هَلْ تُوجَدُ ضَابِطَةٌ تُحَدِّدُ العَاطِفَةَ تُجَاهَ المُقَدَّسِ؟!
كَرِيمٌ :/الرَّسُولُ يُقِيمُ عَزَاءَ الحُسَيْنِ، رَاجِعْ الحَدِيثَ فِي مُسْنَدِ أحْمَدَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا شَرْحَبِيلُ بْنُ مُدْرِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ نَجي، عَنْ أبِيهِ أَنَّهُ سَارَ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكَانَ صَاحِبَ مُطْهَرَتِهِ، فَلَمَّا حَاذَى نَيْنَوَى وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِلَى صَفِّينَ فَنَادَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: اصْبِرْ أَبَا عَبْدِ اللهِ، اصْبِرْ أَبَا عَبْدِ اللهِ بِشَطِّ الفُرَاتِ. قُلْتُ: وَمَاذَا قَالَ؟ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ذَاتَ يَوْمٍ وَعَيْنَاهُ تَفِيضَانِ. قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَغْضَبَكَ أحَدٌ! مَا شَأنُ عَيْنَيْكَ تَفِيضَانِ؟ قَالَ: بَلْ قَامَ مِنْ عِنْدِي جِبْرِيلُ قَبْلُ فَحَدَّثَنِي أَنَّ الحُسَيْنَ يُقْتَلُ بِشَطِّ الفُرَاتِ. قَالَ فَقَالَ: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ أَشُمَّكَ مِنْ تُرْبَتِهِ؟ قَالَ قُلْتُ: نَعَمْ. فَمَدَّ يَدَهُ فَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فأَعْطَانِيهَا فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيْ أَنْ فَاضَتَا. الرَّدُّ: (أوَّلًا): الحَدِيثُ إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، عَبْدُ اللهِ بْنُ نَجِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَأَبُوهُ نَجي لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ ابْنِهِ، وَلَمْ يُوَثِّقْهُ غَيْرُ ابْنِ حَبَّانَ، وَقَالَ: لَا يُعْجِبُنِي الإحْتِجَاجُ بِخَبَرِهِ إِذَا انْفَرَدَ. انْظُرْ مُسْنَدَ أَحْمَدَ2 / 77) مُؤَسَّسَةُ الرِّسَالَةِ. (ثَانِيًا): نَقُولُ: إِنَّ الحُزْنَ وَالبُكَاءَ شَيْءٌ، وَالنِّيَاحَةُ وَالَّتِي هِيَ بُكَاءٌ مَعَ صَوْتٍ، وَالتَّطْبِيرُ وَشَقُّ الرُّؤُوسِ بِالفُؤُوسِ، وَضَرْبُ الوَجْهِ بِالسَّلَاسِلِ وَالمُوسِ، وَاللَّطْمُ وَشَقُّ الجُيُوبِ وَلُبْسُ السَّوَادِ شَيْءٌ آخَرُ، فَلَمْ يَجْرَأْ عُلَمَاءُ الشِّيعَةِ أَنْ يَرْوُوا حَدِيثاً وَاحِدًا عَنْ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ هَذِهِ الأُمُورَ أَوْ أَمَرَ بِهَا وَالعِيَاذُ بِاللهِ، بَلْ لَمْ يَأْتِ حَدِيثٌ عَنْ الأَئِمَّةِ يَأمُرُهُمْ بِذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنْهُمْ بِعَكْسِ هَذَا، ثُمَّ كَيْفَ يَقِيسُونَ الحُزْنَ وَالبُكَاءَ بِهَذِهِ الأشْيَاءِ مَعَ أنَّهُ قِيَاسٌ فَاسِدٌ؟! بِالإِضَافَةِ إِلَى أنَّ القِيَاسَ أصْلًا مُحَرَّمٌ وَبَاطِلٌ فِي مَذْهَبِهِمْ؟! وَهَذَا شَيْخُهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ بَابَوَيْهٍ الْقُمِّيِّ المُلَقَّبِ عِنْدَ الشِّيعَةِ بِالصَّدُوقِ قَالَ: مِنْ أَلْفَاظِ رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) الَّتِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهَا: "النِّيَاحَةُ مِنْ عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ" رَوَاهُ الصَّدُوقُ فِي "مَنْ لَا يَحْضُرُهُ الفَقِيهُ" 4/271-272، كَمَا رَوَاهُ الحَرُّ العَامِلِيُّ فِي "وَسَائِلِ الشِّيعَةِ" 2/915، وَيُوسُفُ البَحْرَانِيُّ فِي "الحَدَائِقِ النَّاضِرَةِ" 4/167، وَالحَاجُّ حُسَيْنٌ البُروجَرْدِي فِي "جَامِعِ أَحَادِيثِ الشِّيعَةِ" 3 / 488.
