ما هوَ تفسيرُ الآيةِ الكريمة (الرّحمنُ على العرشِ استوى) عندَ المذاهبِ الخمسة؟  

: السيد رعد المرسومي

السّلامُ عليكُم ورحمة الله، 

بدءاً يجبُ التّنبيهُ أنّه ليس من باب الانصاف جعلُ دين وطريقةِ أهل البيت وهو دينُ رسول الله رأساً برأس مع مذاهب أوجدها واستحسنها الجمهور، فهذا إجحافٌ وظلمٌ وإنكارٌ لآيةِ التبليغ ومدلولِ واقعةِ يوم الغدير.

ثمّ اعلم أنّ لعُلماءِ العامّةِ (وهُم الحنفيّةُ والمالكيّةُ والشافعيّة والحنبليّة) مسلكينِ في تأويلِ هذهِ الآية:  

الأوّلُ: يُسمّونَه مسلكَ السّلفِ وهُم مَن كانَ مِن أهلِ القرونِ الثلاثةِ الأولى، قرنُ أتباعِ التابعينَ وقرنُ التابعينَ وقرنُ الصّحابة، والغالبُ عليهم أن يؤوّلوا الآياتِ المُتشابهةَ تأويلاً إجماليّاً بالإيمانِ بها وبالاعتقادِ أنَّ لها معنىً يليقُ بجلالِ اللهِ وعظمتِه ليسَت مِن صفاتِ المَخلوقين، بلا تعيينِ معنىً خاصٍّ كآيةِ (الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى) (سورةُ طه) وغيرِها منَ المُتشابهِ بأن يقولوا بلا كيفٍ أو على ما يليقُ بالله، وهذا يقالُ لهُ تأويلٌ إجمالي، أي قالوا استوى استواءً يليقُ به معَ تنزيهِه عن صفاتِ الحوادثِ، ونفوا الكيفيّةَ عن اللهِ تعالى أي مِن غيرِ أن يكونَ بـهيئةٍ ومِن غيرِ أن يكونَ كالجلوسِ والاستقرارِ والحركةِ والسكونِ وغيرِها ممّا هوَ صفةٌ حادثةٌ، هذا مسلكُ غالبِ السلفِ ردّوها مِن حيثُ الاعتقادِ إلى الآياتِ المُحكمةِ كقولِ اللهِ تعالى (لَيسَ كَمِثلِهِ شَىءٌ) (سورةُ طه) وتركوا تعيينَ معنـًى معيـَّنٍ لـها معَ نفي تشبيهِ اللهِ بخلقِه.  

فقد روى الحافظُ البيهقي في كتابِه الأسماءُ والصفات بإسنادٍ جيّدٍ كما قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ العسقلانيّ في الفتحِ مِن طريقِ عبدِ اللهِ بنِ وهب قالَ كنّا عندَ مالكٍ بنِ أنس فدخلَ رجلٌ فقالَ يا أبا عبدِ الله (الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى) كيفَ استواؤه؟ قالَ فأطرقَ مالكٌ وأخذَتهُ الرّحضاءُ ثمَّ رفعَ رأسَه فقالَ (الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى) كما وصفَ نفسَه، ولا يقالُ كيفَ وكَيفَ عنهُ مرفوعٌ، وأنتَ رجلُ سوءٍ صاحبُ بدعةٍ أخرجوه، قالَ فأخرجَ الرّجل.  

فقولُ مالكٍ: (وكيفٌ عنهُ مرفوع) أي ليسَ استواؤه على العرشِ كيفاً. أي هيئةٌ كاستواءِ المخلوقينَ مِن جلوسٍ ونحوِه.  

وقوله (أنتَ رجلُ سوءٍ صاحبُ بدعةٍ أخرجوه)، وذلكَ لأنَّ الرجلَ سألَه بقولِه كيفَ استواؤه، ولو كانَ الذي حصلَ مُجرّدَ سؤالٍ عن معنى هذهِ الآيةِ مع اعتقادِ أنّها لا تؤخذُ على ظاهرِها ما كانَ اعترضَ عليه.  

قالَ الشيخُ سلامة القضاعي العزامي (1376 هـ) مِن علماءِ الأزهرِ عن قولِ مالكٍ لذاكَ الرجلِ صاحبُ بدعةٍ (لأنَّ سؤالَه عن كيفيّةِ الاستواءِ يدلُّ على أنّه فهمَ الاستواءَ على معناهُ الظاهرِ الحسّي الذي هوَ مِن قبيلِ تمكّنِ جسمٍ على جسم واستقرارِه عليه، وإنّما شكَّ في كيفيّةِ هذا الاستقرار، فسألَ عنها، وهذا هوَ التشبيهُ بعينِه الذي أشارَ إليه الإمامُ بالبدعة). اهـ  

وروى الحافظُ البيهقي مِن طريقِ يحيى بنِ يحيى قالَ كنّا عندَ مالكٍ بنِ أنس فجاءَ رجلٌ فقالَ يا أبا عبدِ الله، (الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى)، فكيفَ استوى؟ قالَ فأطرقَ مالكٌ رأسَه حتّى علاهُ الرحضاء، ثمَّ قالَ الاستواءُ غيرُ مجهولٍ، والكيفُ غيرُ معقول، والإيمانُ بهِ واجبٌ، والسّؤالُ عنهُ بدعةٌ، وما أراكَ إلّا مُبتدعاً، فأمرَ بهِ أن يخرج.  

