوزُ حدودَها الجغرافيّةَ، وآفاقٌ أخرى تتجاوزُ الصّراعَ التّقليديَّ القائمَ فيها، وأفضلُ خيارٍ هوَ تشجيعُ السّلطةِ الجديدةِ على الغزوِ والفتوحاتِ لأراضٍ جديدةٍ خارجةٍ عَن حدودِ الجزيرةِ العربيّةِ، وبعيداً عَن شرعيّةِ هذا الخيارِ وعدمِه، إلاّ أنَّه منَ النّاحيةِ السّياسيّةِ يُمثّلُ خياراً إستراتيجيّاً يعملُ على توحيدِ هذهِ القبائلِ على أهدافٍ جديدةٍ، كما يعملُ على إستغلالِ الطّاقاتِ القتاليّةِ للعربِ وتوجيهِها لتحقيقِ مكاسبَ جديدةٍ غيرِ معهودةٍ لديهم، مُضافاً إلى أنَّ ذلكَ يُوسّعُ سُلطانَهم ويكسبُهم مصادرَ دخلٍ وثرواتٍ جديدةً، وكلُّ هذهِ المكاسبِ السياسيّةِ كما هوَ واضحٌ يمكنُ التّبريرُ لها بشعاراتٍ دينيّة. 

ومنَ الواضحِ أنَّ هذهِ الزّاويةَ السّياسيّةَ لم تكُن غائبةً عنِ الأذهانِ في تلكَ الفترةِ التّاريخيّةِ، فمثلاً نرى أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عامر يقترحُ على عثمانَ بنِ عفان لإطفاءِ نارِ الثّورةِ التي قامَت ضدَّه بقولِه: (رأيي لكَ يا أميرَ المؤمنينَ أنَّ تأمرَهم بجهادٍ يشغلهم عنكَ وإنَّ تجمّرَهم في المغازي حتّى يذلّوا لكَ فلا يكونُ همّةُ أحدِهم إلاّ نفسَه وما هوَ فيهِ مِن دبرةِ دابّتِه وقملِ فروِه...) (تاريخُ الطبري ج2 ص 643) 

وجاءَ في فتوحِ البلدانِ للبلاذريّ (قَالوا: لمّا فرغَ أَبُو بكرٍ مِن أمر أهلِ الرّدّةِ رأى توجيهَ الجيوشِ إلى الشّامِ، فكتبَ إلى أهلِ مكّةَ والطّائفِ واليمنِ وجميعِ العربِ بنجدٍ والحجازِ يستنفرُهم للجهادِ ويُرغّبُهم فيه وفي غنائمِ الرّوم، فسارعَ النّاسُ إليه مِن بَينِ مُحتسبٍ وطامعٍ وأتو المدينةَ مِن كلِّ أوبٍ، فعقدَ ثلاثةَ ألويةٍ لثلاثةِ رجالٍ...) (البلاذريّ فتوحُ البلدان: ج1 ص 128)  

وروى الطّبريُّ: (إنَّ خالدَ بنَ الوليدِ وقفَ يخاطبُ جموعَ القبائلِ قبلَ فتحِ العراقِ قائلاً: ألا ترونَ إلى الطّعامِ كرفغِ التّرابِ، وباللهِ لو لَم يلزَمنا الجهادُ في اللهِ والدّعاءُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ ولَم يكُن إلاّ المعاشُ لكانَ الرّأيُ أن نُقارعَ على هذا الرّيفِ حتّى نكونَ أولى بهِ ونولي الجوعَ والقلالَ مَن تولّاهُ ممّا أثاقلَ عمّا أنتُم فيهِ( (تاريخُ الطّبريّ: ج 2 : ص 255) 

كلُّ ذلكَ يدلّلُ على أنَّ الفتوحاتِ جاءَت مِن أجلِ تداركِ وضعٍ سياسيّ متأزّمٍ، فالبداياتُ الأولى لفتحِ العراقِ بدأت بانتهاءِ حروبِ الرّدّةِ، فقد وجدَ المُسلمونَ أنفسَهم على حدودِ هذا البلدِ، حيثُ طاردَ المُثنّى بنُ حارثةَ الشّيبانيّ فلولَ المُرتدّينَ حتّى دخلَ جنوبيّ العراقِ، فاستأذنَ أبا بكرٍ في غزوِه، وطلبَ منهُ أن يؤَمِّرهُ على قومِه ليُقاتلَ بهِم الفُرسَ، فكانَ لهُ ما أراد.  