الأخُ كَرِيمٌ المُحْتَرَمُ.. السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
1- إِمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الحَدِيثِ المُتَقَدِّمِ فَلَا يَصِحُّ تَضْعِيفُهُ، حَيْثُ إنَّ سَنَدَهُ صَحِيحٌ عَلَى مَبَانِي بَعْضِ عُلَمَائِكُمْ كَابْنِ حَبَّانَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالحَاكِمِ، وَالهَيْثَمِيِّ، وَحَتَّى أَحْمَدَ بْنِ سَوْفَ نبل الَّذِي رَوَاهُ فِي مُسْنَدِهِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّ مُسْنَدَهُ انْتَخَبَهُ مِنْ مِئَاتِ آلَافِ الأَحَادِيثِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ رَسُولِ اللهِ (ص) وَجَعَلَهُ مِيزَانًا لِثُبُوتِ وَصُدُورِ الحَدِيثِ مِنْ عَدَمِهِ.
2- الحَدِيثُ حِينَمَا أَخْرَجَهُ الهَيْثَمِيُّ فِي مَجْمَعِ زَوَائِدِهِ (9 / 187) قَالَ بَعْدَهُ مُقَوِّيًا وَمُصَحِّحًا لَهُ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَرِجَالُهُ ثُقَاتٌ وَلَمْ يَنْفَرِدْ نَجي بِهَذَا. أَه وَكَمَا تَرَى لَمْ يَطْعَنْ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ نَجي، بَلْ وَثَّقَهُ!
3- لَا يُمْكِنُ الحُكْمُ عَلَى حَدِيثٍ بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنْ القُوَّةِ وَرِوَايَةِ أَحْمَدَ لَهُ فِي مُسْنَدِهِ، وَتَصْحِيحِ العُلَمَاءِ لَهُ، بِالإِضَافَةِ إِلَى وُجُودِ شَوَاهِدَ وَمُتَابَعَاتٍ لَهُ; حَيْثُ يَقُولُ الهَيْثَمِيُّ: إنَّ نَجي لَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ. وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ لَهُ مُتَابِعًا، بِالإِضَافَةِ إِلَى كَوْنِ الحَدِيثِ يُمْكِنُ الحُكْمُ عَلَيْهِ بِالتَّوَاتُرِ المَعْنَوِيِّ، أَيْ أَنَّ بُكَاءَ النَّبِيِّ الأَعْظَمِ عَلَى مَقْتَلِ الإِمَامِ الحُسَيْنِ ثَابِتٌ بِالتَّوَاتُرِ وَمَفْرُوغٌ مِنْهُ، فَمِنْ المُعِيبِ وَالجَهْلِ الإتِيَانُ بِحَدِيثٍ وَطَرِيقٍ وَاحِدٍ وَمُحَاوَلَةُ الطَّعْنِ فِيهِ رُغْمَ عَدَمِ وُجُودِ ضَعِيفٍ فِي سَنَدِهِ.
4- لَوْ رَاجَعْتُمْ مُتُونَ الأَحَادِيثِ الَّتِي تَنْقُلُ بُكَاءَ رَسُولِ اللهِ (ص) وَالتَّعْبِيرَ عَنْ حُزْنِهِ عَلَى مَقْتَلِ ابْنِهِ الإِمَامِ الحُسَيْنِ (عَ) لَرَأَيْتُمْ العَجَبَ العُجَابَ بِالإِضَافَةِ إِلَى تَعَدُّدِ الطُّرُقِ وَالأَسَانِيدِ، فَقَدْ رُوِيَ إِخْبَارُ النَّبِيِّ الأَعْظَمِ بِمَقْتَلِ الحُسَيْنِ وَالإهْتِمَامُ بِهِ وَإِظْهَارُ الحُزْنِ وَالبُكَاءِ عَلَيْهِ عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَأَبِي الطُّفَيْلِ، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَمَعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَعَائِشَةَ، وَزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَبِعِدَّةِ طُرُقٍ وَعِدَّةِ مُتُونٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا. وَيَكْفِيكَ مُرَاجَعَةُ مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ لِلهَيْثَمِيِّ (9 / 187 – 197).
5- أَمَّا قَوْلُكَ: إنَّ النِّيَاحَةَ غَيْرُ البُكَاءِ، وَإنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَلَوْ ثَبَتَ البُكَاءُ لَا يَثْبُتُ غَيْرُهُ مِمَّا يَفْعَلُهُ الشِّيعَةُ مِمَّا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ البُكَاءِ. فَنَقُولُ:
أ - لَا تُوجَدُ ضَابِطَةٌ فِي الشَّرْعِ تُحَدِّدُ التَّعْبِيرَ عَنْ العَاطِفَةِ وَالحُزْنِ عَلَى مَوْتِ عَزِيزٍ مَا لَمْ تَصْطَدِمْ مَعَ ثَوَابِتِ الدِّينِ أَوْ يَنُصَّ عَلَى تَحْرِيمِهَا حَتَّى يَحْصُلَ الإِجْمَاعُ عَلَيْهِ; وَلِذَلِكَ حِينَمَا حَكَى لَنَا القُرْآنُ الكَرِيمُ حُزْنَ نَبِيِّ اللهِ يَعْقُوبَ عَلَى ابْنِهِ يُوسُفَ (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) أَخْبَرَنَا بِمَدَى حُزْنِهِ وَكَثْرَةِ بُكَائِهِ حَتَّى ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنْ الحُزْنِ وَذَهَبَ بَصَرُهُ وَاتُّهِمَ بِالخِرَفِ ووو!