فقوله (الاستواءُ غيرُ مجهول) أي أنّه معلومٌ ورودُه في آن، ولا يعني أنّه بمعنى الجلوسِ ولكن كيفيّة الجلوسِ مجهولةٌ، كما زعمَ بعضُ المُجسّمة، وقوله (والكيفُ غيرُ معقول) معناهُ أنَّ الاستواءَ بمعنى الكيفِ أي الهيئة كالجلوسِ لا يُعقل أي لا يقبلهُ العقل، لكونِه مِن صفاتِ الخلق، لأنَّ الجلوسَ لا يصحُّ إلّا مِن ذي أعضاءٍ أي كإليةٍ وركبةٍ، وتعالى اللهُ عن ذلك، فلا معنى لقولِ المُشبّهةِ الاستواءُ معلومٌ والكيفيّةُ مجهولةٌ، يقصدونَ بذلكَ أنَّ الاستواءَ الجلوس لكن كيفيّةُ جلوسِه غيرُ معلومةٍ، لأنَّ الجلوسَ كيفما كانَ لا يكونُ إلّا بأعضاء، وهؤلاءِ يوهمونَ الناسَ أنَّ هذا مرادُ الإمامِ مالك، فلا يُغترّ بتمويهاتِهم.  

وقالَ الحافظُ اللغوي محمّد مرتضى الزبيدي في شرحِ الإحياءِ ما نصُّه (وقالَ ابنُ اللبان في تفسيرِ قولِ مالك، قوله (كيفٌ غيرُ معقول) أي كيف مِن صفاتِ الحوادث، وكلُّ ما كانَ مِن صفاتِ الحوادثِ فإثباته في صفاتِ اللهِ تعالى يُنافي ما يقتضيهِ العقل، فيجزمُ بنفيه عن اللهِ تعالى، قوله (والاستواءُ غيرُ مجهول) أي أنّه معلومُ المعنى عندَ أهلِ اللغة، (والإيمانُ به) على الوجهِ اللائقِ به تعالى (واجبٌ) لأنّه منَ الإيمانِ باللهِ وبكتبِه). اهـ  

فنفيُ الكيفِ عن اللهِ تعالى أي الهيئة وكلّ ما كانَ مِن صفاتِ الخلق، كالجلوسِ والاستقرارِ والحركةِ والسّكونِ وما شابهَ ذلك، محلُّ اتّفاقٍ بينَ علماءِ أهلِ السنّةِ والجماعةِ سلفاً وخلفاً.  

وقالَ الشافعيُّ: (آمنتُ بما جاءَ عن اللهِ على مرادِ الله، وبما جاءَ عن رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم على مُرادِ رسولِ الله) يعني: لا على ما قد تذهبُ إليه الأوهامُ والظنونُ منَ المعاني الحسيَّةِ الجسميّة التي لا تجوزُ في حقِّ اللهِ تعالى.

وقالَ الحافظُ البيهقي في الأسماءِ والصّفاتِ ما نصُّه (فأمّا الاستواءُ فالمُتقدّمونَ مِن أصحابِنا كانوا لا يفسّرونَه ولا يتكلّمونَ فيه كنحوِ مذهبِهم في أمثالِ ذلك)، وقالَ في موضعٍ آخر (وحكينا عن المُتقدّمينَ مِن أصحابِنا تركُ الكلامِ في أمثالِ ذلك، هذا معَ اعتقادِهم نفيَ الحدِّ والتشبيهِ والتمثيلِ عن اللهِ سُبحانَه وتعالى) ثمَّ أسندَ إلى أبي داودَ قوله (كانَ سفيانُ الثوري وشعبةُ وحمّادُ بنُ زيدٍ وحمّادُ بنُ سلمةَ وشريكٌ وأبو عوانةَ لا يحدّونَ ولا يشبّهونَ ولا يمثّلون، يروونَ الحديثَ لا يقولونَ كيفَ، وإذا سُئلوا أجابوا بالأثر)، قالَ أبو داود (وهوَ قولنا). 

