دَعوَى وُجُودِ خَللٍ بَلَاغِيٍّ في نَصٍّ قُرآنِيٍّ!!

نَصٌّ مِن القُرآنِ: (وَلَا ـ حرج ـ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ).   ـ نَقدُ النَّصِّ: النَّصُّ فيْه تَكرَارٌ مُمِلٌّ ورَتِيبٌ، وهو خَالٍ مِن البَلَاغةِ ومِن الحِكمَةِ ومِن أيِّ مَضمُونٍ على خِلَافِ ما تدَّعُونَه مِن إعجَازِ بَلاغَةِ القُرآنِ؟

: اللجنة العلمية

     الأخُ المُحتَرمُ.. السَّلامُ علَيكُم ورَحمةُ اللهِ وبَركَاتُه. 

     يَنبَغِي لمَن يُرِيدُ أنْ يُحاكِمَ نَصّاً ما، سَواءٌ كَانَ هذا النَّصُّ مِن القُرآنِ الكَرِيمِ، أم قَصِيدةً شِعرِيَّةً لأحَدِ الشُّعرَاءِ القُدمَاءِ، أم جُملَةً صَدرَتْ مِن مُتَكلِّمٍ بَلِيغٍ، عليْه أنْ يُرَاجِعَ الظُّرُوفَ التي قِيلَتْ فِيْها هذِهِ الكَلِمَاتُ والأسبَابَ التي دَعتْ إلى قَولِهَا، والتي يُسمِّيهَا عُلمَاءُ البَلاغَةِ بالقَرائِنِ المُحِيطَةِ بالكَلَامِ، حتى عدَّ أهلُ البَلاغَةِ أنَّ المُتكَلِّمَ لا يَكُونُ بَلِيغاً حتى يَكُونَ كَلَامُه مُطابِقاً لمُقتَضَى الحَالِ، وهذا بَحثٌ يَعرِفُه المُتخَصِّصُونَ في عِلْمِ البَلاغَةِ جَيِّداً.

     ومِن هُنا وحتى نَعرِفَ أسبَابَ صُدُورِ هذِهِ الكَلِمَاتِ أو تلكَ في القُرآنِ الكَرِيمِ عليْنا مُرَاجَعةُ عِلْمٍ مِن العُلُومِ القُرآنِيَّةِ اسْمُه (أسبَابُ النُّزُولِ).

     يَقُولُ الوَاحِديُّ: «لا يُمكِنُ تَفسِيرُ الآيَةِ دُونَ الوُقُوفِ على قِصَّتِها وبَيَانِ نُزُولِها». [كِتَابُ: أسْبَاب للوَاحِدِي، ص6].

     والآنَ نأتِي إلى الأسبَابِ التي دَعَتْ إلى نُزُولِ الآيَةِ المُتقدِّمةِ في مَحَلِّ السُّؤالِ.

     قَالَ الفَرَّاءُ: لمَّا نَزلَ قَولُه: (لا تَأكُلُوا أموَالَكُم بَينَكُم بالبَاطِلِ إلا أنْ تَكُونَ تِجارَةً) تَركَ النَّاسُ مُؤاكَلةَ الصَّغِيرِ والكَبِيرِ ممَّن أذِنَ اللهُ تَعَالى في الأكْلِ معَه، فقَالَ تَعَالى: ولَيسَ علَيكُم في أنفُسِكم، وفي عِيَالِكُم حَرَجٌ أنْ تَأكُلُوا مِنْهم ومَعَهم إلى قَولِه (أو صَدِيقِكُم) أي بُيُوتُ صَدِيقِكُم،  (أو مَا مَلكْتُم مَفاتِحَه) أي بُيُوتُ عَبِيدِكُم وأموَالُهُم. انتَهى (راجِعْ: تَفسِيرَ التِّبيَانِ للشَّيخِ الطُّوسِي ج7 ص 462).

     إذنْ أسبَابُ ذِكْرِ الآيَةِ الكَرِيمةِ لهذِهِ الأصْنَافِ بالذَّاتِ في مَوضُوعِ الأكْلِ هذا هو وُجُودُ حَالَةٍ أرَادَ الإسْلَامُ مُعَالجَتَها وتِبيَانَ مَوقِفِه مِنْها بَعدَ أنْ الْتَبسَ أمْرُ النَّاسِ فيْها.