فكتبَ إلى خالدٍ بنِ الوليدِ، وكانَ آنذاكَ في اليمامةِ، يأمرُه بالتّوجّهِ إلى العراقِ لمحاربةِ الفرسِ على أن يبدأ بالأبلةِ، كما كتبَ إلى عياضٍ بنِ غنمٍ وكانَ بالفراضِ -بينَ البصرةِ واليمامةِ- يأمرُه بغزو العراقِ مِن أعلاهُ، على أن يبدأ بالمصيخِ حتّى يلقى خالداً، على أن تكونَ القيادةُ لمَن يصلُ إلى الحيرةِ أوّلاً.  

وهكذا توالَت الفتوحاتُ في عهدِ الخلفاءِ إلى أن إمتدَّت الدّولةُ الإسلاميّةُ مِن شبهِ الجزيرةِ العربيّةِ إلى الشّامِ فالقوقاز شمالاً، ومِن مصرَ إلى تونسَ غرباً، ومنَ الهضبةِ الإيرانيّةِ إلى آسيا الوسطى شرقاً، وبهذا تكونُ الدّولةُ قد إستوعبَت كافَّةَ أراضي الإمبراطوريَّةِ الفارسيَّةِ السّاسانيَّةِ وحوالى ثُلثيّ أراضي الإمبراطوريَّةِ البيزنطيَّة.

وعليهِ كلُّ ما جرى مِن إسترقاقٍ وإستعباد، وكلُّ ما حدثَ مِن مجونٍ وفجورٍ بالجواري، وكلُّ ما وقعَ مِن عذاباتٍ وآهاتٍ، ما كانَ ليحدثَ لو إنتشرَ الإسلامُ في تلكَ المناطقِ بالحكمةِ لا بالسّيفِ، وبالحوارِ لا بالقتلِ والتّشريدِ، وبمدِّ يدِ العونِ لا بأخذِ الجزيةِ وإمتلاكِ خيراتِ الآخرينَ، وكلُّ الثرواتِ الضّخمةِ التي تربّعَ عليها ملوكُ المُسلمينَ وخلفاؤهم هيَ أموالُ تلكَ الشّعوبِ المُستضعفةِ، وقد بدأت تتضخّمُ هذهِ الثّرواتُ في أيدي المُسلمينَ وتكوّنَت طبقاتٌ أرستقراطيّةٌ مِن قادةِ الحروبِ وأمراءِ القتالِ، حتّى إنَّ الرّعيلَ الأوّلَ منَ الصّحابةِ تأثّرَ بذلكَ وأصبحَ منهُم أولي نفوذٍ وثروة.

والنّاظرُ للوضعِ الإقتصاديّ للجزيرةِ العربيّةِ يعرفُ شظفَ العيشِ وصعوبةَ الحياةِ، وإعتمادَ القبائلِ على الرّعي والغزوِ وحماية القوافلِ التّجاريّةِ الخاصّةِ بالأثرياءِ منهُم، ثمَّ إذا نظرنا إلى حجمِ الثّراءِ الذي حدثَ بعدَ الفتوحاتِ الإسلاميّةِ لصدمَنا حجمُ التّحوّلِ الذي حدثَ، الأمرُ الذي يستوجبُ علينا أن لا نُقيّمَ ما حدثَ بشكلٍ ساذجٍ يعتقدُ بأنَّ الفاتحينَ كانوا ملائكةً، بل الغالبُ منهُم قد إندفعَ لهذهِ الفتوحاتِ مِن أجلِ تحصيلِ مكاسبَ مادّيّةٍ، وخاصّةً أنَّ الحصولَ عليها كانَ يتمُّ بسهولةٍ في ظلِّ الإنهيارِ المُتسارعِ للإمبراطوريّةِ الفارسيّةِ والرّومانيّةِ، فدخلوا بلاداً ذاتَ حضارةٍ عريقةٍ ومدّخراتٍ واسعةً وسهولٍ ومزارعَ وغلّاتٍ وخيولٍ وماشيةٍ بأعدادٍ هائلةٍ، غيرِ الكنوزِ الضّخمةِ التي كانَت تحتفظ بها تلكَ الإمبراطوريّاتُ، والأسواقُ والقصورُ وما فيها مِن مجوهراتٍ ومقتنياتٍ ثمينة.  