قلتُ: (وعلى هذا مضى أكابرُنا) وقالَ في موضعٍ آخر عن الأوزاعي عن الزهري ومكحول قالَ أمضوا الأحاديثَ على ما جاءَت، ثمَّ قالَ سُئلَ الأوزاعي ومالكٌ وسفيانُ الثوري والليثُ بنُ سعدٍ عن هذهِ الأحاديثِ التي جاءَت في التشبيهِ، أي ظاهرُها يوهمُ ذلكَ فقالوا (أمِرُّوها كما جاءَت بلا كيفيّة). اهـ  

ومِن عُلماءِ المالكيّةِ الذي يذهبُ إلى تأويلِ الاستواءِ على العرشِ بالقهرِ والاستيلاءِ الشيخُ برهانُ الدينِ إبراهيمُ اللقاني المالكي (ت 1041 هـ) في شرحِه على منظومتِه جوهرةِ التوحيدِ والشيخُ أحمدُ بنُ غنيم النفراوي الأزهري المالكي (ت 1126 هـ) في كتابِه الفواكهُ الدّواني على رسالِة ابنِ أبي زيدٍ القيرواني قالَ ما نصُّه (استوى أي استولى بالقهرِ والغلبةِ استيلاءَ مُلكٍ قاهرٍ وإلهٍ قادر، ويلزمُ مِن استيلائِه تعالى على أعظمِ الأشياءِ وأعلاها استيلاؤه على ما دونَه). اهـ  

والشيخُ مُحمّد الطيّب بنِ عبدِ المجيدِ المدعو ابنِ كيران المالكي (ت 1227 هـ) في شرحِه على توحيدِ العالمِ الماهر عبدِ الواحدِ بنِ عاشر مُفسّراً الاستواءَ على العرشِ بالقهرِ والغلبة، كقولِه (فلمّا علونا واستوينا عليهم * جعلناهم مرعىً لنسرٍ وطائر) وقولِه (قد استوى بشرٌ على العراقِ * مِن غيرِ سيفٍ ودمٍ مــهــراق) وخصَّ العرشَ لأنّه أعظمُ المخلوقاتِ، ومن استولى على أعظمِها كانَ استيلاؤه على غيرِه أحرى). اهـ  

والشيخُ أبو الحسنِ عليٌّ بنُ محمّد المنوفي المالكي المصري (ت 939 هـ) قالَ في كتابِه كفايةُ الطالبِ ما نصُّه (فمعنى استوائِه على عرشِه أنَّ اللهَ تعالى استولى عليهِ استيلاءَ ملكٍ قادرٍ قاهر، ومَن استولى على أعظمِ الأشياءِ كانَ ما دونه في ضمنِه ومنطوياً تحتَه، وقيلَ الاستواءُ بمعنى العلوّ أي علوّ مرتبتِه ومكانتِه لا علوَّ المكان). اهـ.  

والشيخُ إسماعيلُ بنُ موسى بنِ عثمانَ الحامدي المالكي (ت 1316 هـ) قالَ في شرحِه على العقيدةِ الصّغرى (وأمّا قولهُ تعالى في سورةِ طه (الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى) فمعناهُ واللهُ أعلم أنّه مستولٍ بقهرِه وعظمتِه وسلطانِه، وليسَ المعنى أنّهُ جالسٌ على العرش، لأنَّ هذا مِن صفاتِ الحوادثِ وهوَ محالٌ في حقِّه تعالى، وبالجُملةِ فكلُّ ما خطرَ ببالكَ من صفاتِ الحوادثِ فاللهُ بخلافِ ذلك). اهـ  

والشيخُ عبدُ الرحمنِ بنِ محمّد بنِ مخلوف أبو زيدٍ الثعالبي المالكي (ت 875 هـ) قالَ في تفسيرِه الجواهرُ الحِسان (والقاعدةُ في هذهِ الآيةِ ونحوِها منعُ النقلةِ وحلولِ الحوادثِ ويبقى استواءُ القُدرةِ والسلطان). اهـ  

والعالمُ النحوي الأصولي الفقيهُ المالكي أبو عمرو عثمانُ بنُ عمر ابن الحاجب (ت 646 هـ) قالَ في أماليّه (فإنّما أتى بـ (على) لِـما في الاستواءِ مِن معنى الاستعلاء، ألا ترى إلى قولِه تعالى (ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرشِ)، وقولِه للشاعرِ (قد استوى بشرٌ على العراق) يريدُ بذلكَ علوَّ القهرِ، بدليلِ قولِه في عقيدتِه عن الله (وعدمُ حلولِه في المُتحيّز، وعدمُ اتّحادِه بغيرِه، وعدمُ حلولِه فيه، واستحالةُ كونِه في جهة). اهـ  

والمُفسّرُ أبو عبدِ اللهِ محمّدٌ بنُ أحمد الأنصاري القرطبي (ت 671 هـ) قالَ في تفسيرِه (وقيلَ علا دونَ تكييفٍ ولا تحديد، واختارَه الطبريُّ ويذكرُ عن أبي العاليةِ الرياحي في هذه الآيةِ أنّه يقالُ استوى بمعنى أنّه ارتفعَ، قالَ البيهقيُّ ومُرادُه مِن ذلكَ – واللهُ أعلم – ارتفاعُ أمرِه، وهوَ بخارُ الماءِ الذي وقعَ منهُ خلقُ السماء، وقيلَ إنَّ المستوى الدّخان، وقالَ ابنُ عطيّة وهذا يأباهُ وصفُ الكلام، وقيلَ المعنى استولى، كما قالَ الشاعرُ قد استوى بشرٌ على العراق** مِن غيرِ سيفٍ ودمٍ مهراق، قالَ ابنُ عطيّة وهذا إنّما يجيءُ في قولِه تعالى (الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى) قلتُ قد تقدّمَ في قولِ الفراءِ عليّ وإليّ بمعنى، وسيأتي لهذا البابِ مزيدُ بيانٍ في سورةِ الأعرافِ إن شاءَ اللهُ تعالى، والقاعدةُ في هذهِ الآيةِ ونحوِها منعُ الحركةِ والنقلة. اهـ  