     أمَّا دَعوَى وُجُودِ التَّكرَارِ في الآيَةِ الكَرِيمةِ وأنَّ هذا مُخِلٌّ بالبَلاغَةِ.. فهُنا نُوجِّهُ سُؤَالَنا لأهلِ الإختِصَاصِ مِن أهلِ البَلاغَةِ ونَسألُهُم: هل مُطلَقُ التَّكرَارِ يُخِلُ بِالبَلاغَةِ؟!! 

     يَقُولُ السُّيوطِيُّ في "المُزهِر في عُلُومِ اللُّغَةِ" ج1 ص 332: (مِن سُنَنِ العَربِ: التَّكرِيرُ والإعَادةُ إرَادَةَ الإبلَاغِ بحَسَبِ العِنايةِ بالأمْرِ. قَالَ الحَارِثُ بنُ عبَّادٍ:

قَرِّبا مَربط النَّعامةِ منِّي ** لَقَحَتْ حربُ وائلٍ عن حِيال

     فكَرَّرَ قَولَه: "قرِّبا مَربط النَّعامةِ منِّي" في رُؤُوسِ أبيَاتٍ كَثِيرةٍ عِنَايةً بالأمْرِ وإرَادةَ الإبلَاغِ في التَّنبِيهِ والتَّحذِيرِ). انتَهى. 

     وجَاءَ عن ابنِ فَارسٍ في "الصَّاحِبي في فِقهِ اللُّغَةِ "ج1 ص 127 قَولُه: (ومِن سُنَنِ العَرَبِ التَّكرَارُ والإعَادةُ إرادَةَ الإبلَاغِ بحَسَبِ العِنايَةِ بالأمْرِ والمَوقِفِ الخِطَابِي). انتَهى.

     وجَاءَ عن ابنِ جِنِّي في كِتَابِه "الخَصَائِص" ص 90: (اعْلَمْ أنَّ العَربَ إذا أرَادَتْ المَعنَى مَكَّنتْه، واحْتاطَتْ له، فمِن ذلِك التَّوكِيدُ، وهو على ضَربَينِ:    

     أحدُهُما: تَكرِيرُ الأوَّلِ بلَفْظِه، وهو نَحوَ: قَامَ زَيدٌ قَامَ زَيدٌ، وضَربْتُ زَيداً ضَربْتُ، وقد قَامَتْ الصَّلَاةُ قد قَامَتْ الصَّلَاةُ، واللهُ أكبَرُ اللهُ أكبَرُ... 

     والثَّاني: تَكرِيرُ الأوَّلِ بمَعنَاهُ، وهو على ضَرْبَينِ، أحدُهُما للإحَاطَةِ والعُمُومِ، والآخَرُ للتَّثبِيتِ والتَّمكِينِ). انتَهى. 

     إذنْ تَبيَّنَ لنا مِن كَلِمَاتِ أهلِ الإختِصَاصِ في اللُّغَةِ والبَلاغَةِ أنَّ التَّكرَارَ ليسَ مُخِلًّا بِالبَلاغَةِ مُطلَقاً، بل هو مِن سُنَنِ العَربِ وعَادَاتِهم في الكَلَامِ إذا أرَادُوا تَمكِينَ المَعنَى والعِنايَةِ بالأمْرِ.

     والآنَ نَسأَلُ عن الوَجْهِ البَلَاغِي في التَّكرَارِ الوَارِدِ في الآيَةِ المُتقدِّمَةِ حتى يَتَّضِحَ لنا المَعنَى جَليّاً في المَوضُوعِ الَّذي بأيَدِينَا؟!