يقولُ حبيبُ بنُ صهبان: )لمّا دخلنا المدائنَ فأتينا على قبابٍ تركيّةٍ مملوءةٍ سلالاً مُختمّةً  بالرّصاصِ، فما حسبناها إلاّ طعاماً، فإذا هيَ آنيةُ الذّهبِ والفضّةِ، وكانَ عددُ الدّراهمِ الموجودةِ في قصرِ كِسرى ثلاثةَ آلافِ مليون درهم) (تاريخُ الطّبري ج4 ص 17)  

وعَن عُبيدِ اللهِ بنِ محفز، عَن أبيه، قالَ: (وإنّي لفي أوائلِ الجمهورِ حينَ عبروا دجلةَ، ودخلوا المدائنَ، ولقد أصبتُ بها تمثالاً لو قُسّمَ في بكرٍ بنِ وائل لسدَّ منهُم مسدّاً، عليهِ جوهر) (تاريخُ الطّبري ج4 ص 26) 

ولو حاولنا التّفصيلَ في المكاسبِ السّياسيّةِ والإقتصاديّةِ التي حقّقتها السّلطةُ السّياسيّةُ ممّا جاءَ في كتبِ التّاريخِ لتوسّعَ الأمرُ بنا كثيراً، وعليهِ فإنَّ الفتوحاتِ الإسلاميّةَ وإن أدَّت إلى دخولِ كلِّ هذهِ البلدانِ في الإسلامِ إلّا أنّها لا تُعبّرُ عَن كونِها خياراً إسلاميّاً، بل حتّى لو كانَت نيّاتُ الخُلفاءِ خالصةً للدّعوةِ في سبيلِ اللهِ إلّا أنَّ صلاحَ النّيّةِ لا يُصحّحُ الأخطاءَ والتّجاوزاتِ التي رافقَت هذهِ الفتوحاتَ، ومِن هُنا نحنُ نُدينُ عملَ الجماعاتِ الجهاديّةِ التي تُجيزُ لنفسِها القتلَ والتّهجيرَ والتّفجيرَ بحُجّةِ أنَّ نيّتَها تحكيمَ شرعِ اللهِ، وبما أنَّ كلَّ ذلكَ مدانٌ وغيرُ مُبرّرٍ حتّى وإن سلمَت نوايا تلكَ الجماعاتِ، كذلكَ لابُدَّ أن يُدانَ الغزو الإسلاميُّ الأوّلُ بوصفِه غزواً وسبياً ومصادرةً لأملاكِ الآخرينَ، وليسَ في ذلكَ إدانةٌ للعملِ الدّعويّ ونشر الإسلامِ بما هوَ دعوةٌ، لعدمِ وجودِ أيّ رابطٍ حقيقيٍّ بينَهما، فإذا فككنا بينَ الفتوحاتِ وبينَ نشرِ الإسلامِ، ووضعنا العملَ الدّعويَّ في إطاره الدّينيّ الشّرعيّ، فإنَّ الإطارَ الذي يمكنُ أن تتموضعَ فيهِ تلكَ الحروبُ هوَ إطارٌ آخرُ لا علاقةَ لهُ بالإسلام.