والشيخُ الفقيهُ الأصوليُّ المُفسّرُ شهابُ الدينِ أحمد القَرافي المالكي (ت 684 هـ) قالَ في كتابِه الذخيرةُ ما نصُّه (ومعنى قولِ مالكٍ الاستواءُ غيرُ مجهولٍ، أنَّ عقولنا دلّتنا على الاستواءِ اللائقِ باللهِ وجلالِه وعظمتِه، وهوَ الاستيلاءُ دونَ الجلوسِ

ونحوه ممّا لا يكونُ إلّا في الأجسام). اهـ  

والقاضي الفقيهُ الإمامُ الشيخُ أبو الوليدِ محمّدٌ بنُ أحمد المالكي قاضي الجماعةِ بقُرطُبة المعروفِ بابنِ رشدٍ الجد (ت 520 هــ) قالَ ما نصُّه (والاستواءُ في قولِه تعالى (ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرشِ) (سورةُ الأعراف) معناهُ استولى قالَه الواحدي وقيلَ معناهُ القهرُ والغلبةُ ذكرَه ابنُ الحاجّ المالكي في كتابِه المدخلُ موافقًا لهُ ومُقــرًّا لكلامِه.

والمُفسّرُ أبو محمّدٍ عبدُ الحقِّ بنُ عطيّةَ الأندلسي (ت 541 هـ) قالَ في تفسيرِه وقيلَ المعنى استولى كما قالَ الشاعرُ قد استوى بشرٌ على العراقِ *** من غيرِ سيفٍ ودمٍ مهراق، وهذا إنّما يجيءُ في قولِه تعالى (الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى) والقاعدةُ في هذه الآيةِ ونحوِها منعُ النقلةِ وحلولِ الحوادثِ، ويبقى استواءُ القُدرةِ والسلطانِ. اهـ وقالَ وقد تقدّمَ القولُ في كلامِ الناسِ في الاستواءِ، واختصارُه أنَّ أبا المعالي رجّحَ أنّه استوى بقهرِه وغلبتِه، وقالَ القاضي ابنُ الطيّبِ وغيرُه (استَوَى) في هذا الموضعِ استولى. اهـ  

وقالَ الإمامُ أحمد عندَما سُئلَ عن الاستواءِ (استوى كما أخبرَ لا كما يخطرُ للبشر).  

والثاني مسلكُ الخلفِ، وهُم الذينَ جاؤوا بعدَ السّلف، وهُم يؤوّلونَها تفصيلاً بتعيينِ معانٍ لها ممّا تقتضيهِ لغةُ العرب ولا يحملونَها على ظواهرِها أيضاً كالسلفِ، فيقولونَ استوى أي قهرَ، ومَن قالَ استولى (مِن غيرِ سبقِ مُغالبةٍ)، فالمعنى واحدٌ أي قهر، ولا بأسَ بسلوكِه ولا سيما عندَ الخوفِ مِن تزلزلِ العقيدةِ حفظاً منَ التشبيهِ.  

قالَ الحافظُ البيهقيُّ في كتابِه الاعتقاد ما نصُّه (وأصحابُ الحديثِ فيما وردَ بهِ الكتابُ والسنّةُ مِن أمثالِ هذا (يعني المُتشابه) ولم يتكلّم أحدٌ منَ الصحابةِ والتابعينَ في تأويلِه على قِسمين:  

منهُم مَن قبلَه وآمنَ به ولم يؤوّله ووكلَ علمَه إلى اللهِ ونفى الكيفيّةَ والتشبيهَ عنه، ومنهُم مَن قبله وآمنَ بهِ وحملَه على وجهٍ يصحُّ استعمالهُ في اللغة ِولا يناقضُ التوحيدَ، وقد ذكرنا هاتينِ الطريقتينِ في كتابِ الأسماءِ والصّفاتِ في المسائلِ التي تكلّموا فيها مِن هذا الباب. اهـ  

وقالَ القاضي الإمامُ أبو بكرٍ الباقلاني (ت 403 هـ) في كتابِه الانصافُ فيما يجبُ اعتقادُه ولا يجوزُ الجهلُ به ما نصُّه (ويجبُ أن يعلمَ أنَّ كلَّ ما يدلُّ على الحدوثِ أو على سمةِ النقصِ فالربُّ تعالى يتقدّسُ عنه، فمِن ذلكَ أنّه تعالى مُتقدّسٌ عن الاختصاصِ بالجهاتِ، والاتّصافِ بصفاتِ المُحدثاتِ، وكذلكَ لا يوصفُ بالتحوّل، والانتقالِ، ولا القيامِ، ولا القعودِ لقولِه تعالى (لَيسَ كَمِثلِهِ شَىءٌ) وقولِه (وَلَم يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ) ولأنَّ هذه الصفاتَ تدلُّ على الحدوثِ، واللهُ تعالى يتقدّسُ عن ذلك، فإن قيلَ أليسَ قد قالَ (الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى) قُلنا بلى قد قالَ ذلك، ونحنُ نطلقُ ذلكَ وأمثالهُ على ما جاءَ في الكتابِ والسنّة، لكن ننفي عنهُ أمارةَ الحدوثِ، ونقولُ استواؤه لا يشبهُ استواءَ الخلقِ، ولا نقولُ إنَّ العرشَ له قرارٌ، ولا مكان، لأنَّ اللهَ تعالى كانَ ولا مكان، فلمّا خلقَ المكانَ لم يتغيّر عمّا كان). اهـ  