     يَقُولُ السَّيدُ الطَّباطبَائِيُّ في "المِيزَانِ": (وقَولُه: (مِن بُيُوتِكُم أو بُيُوتِ آبائِكُم).... إلخ، في عدِّ (بُيُوتِكُم) مع بُيُوتِ الأقرِبَاءِ وغَيرِهِم إشارَةٌ إلى نَفيِ الفَرْقِ في هذا الدِّينِ المَبنِيِّ على كَوْنِ المُؤمِنِينَ بَعضُهُم أولِيَاءُ بَعْضٍ بَينَ بُيُوتِهِم أنفُسِهِم وبُيُوتِ أقْرِبَائِهم وما مَلكُوا مَفاتِحَه وبُيُوتِ أصْدِقَائِهم. على أنَّ (بُيُوتِكُم) يَشمِلُ بَيتَ الإبْنِ والزَّوجِ كمَا وَرَدتْ به الرِّوايَةُ، وقَولُه: (أو مَا مَلكْتُم مَفاتِحَه) المَفاتِحُ جَمعُ مَفتَحٍ وهو المَخزَنُ، والمَعنَى: أو البَيتُ الَّذي مَلكْتُم، أي تَسلَّطْتُم على مَخَازِنِه التي فيْها الرِّزقُ كمَا يَكُونُ الرَّجُلُ قَيِّماً على بَيتٍ أو وَكِيلاً أو سُلِّمَ إليْه مِفتَاحُه. وقَولُه: (أو صَدِيقِكُم) مَعطُوفٌ على ما تَقدَّمَه بتَقْدِيرِ بَيتٍ على ما يُعلَمُ مِن سِيَاقِه، والتَّقدِيرُ: أو بَيتُ صَدِيقِكُم.

     قَولُه تَعَالى: (ليسَ علَيكُم جُنَاحٌ أنْ تأكُلُوا جَمِيعاً أو أشتَاتاً) الأشتَاتُ جَمعُ شَت وهو مَصدَرٌ بمَعنَى التَّفرُّقِ اسْتُعمِلَ بمَعنَى المُتفَرِّقِ مُبالَغةً ثم جُمِعَ، أو صِفةٌ بمَعنَى المُتفَرِّقِ كالحَقِّ، والمَعنَى: لا إثمَ علَيكُم إنْ تَأكُلُوا مُجتَمِعِينَ وبَعضَكُم مع بَعْضٍ أو مُتفَرِّقِينَ). انتَهى.

     وجَاءَ عن الشَّيخِ السَّعدِي في تَفسِيرِه "تَيسِيرِ الكَرِيمِ الرَّحمَن" قَولُه: (وليسَ المُرَادُ مِن قَولِه: (مِنْ بُيُوتِكُمْ) بَيتَ الإنسَانِ نَفسِه، فإنَّ هذا مِن بَابِ تَحصِيلِ الحَاصِلِ، الَّذي يُنزَّهُ عنْه كَلامُ اللهِ، ولأنَّه نَفَى الحَرَجَ عمَّا يُظَنُّ أو يُتوَهَّمُ فيْه الإثمُ مِن هؤلَاءِ المَذكُورِينَ، وأمَّا بَيتُ الإنسَانِ نَفسِه فَليسَ فيْه أدنَى تَوهُّمٍ.

(أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ) : وهؤلَاءِ مَعرُوفُونَ.

(أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ) أي: البُيُوتُ التي أنتُم مُتصَرِّفُونَ فيْها بوَكَالةٍ، أو وِلَايةٍ ونَحوِ ذلِك. 

     (أَوْ صَدِيقِكُمْ) وهذا الحَرَجُ المَنفِيُّ عن الأكْلِ مِن هذِهِ البُيُوتِ: كُلُّ ذلِك إذا كَانَ بدُونِ إذنٍ.

     والحِكمَةُ فيْه مَعلُومَةٌ مِن السِّيَاقِ، فإنَّ هؤلَاءِ المُسمَّيْنَ قد جَرَتْ العَادةُ والعُرفُ بالمُسَامَحةِ في الأكْلِ مِنْها لأجلِ القَرابَةِ القَرِيبَةِ، أو التَّصرُّفِ التَّامِّ، أو الصَّداقَةِ.

     فلو قُدِّرَ في أحَدٍ مِن هؤلَاءِ عَدمُ المُسَامَحةِ، والشَّحُّ في الأكْلِ المَذكُورِ لم يَجُزْ الأكْلُ، ولم يَرتَفِعْ الحَرَجُ، نَظراً للْحِكمَةِ والمَعنَى). انتهى.

     ومِن خِلَالِ بَيَانِ هذَينِ العِلْمَينِ تَبيَّنتْ الوُجُوهُ في تَكرَارِ هذِهِ المُسمَّيَاتِ مِن البُيُوتِ والأشخَاصِ في الآيَةِ الكَرِيمةِ.  

     تَقُولُ: وهل تُوجَدُ حِكمَةٌ مِن هذا التَّفصِيلِ في الآيَةِ الكَرِيمةِ يُمكِنُ أنْ يَستَفِيدَه المُسلِمُونَ مِنْها في حَيَاتِهم على مرِّ التأرِيخِ باعْتِبَارِ أنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ كِتَاباً لكُلِّ الأجيَالِ والأزمَانِ؟!

