كيفَ نتأكّدُ مِن صحّةِ الرواياتِ الواردةِ عن أهلِ البيتِ (ع)، وأنّ الرواياتِ هيَ مِن مصادرَ موثوقةٍ وليسَت محرّفة؟   

: السيد رعد المرسومي

السّلامُ عليكُم ورحمة الله:  

لقد بيّنّا في أجوبةٍ سابقةٍ أنّ معرفةَ كونِ الحديثِ صادراً عن أئمّةِ أهلِ البيتِ عليهم السّلام أم لم يكُن صادراً عنهم، إنّما هيَ مسألةٌ يقومُ بها أهلُ الاختصاصِ مِن نُقّادِ الحديثِ قديماً وحديثاً، ولا بأسَ بإعادةِ الجوابِ عن هذا السؤالِ بأسلوبٍ آخر يُعطي فكرةً للدّارسِ والمُتلقّي والسامع، فيعمَّ نفعُه للجميع، فنقولُ: المعروفُ بينَ أهلِ العلمِ أنّ إثباتَ صحّةِ الرواياتِ تتوقّفُ على أمرين لا بُدّ منهما: أحدُهما: معرفةُ صحّةِ الكتبِ المنسوبةِ إلى مؤلّفيها التي يُؤخذُ منها الأحاديثُ، وأنّها منَ الكُتبِ المُعتبرة، والآخرُ: إخضاعُ الرواياتِ الموجودةِ في هذهِ الكتبِ إلى المعاييرِ والشروطِ التي قرّرَها أهلُ العلمِ لبيانِ صحّةِ الأحاديثِ مِن عدمِ صحّتها.  

فأمّا الأمرُ الأوّلُ، فإنَّ معرفةَ صحّةِ الكتبِ المنسوبةِ إلى مؤلّفيها تتمُّ مِن خلالِ وصولِ تلكَ الكتبِ مِن عصرِ المُتقدّمينَ إلى عصرِ المُتأخّرينَ ومن ثمَّ إلى العصرِ الحالي، فيتمُّ ذلكَ إمّا بنقلِها نقلاً متواتراً بواسطةِ الرّواة، وإمّا أن ينقلها مشايخُ الثقاتِ الأجلّةِ مِـمَّن عاصرَ المؤلّفَ مِن تلاميذِه المُباشرين، وهؤلاءِ بدورِهم ينقلونها إلى تلاميذِهم جيلاً بعدَ جيل، وهكذا الحالُ إلى أن تنقلَ هذهِ الكتبُ مِن كابرٍ عن كابرٍ وثقةٍ عن ثقة حتّى تصلَ إلى علماءِ العصر. وكما يُعبّرُ بالعبارةِ المشهورة: كُلُّ خلفٍ يأخذُ عمّا سلف. ومِـمّا يؤيّدُ صحّةَ ذلكَ ما نجدُه في إجازاتِ العلماءِ حولَ هذا الأمر، فراجِع مثلاً: إجازة العلّامةِ الحلّيّ لبني زهرة، وكذلكَ إجازة الشهيدِ الثاني للشيخِ حُسين بنِ عبدِ الصمدِ البهائيّ، وبيّنَ ذلكَ الشيخُ الحرُّ العامليّ في آخرِ جزءٍ مِن كتابِه وسائلُ الشيعة، إذ بيّنَ هناكَ كيفَ وصلَت إليه كتبُ المُتقدّمينَ والمُتأخّرينَ المُعتبرة التي تحوي آلافَ الرواياتِ المرويّةِ عن أئمّةِ أهلِ البيتِ عليهم السّلام، وبيّنَ ذلكَ أيضاً العلّامةُ المجلسيُّ في البحار، إذ عقدَ باباً كاملاً لإجازاتِ العلماءِ في كيفيّةِ وصولِ الكتبِ إليهم، وبيّنَ موثوقيّتَها وشُهرتَها وكيفَ وصلَت إليه وإلى غيرِه مِن أهلِ العلم. فراجِع إن شئتَ ذلك.  

وأمّا الأمرُ الآخر، فإنّ علماءَ الشيعةِ الاماميّةِ كانوا - ولا يزالونَ - مُلتزمينَ دائماً بإخضاعِ كافّةِ الرواياتِ والأحاديثِ وجميعِ الرُّواةِ والمُحدّثينَ مِن دونِ استثناءٍ للتمحيصِ والتدقيقِ حتّى يتعرّفوا على حالِ الروايةِ مِن حيثُ المتن والسند، فمِن جهةِ السندِ يدرسونَ حالَ رواتِها مِن حيثُ الوثاقة وعدمها، فيميّزونَ الصالحينَ منهم عن الطالحين، والمؤمنينَ عن المُنافقين، ليتسنّى لهم الأخذُ منَ الصالحينَ والمؤمنينَ الموثوقينَ دونَ غيرِهم، ثمَّ مِن بعدِ ذلكَ تأتي مرحلةُ دراسةِ متنِ الحديث، فيخضعونَه لضوابطَ رصينةٍ أخرى لمعرفةِ إن كانَ هذا المتنُ مُخالفاً للكتابِ العزيزِ أو كانَ مُخالفاً للسنّةِ المُتواترة أو المُستفيضةِ أو كانَ مُخالفاً للعقلِ الحصيفِ أو ما اتّفقَ عليه المُسلمون، فإذا لم يُخالفها نأخذُ به، و إذا خالفَها نطرحُه وإن كانَ سندُه نقيّاً. [ينظر: كتابُ أصولِ الحديثِ : للعلّامةِ الدكتورِ الشيخِ عبدِ الهادي الفضليّ، وكتابُ الحديثِ النبوي بينَ الروايةِ والدراية ، للعلّامةِ الشيخِ جعفرٍ السبحانيّ].  