وقالَ البيضاوي في تفسيرِه (ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرشِ) (سورةُ الأعراف) استوى أمرُه أو استولى، وعن أصحابِنا أنَّ الاستواءَ على العرشِ صفةٌ للهِ بلا كيفٍ، والمعنى أنَّ له تعالى استواءً على العرشِ على الوجهِ الذي عناه مُنزّهاً عن الاستقرارِ والتمكّن. اهـ  

وقالَ ملا علي القاري في مرقاةِ المفاتيح (وعن أبي هريرةَ قالَ قالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم (ينزلُ ربّنا) أي أمرُه لبعضِ ملائكتِه، أو ينزلُ مُناديه (تباركَ) كثرُ خيرُه ورحمتُه وآثارُ جمالِه (وتعالى) عن صفاتِ المخلوقينَ من الطلوعِ والنزولِ وارتفعَ عن سماتِ الحدوثِ بكبريائِه وعظمتِه وجلالِه، قيلَ إنّهما جملتانِ مُعترضتانِ بينَ الفعلِ وظرفِه، للتنبيهِ على التنزيهِ لئلّا يتوهّمَ أنَّ المرادَ بالإسنادِ ما هو حقيقتُه (كلَّ ليلةٍ إلى السّماءِ الدنيا).

قالَ ابنُ حجرٍ: أي ينزلُ أمرُه ورحمتُه أو ملائكتُه وهذا تأويلُ الإمامِ مالكٍ وغيرِه ويدلُّ له الحديثُ الصحيحُ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يمهلُ حتّى يمضي شطرُ الليلِ ثمَّ يأمرُ مُنادياً ينادي فيقولُ هل مِن داعٍ فيُستجابُ له، الحديثُ، والتأويلُ الثاني ونُسبَ إلى مالكٍ أيضاً أنّه على سبيلِ الاستعارةِ، ومعناه الإقبالُ على الداعي بالإجابةِ واللطفِ والرحمةِ وقبولِ المعذرةِ كما هوَ عادةُ الكُرماءِ لا سيما الملوكِ إذا نزلوا بقُربِ مُحتاجينَ ملهوفينَ مُستضعفين، قالَ النوويّ في شرحِ مُسلم: في هذا الحديثِ وشبهِه مِن أحاديثِ الصفاتِ وآياتِها، مذهبانِ مشهورانِ، فمذهبُ جمهورِ السلفِ وبعضِ المُتكلّمينَ الإيمانُ بحقيقتِها على ما يليقُ بهِ تعالى وأنَّ ظاهرَها المُتعارفَ في حقّنا غيرُ مُرادٍ ولا نتكلّمُ في تأويلِها مع اعتقادِنا تنزيهَ اللهِ سبحانَه عن سائرِ سماتِ الحدوث، والثاني مذهبُ أكثرِ المُتكلّمينَ وجماعةٍ منَ السلفِ وهوَ محكيٌّ عن مالكٍ والأوزاعي إنّما يتأوّلُ على ما يليقُ بها بحسبِ بواطنِها، فعليهِ الخبرُ مؤوّلٌ بتأويلينِ أي المذكورينِ وبكلامِه وبكلامِ الشيخِ الربّاني أبي إسحاقَ الشيرازي وإمامِ الحرمينِ والغزالي وغيرِهم مِن أئمّتِنا وغيرِهم، يعلمُ أنَّ المذهبين مُتّفقانِ على صرفِ تلكَ الظواهرِ كالمجيءِ والصورةِ والشخصِ والرجلِ والقدمِ واليدِ والوجهِ والغضبِ والرحمةِ والاستواءِ على العرشِ والكونِ في السماءِ وغيرِ ذلكَ ممّا يُفهمُه ظاهرُها لِما يلزمُ عليه مِن محالاتٍ قطعيّةِ البطلانِ، تستلزمُ أشياءَ يُحكمُ بكُفرِها بالإجماع، فاضطرَّ ذلكَ جميعَ الخلفِ والسلفِ إلى صرفِ اللفظِ عن ظاهرِه وإنّما اختلفوا هل نصرفهُ عن ظاهرهِ مُعتقدينَ اتّصافَه سبحانَه بما يليقُ بجلالِه وعظمتِه، من غيرِ أن نؤوّلَه بشيءٍ آخر وهوَ مذهبُ أكثرِ أهلِ السلفِ وفيهِ تأويلٌ إجماليٌّ أو معَ تأويلِه بشيءٍ آخر وهوَ مذهبُ أكثرِ أهلِ الخلفِ وهوَ تأويلٌ تفصيليّ ولم يريدوا بذلكَ مُخالفةَ السلفِ الصالحِ معاذَ الله أن يظنَّ بهم ذلك، وإنّما دعَتِ الضرورةُ في أزمنتِهم لذلكَ لكثرةِ المُجسّمةِ والجهميّة وغيرِهما مِن فرقِ الضلالِ واستيلائِهم على عقولِ العامّة، فقصدوا بذلكَ ردعَهم وبطلانَ قولِهم ومِن ثمَّ اعتذرَ كثيرٌ منهم وقالوا لو كُنّا على ما كانَ عليهِ السلفُ الصّالح مِن صفاءِ العقائدِ وعدمِ المُبطلينَ في زمنِهم لم نخُض في تأويلِ شيءٍ مِن ذلكَ وقد علمت أنَّ مالكا ًوالأوزاعي وهُما مِن كبارِ السلفِ أوّلا الحديثَ تأويلاً تفصيليّاً وكذلكَ سفيانُ الثوري أوّلَ الاستواءَ على العرشِ بقصدِ أمرِه ونظيرِه ثمَّ استوى إلى السماءِ أي قصدَ إليها ومنهُم الإمامُ جعفرٌ الصّادق بل قالَ جمعٌ منهم ومنَ الخلفِ أنَّ مُعتقدَ الجهةِ كافرٌ كما صرّحَ به العراقيُّ وقال: 