     الجَوابُ: هذِهِ الآيَةُ يُستَفادُ مِنْها في مَباحِثَ مُتَعدِّدةٍ تَدخُلُ في عِلْمِ الإجتِمَاعِ والنَّفسِ والفِقْهِ وغَيرِهَا.. وعلى سَبِيلِ المِثَالِ يَذكُرُ الفُقَهاءُ هذِهِ المَسألَةَ في كُتُبِهِم: هل يَجُوزُ أنْ يَأكُلَ الإنسَانُ مِن مَالِ غَيرِه بغَيرِ إذنِهِ؟!!

     الجَوابُ (كمَا في كِتَابِ جَواهِرِ الكَلامِ ج36 ص 405 ): {لا يَجُوزُ أنْ يَأكُلَ الإنسَانُ مِن مَالِ غَيرِهِ} ولو كانَ كَافِراً مُحتَرَمَ المَالِ {إلا بإذنِهِ} بلا خِلَافٍ، بل الإجمَاعُ بقِسمَيْهِ عليْه إنْ لم تَكُنْ ضَرُورةً، والكِتَابُ  والسُّنةُ دَالَّانِ عليْه، بل العَقلُ أيضاً {و} لكنْ {قد رُخِّص} كِتَاباً وسُنَّةً بل وإجمَاعاً {مع عَدمِ الإذنِ في التَّناوُلِ} في الجُملَةِ {مِن بُيُوتِ مَن تَضَمَّنتْه الآيَةُ إذا لم يَعلَمْ منْه الكَراهِيَّةَ} وهي قَولُه تَعَالى: (لَيسَ على الأعْمَى حَرَجٌ ولا علَى الأعْرَجِ حَرَجٌ، ولا علَى المَرِيضِ حَرَجٌ، ولا علَى أنفُسِكُم أنْ تَأكُلُوا مِن بُيُوتِكُم أو بُيُوتِ آبَائِكُم أو بُيُوتِ أمَّهاتِكُم أو بُيُوتِ إخْوَانِكُم أو بُيُوتِ أخَوَاتِكُم أو بُيُوتِ أعْمَامِكُم أو بُيُوتِ عمَّاتِكُم أو بُيُوتِ أخْوَالِكُم أو بُيُوتِ خَالَاتِكُم أو ما مَلكْتُم مَفاتِحَه أو صَدِيقِكُم لَيسَ عَلَيكُم جُنَاحٌ أنْ تأكُلُوا جَمِيعاً أو أشْتَاتاً).

     قَالَ الحَلبِيُّ في الصَّحِيحِ: "سَألتُ أبا عَبدِ اللهِ (علَيه السَّلامُ) عن هذِهِ الآيَةِ ما يَعنِي بقَولِه: (أو صَدِيقِكُم)؟ قَالَ: هو واللهِ الرَّجُلُ يَدخُلُ بَيتَ صَدِيقِه، فيَأكُلُ بغَيرِ إذنِه".

     وقَالَ الصَّادِقُ (علَيه السَّلامُ) في خَبَرِ زُرَارةَ في قَولِ اللهِ (عزَّ وجلَّ): (أو صَدِيقِكُم): "هؤلَاءِ الَّذينَ سمَّى اللهُ (عزَّ وجلَّ) في هذِهِ الآيَةِ يَأكُلُه (يأكل خ ل) بغَيرِ إذنِهِم مِن التَّمرِ والمَأدُومِ، وكذلِكَ تَأكُلُ المَرْأةُ بغَيرِ إذنِ زَوجِهَا، وأمَّا ما خَلا ذلِك مِن الطَّعَامِ فلا". انتَهى.

     وهُناكَ أبعَادٌ نَفسِيَّةٌ وإجتِمَاعيَّةٌ وتَربَويَّةٌ كَثِيرَةٌ ذَكَرَها المُتخَصِّصُونَ عِندَ تّعرُّضِهِم لمَا وَردَ مِن أحكَامٍ وآدابٍ في سُورَةِ النُّورِ يُمكِنُ مُراجَعَتُها في مَظَانِّها لا يَسعُ المَجَالُ لذِكْرِها كُلِّها هُنا.

     ودُمتُم سَالِمينَ.