وهاهُنا أمرٌ لا بُدَّ مِن مُراعاتِه وأخذِه في الاعتبارِ لكلِّ مَن يعرضُ لدراسةِ حديثٍ ما، وهو:  

ينبغي أن يُعلمَ أنّ الروايةَ إذا كانَت صحيحةَ السندِ، أي كانَ رجالها ثقاتاً وإسنادُها متّصلاً، فهيَ في الأعمِّ الأغلبِ تكونُ روايةً صحيحةً صادرةً عن المعصومِ عليهِ السّلام، ولكنَّ هذا الأمرَ ليسَ كذلكَ دائماً، إذ في أحيانٍ أخرى يتوفّرُ شرط الوثاقةِ في الرواةِ والاتّصالُ في الإسناد، ولكنَّ متنَ الروايةِ يكونُ مُنكَراً لأسبابٍ عديدة، منها:   

1-أن تكونَ الروايةُ ربّما صدرَت منَ المعصومِ عليهِ السّلام تقيّةً، وفي هذه الحالةِ إذا كانَت الروايةُ صادرةً عن تقيّةٍ فهيَ لا تعبّرُ عن واقعِها الحقيقيّ كما لا يخفى على أهلِ العلم.   

2- أو أن يكونَ أحدُ رواةِ الحديثِ الناقلُ لهذه الروايةِ وإن كانَ ثقةً في نفسِه، لكنّه ليسَ بمعصومٍ منَ الخطأ، فيشتبهُ عليه الأمرُ وينسى أو يدخلُ عليه حديثٌ في حديثٍ أو يسهو أو نحو هذهِ الأمورِ التي يعرفُها أهلُ الصنعةِ المُشتغلونَ بنقدِ الحديثِ سنداً ومتناً، فلذا لا ينبغي الاغترارُ بكونِ روايةٍ ما رجالها ثقاتٌ وإسنادُها مُتّصل معناها أنّها صحيحةٌ وصادرةٌ منَ المعصومِ عليهِ السّلام دائماً، فليسَ الأمرُ كذلك؟   

3-وبعكسِ هذا الحالِ لو وجدنا روايةً في سندِها راوٍ ضعيفٌ أو ضعيفٌ جدّاً أو كانَت مُرسلةً فليسَ دائماً أنّها روايةٌ ضعيفةٌ وغيرُ صادرةٍ عن المعصومِ

عليه السلام، إذ هناكَ عدّةُ رواياتٍ ضعيفةُ الإسنادِ صحيحةُ المتنِ قد احتفَّت بقرائنَ وشواهدَ تُثبتُ صحّتها، ولذا عملَ بها جمهورُ العلماءِ منَ المُتقدّمينَ والمُتأخّرينَ والمُعاصرين، وهذا الأمرُ معروفٌ لدى جميعِ علماءِ المذاهبِ الإسلاميّةِ وليسَ عندَ الإماميّةِ فحسب، إذ هم يعلمونَ أنّ هناكَ أحاديثَ ضعافاً في مختلفِ الأبوابِ ولكن عليها العملُ بغيرِ خلاف.

4- وننبّهُ في نهايةِ المطافِ على أنّ مسألةَ تصحيحِ الأحاديثِ والأخذِ بها أو ردِّها هي ليسَت منَ السهولةِ بحيثُ يقومُ بها أيُّ أحدٍ مِن طلبةِ العلومِ الدينيّةِ فضلاً عن غيرِهم مِـمّن عرفَ شيئاً عن علمِ الحديثِ والرّجال، وإنّما يقومُ بهذا الأمرِ المُشتغلونَ بنقدِ الحديثِ الذينَ مارسوا نقدَ الروايةِ كثيراً وغاصوا في كتبِ الحديثِ وفي بيانِ أحوالِ رواتِها، ولم تأخُذهم العجلةُ في الحُكمِ على الحديثِ، بل إنّهم يتأنّونَ كثيراً قبلَ أن يحكموا على الحديثِ، لأنّهم إن لم يفعلوا ذلكَ ولم يحتاطوا كثيراً في هذهِ المسألة، فالنتيجةُ المُترتّبةُ على العجلةِ في الحُكمِ على الحديثِ أنّ مثلَ هذا الحديثِ إذا حُكِمَ عليهِ بالصحّةِ فسيدورُ على الألسنِ وتتناوله الكتبُ والأقلامُ في ثقةٍ واطمئنان، وإذا حُكِمَ عليهِ بالضعفِ والردِّ فسيطويهِ الإهمالُ والنسيان. فلذا ينبغي لنا الحذرُ الشديدُ في هذهِ المسألةِ حتّى لا نُصحّحَ منَ الأحاديثِ ما لا يصحُّ، ولا نضعّفَ منها ما ليسَ بضعيف، ولندَع مهمّةَ هذا الأمرِ الخطيرِ بيدِ العلماءِ مِن نقّادِ الحديث. ودمتُم سالِمين.