إنّهُ قولٌ لأبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعي والأشعري والباقلاني). اهـ  

فالحاصلُ أنَّ الذي لا يحملُ الآياتِ المُتشابهة على ظاهرِها بل يقولُ لها معانٍ لا أعلمُها، تليقُ باللهِ تعالى غيرَ هذهِ الظواهر، مثلاً استواءُ اللهِ على العرشِ له معنىً غيرُ الجلوسِ وغيرُ الاستقرارِ غيرُ استواءِ المخلوقينَ لكن لا أعلمُه فهذا سَلِمَ، وهذا هوَ الغالبُ على السلفِ حيثُ لا يخوضونَ بتعيينِ معانٍ لـها وتأويلها مع اعتقادِ تنزيهِ اللهِ عن الجلوسِ والاستقرار، وكذلكَ الذي يقولُ استواءُ اللهِ على العرشِ هوَ قهرُه للعرش، سَلِمَ منَ التشبيه.  

فالأوّلُ هو التأويلُ الإجماليّ أي يقولُ استوى استواءً يليقُ به مِن غيرِ أن يُفسّرَه بالقهر، والثاني هو التأويلُ التفصيليُّ أي يقولُ استوى معناهُ قهر، فمَن شاءَ أخذَ بذلكَ ومَن شاءَ أخذَ بهذا.  

وقالَ الشيخُ أحمد الرفاعي في البرهانِ المؤيّد (وصونوا عقائدَكم منَ التمسّكِ بظاهرِ ما تشابهَ منَ الكتابِ والسنّةِ لأنَّ ذلكَ مِن أصولِ الكفر). اهـ  

أمّا الوهابيّة، فليسوا على ما كانَ عليه جمهورُ أهلِ السنّة، بل هُم على مسلكِ المُجسّمةِ المُشبّهة، لأنَّ الوهابيّةَ حملوا الاستواءَ على الاستقرارِ، ومنهُم من حملهُ على الجلوسِ فوقعوا في تشبيهِ اللهِ بخلقِه، فلا يقالُ عنهم (السلفيّونَ أو السلفيّة) وإن سمّوا أنفسَهم بذلك، ليخدعوا الناسَ أنّهم على مذهبِ السلفِ، وقد علمت أنَّ مذهبَ السلفِ إنّما هوَ التوحيدُ والتنزيهُ دونَ التجسيمِ والتشبيه، والمُبتدعةُ يزعمونَ أنّهم على مذهبِ السلف. هذا ما وقفنا عليهِ من كلماتِ جمهورِ علماءِ العامّةِ في تفسيرِ هذهِ الآية.  

وأمّا منهجُ أهلِ البيتِ في تفسيرِ هذه الآية الكريمة، فهوَ الأبينُ والأصرحُ والأنقى مِن حيثُ نفيُ الجسميّة والتشبيهِ وما لا يليقُ بجلالِ الله، مع تفصيلٍ لبعضِ مفرداتِ الآيةِ ليسَ موجوداً عندَ بقيّةِ المذاهبِ الأخرى التي تتّفقُ مضموناً مع مدرسةِ أهلِ البيت (ع)، وفيما يلي بيانُ ذلكَ مِن خلالِ ما وردَ عن أئمّةِ أهلِ البيتِ عليهم السلام.  

إذ روى الشيخُ الصّدوقُ أعلى اللهُ مقامَه في كتابِ التوحيد/۳۱٦ ، قصّةَ قدومِ جاثليق إلى المدينةِ مع مائةٍ منَ النصارى بعدَ قبضِ رسولِ الله صلّى اللهُ عليهِ وآله ، وسؤالِه أبا بكرٍ عن مسائلَ لم يُجِبه عنها ، ثمّ أرشدَ إلى أميرِ المؤمنينَ عليٍّ بنِ أبي طالب عليهِ السلام ، فسألهُ عنها فأجابَه ، وكانَ في ما سألهُ أن قالَ له : « أخبرني عن الربِّ أينَ هوَ وأين كان ؟  

فقالَ عليٌّ عليهِ السلام : « لا يوصفُ الربُّ جلَّ جلالهُ بمكانٍ ، هو كما كانَ ، وكانَ كما هوَ ، لم يكُن في مكانٍ ، ولم يزَل من مكانٍ إلى مكان ، ولا أحاطَ بهِ مكان ، بل كانَ لم يزَل بلا حدٍّ ولا كيف » ، قالَ : صدقتَ ، فأخبرني عن الربِّ أفي الدّنيا هوَ أو في الآخرة ؟

قالَ عليٌّ عليهِ السلام :«  لم يزَل ربّنا قبلَ الدّنيا ، ولا يزالُ أبداً ، هوَ مدبّرُ الدنيا ، وعالمٌ بالآخرة ، فأمّا أن يحيطَ به الدّنيا والآخرة فلا ، ولكِن يعلمُ ما في الدّنيا والآخرة » . قالَ : صدقتَ يرحمُك اللهُ ، ثمّ قال : أخبِرني عن ربِّك أيَحملُ أو يُحمل ؟  

فقالَ عليٌّ عليهِ السلام : « إنَّ ربّنا جلَّ جلاله يَحمِلُ ولا يُحمل » . قال النصرانيّ : فكيفَ ذاكَ ونحنُ نجدُ في القرآن: { وَيَحمِلُ عَرشَ رَبِّكَ فَوقَهُم يَومَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}(الحاقة/۱۷).  

 فقالَ عليٌّ عليهِ السلام : « إنّ الملائكةَ تحملُ العرشَ ، وليسَ العرشُ كما تظنُّ كهيئةِ السّرير ، ولكنّه شيءٌ محدودٌ مخلوقٌ مُدبّر ، وربّكَ عزَّ وجلَّ مالكُه ، لا أنّه عليهِ ككونِ الشيءِ على الشيءِ ، وأمرَ الملائكةَ بحملِه ، فهُم يحملونَ العرشَ بما أقدرَهم عليه » . قالَ النصراني : صدقتَ رحمكَ الله ... إلى آخرِ الحديث».  

ـ وفي/۳۱۷ : عن الإمامِ الصّادق عليهِ السلام أنّه سُئلَ عن قولِ اللهِ عز وجل:{الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى}(طه/٥). فقالَ : « استوى مِن كلِّ شيءٍ ، فليسَ شيءٌ أقربُ إليه مِن شيء . وعنهُ عليهِ السلام : مَن زعمَ أنّ اللهَ عزَّ وجل مِن شيءٍ ، أو في شيءٍ ، أو على شيءٍ فقد كفرَ ، قلتُ : فسِّر لي ، قالَ : أعني بالحوايةِ منَ الشيءِ له ، أو بإمساكٍ له ، أو مِن شيءٍ سبقَه» .  

 وفي روايةٍ أخرى قالَ : « مَن زعمَ أنّ اللهَ مِن شيءٍ فقد جعلَه مُحدثاً ، ومَن زعمَ أنّه في شيءٍ فقد جعلهُ محصوراً ، ومن زعمَ أنّه على شيءٍ فقد جعلهُ محمولاً ً».  

وعنه عليهِ السّلام قال :«  كذبَ من زعمَ أنّ اللهَ عزَّ وجل مِن شيءٍ أو في شيءٍ أو على شيء»  .  

 ـ وفي/۳۱۹ : عن داودَ الرقّي ، قالَ :  « سألتُ أبا عبدِ اللهِ عليهِ السلام عن قولِه ، عزَّ وجل : {وَكَانَ عَرشُهُ عَلَى المَاءِ}(هود/۷). فقالَ لي : « ما يقولونَ في ذلك ؟ » . قلتُ : يقولونَ إنّ العرشَ كانَ على الماءِ والربُّ فوقَه ، فقالَ : « كذبوا ، مَن زعمَ هذا فقد صيّرَ اللهَ محمولاً ، ووصفَه بصفةِ المخلوقينَ ، ولزمَه أنّ الشيءَ الذي يحملهُ أقوى منه » . قلتُ : بيّن لي جُعلتُ فداكَ ، فقالَ : « إنّ اللهَ عزَّ وجلَّ حمّلَ علمَه ودينَه الماءَ قبلَ أن تكونَ أرضٌ أو سماءٌ أو جنٌّ أو إنسٌ أو شمسٌ أو قمر ، فلمّا أرادَ أن يخلقَ الخلقَ نثرَهم بينَ يديه فقالَ لهم : مَن ربُّكم ؟ ! فكانَ أوّلُ مَن نطقَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله وأميرُ المؤمنينَ عليهِ السلام والأئمّةُ صلواتُ اللهِ عليهم ، فقالوا : أنتَ ربُّنا ، فحمّلَهم العلمَ والدينَ ، ثمّ قالَ للملائكةِ : هؤلاءِ حملةُ عِلمي وديني واُمنائي في خلقِي وهُم المسؤولون .  

ثمّ قيلَ لبني آدم : أقرّوا للهِ بالربوبيّةِ ولهؤلاءِ النفرِ بالطاعة ، فقالوا : نعَم ربّنا أقرَرنا ، فقالَ للملائكةِ : اشهدوا . فقالَت الملائكةُ شهِدنا على أن لا  يقولوا إنّا كُنّا عن هذا غافلينَ أو يقولوا إنّما أشركَ آباؤنا مِن قبل وكُنّا ذريّةً مِن بعدِهم أفتهلكنا بما فعلَ المُبطلونَ ، يا داود ! ولايتُنا مؤكّدةٌ عليهم في الميثاق » .  

عن أبي الصّلتِ عبدِ السلامِ بنِ صالحٍ الهروي قالَ : « سألَ المأمونُ أبا الحسنِ عليّاً بنَ موسى الرّضا صلى اللهُ عليهِ وآله ، عن قولِ اللهِ عزَّ وجل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرشُهُ عَلَى المَاءِ لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلاً}(هود/۷). فقالَ : إنّ اللهَ تباركَ وتعالى خلقَ العرشَ والماءَ والملائكةَ قبلَ خلقِ السماواتِ والارض ، وكانَت الملائكةُ تستدلُّ بأنفسِها وبالعرشِ والماءِ على اللهِ عزَّ وجل ، ثمّ جعلَ عرشَه على الماءِ ليُظهرَ بذلكَ قُدرتَه للملائكةِ فيعلموا أنّه على كلِّ شيءٍ قدير ، ثمّ رفعَ العرشَ بقُدرتِه ونقلَه فجعلَه فوقَ السماواتِ السبعِ وخلقَ السماواتِ والأرضَ في ستّةِ أيّامٍ ، وهوَ على عرشِه ، وكانَ قادراً على أن يخلقَها في طرفةِ عينٍ ، ولكنّه عزَّ وجلَّ خلقَها في ستّةِ أيامٍ ليُظهرَ للملائكةِ ما يخلقُه منها شيئاً بعدَ شيء ، وتستدلَّ بحدوثِ ما يحدثُ على اللهِ تعالى ذكرُه مرّةً بعدَ مرّة ، ولم يخلُق اللهُ العرشَ لحاجةٍ بهِ إليه ؛ لأنّه غنيٌّ عن العرشِ وعن جميعِ ما خلق ، لا يوصفُ بالكونِ على العرشِ ؛ لأنّه ليسَ بجسمٍ ، تعالى اللهُ عن صفةِ خلقِه علوّاً كبيراً ».  

وفي/۳۲۱ : ٥۰ ـ بابُ العرشِ وصفاتِه : عن حنانٍ بنِ سدير ، قالَ : « سألتُ أبا عبدِ اللهِ عليهِ السلام عن العرشِ والكُرسي ، فقالَ : إنّ للعرشِ صفاتٍ كثيرةً مُختلفةً ، له في كلِّ سببٍ وُضعَ في القرآنِ صفةٌ على حدةٍ فقولهُ { َرَبُّ العَرشِ العَظِيمِ} يقولُ : الملكُ العظيم ، وقوله:{الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى}(طه/٥).

يقولُ : على المُلكِ احتوى ، وهذا مُلكُ كيفوفيّةِ الأشياء ، ثمّ العرشُ في الوصلِ مُتفرّدٌ منَ الكُرسي ؛ لأنّهما بابانِ مِن أكبرِ أبوابِ الغيوب ، وهُما جميعاً غيبان ، وهُما في الغيبِ مقرونان ؛ لأنّ الكُرسيَّ هوَ البابُ الظاهرُ منَ الغيبِ الذي منهُ مطلعُ البِدعِ ومنهُ الأشياءُ كلّها ، والعرشُ هوَ البابُ الباطنُ الذي يوجدُ فيهِ علمُ الكيفِ والكونِ والقدرِ والحدِّ والأين والمشيّة وصفةِ الإرادة ، وعلمُ الألفاظِ والحركاتِ والتركِ ، وعلمُ العَودِ والبدء فهُما في العلمِ بابانِ مقرونان ؛ لأنّ ملكَ العرشِ سوى ملكِ الكرسي ، وعلمُه أغيبُ مِن علمِ الكرسي ، فمِن ذلكَ قالَ : { َرَبُّ العَرشِ العَظِيمِ}  أي صفتُه أعظمُ مِن صفةِ الكُرسي وهُما في ذلكَ مقرونان . قلتُ : جُعلتُ فداك ! فلم صارَ في الفضلِ جارُ الكرسي ؟ قالَ : إنّه صارَ جارَه ، لأنّ علمَ الكيفوفيّة فيه ، وفيهِ الظاهرُ مِن أبوابِ البداءِ وأينيّتها وحدِّ رتقِها وفتقِها » . ودمتُم سالمين.