ب- هُنَاكَ رِوَايَاتٌ تُثْبِتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (ص) فَعَلَ أَكْثَرَ مِنْ البُكَاءِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ كَمَا رَأَتْهُ السَّيِّدَةُ الجَلِيلَةُ أُمُّ سَلَمَةَ فِي المَنَامِ، وَرُؤْيَةُ النَّبِيِّ (ص) فِي المَنَامِ حَقٌّ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ (ص) حِينَ قَالَ: (مَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي) وَهَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ السُّنَّةِ، فَقَدْ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
فَمِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ مَا أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ وَالتِّرْمِذِيُّ (5 /323) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَوَوْهُ بِسَنَدِهِمْ عَنْ سُلَيْمَانَ أَوْ سَلْمَى قَالَتْ: "دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) - تَعْنِي فِي المَنَامِ - يَبْكِي وَعَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ التُّرَابُ فَقُلْتُ: مَالَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: شَهِدْتُ قَتْلَ الحُسَيْنِ آنِفًا".
وَكَذَا رَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ (1/242) وَ (2 / 283) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِي المَنَامِ بِنِصْفِ النَّهَارِ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَعَهُ قَارُورَةٌ فِيهَا دَمٌ يَلْتَقِطُهُ أَوْ يَتَتَبَّعُ فِيهَا شَيْئًا قَالَ: قُلْتَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذَا؟ قَالَ: دَمُ الحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ، لَمْ أَزَلْ أَتَتَبَّعُهُ مُنْذُ اليَوْمِ! قَالَ عَمَّارٌ (الرَّاوِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ): فَحَفِظْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ فَوَجَدْنَا قَتْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ! وَأَخْرَجَهُ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ (4 / 398) وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَأَخْرَجَهُ الهَيْثَمِيُّ فِي مَجْمَعِ زَوَائِدِهِ (9 / 194) وَقَالَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ والطَّبَرَانِيُّ وَرِجَالُهُ أَحْمَد رِجَالُ الصَّحِيحِ.
ت- ذَكَرَ البُخَارِيُّ النِّيَاحَةَ فِي صَحِيحِهِ (2 / 81) فَبَوَّبَ لَهَا بِقَوْلِهِ: بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ النِّيَاحَةِ عَلَى المَيِّتِ، فَالبُخَارِيُّ المُتَشَدِّدُ يَقُولُ بِكَرَاهَتِهَا وَلَيْسَ بِتَحْرِيمِهَا!
ث- ثُمَّ يَأْتِي أَفْضَلُ شَارِحٍ لِلبُخَارِيِّ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ العَسْقَلَانِيُّ فِي فَتْحِ البَارِي (3 / 29) شَارِحًا بَابَ البُخَارِيِّ هَذَا لِيَقُولَ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ "مَا" مَصْدَرِيَّةٌ، وَ"مِنْ" تَبْعِيضِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: كَرَاهِيَةُ بَعْضِ النِّيَاحَةِ. أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ المُرَابِطِ وَغَيْرُهُ، وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً: أَنَّ بَعْضَ النِّيَاحَةِ لَا تَحْرُمُ. وَفِيهِ نَظَرٌ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ كَوْنِهِ (ص) لَمْ يَنْهَ عَمَّةَ جَابِرٍ لَمَّا نَاحَتْ عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّيَاحَةَ إِنَّمَا تَحْرُمُ إِذَا انْضَافَ إِلَيْهَا فِعْلٌ مِنْ ضَرْبِ خَدٍّ أَوْ شَقِّ جَيْبٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ (ص) إِنَّمَا نَهَى عَنْ النِّيَاحَةِ بَعْدَ هَذِهِ القِصَّةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِأُحُدٍ وَقَدْ قَالَ فِي أُحُدٍ: لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ. ثُمَّ نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ!!... أَه
ج- ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الفَتْحِ (8 / 114) قَوْلَهُ :وَيُسْتَفَادُ مِنْ الحَدِيثِ جَوَازُ التَّوَجُّعِ لِلمَيِّتِ عِنْدَ احْتِضَارِهِ بِمِثْلِ قَوْلِ فَاطِمَةَ (عَلَيْهَا السَّلَامَ): وَا كَرْبَ أَبَاهُ. وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النِّيَاحَةِ لِأَنَّهُ (ص) أَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهَا بَعْدَ أَنْ قُبِضَ: وَا أَبَتَاهُ.. إلَخ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ تِلْكَ الأَلْفَاظَ إِذَا كَانَ المَيِّتُ مُتَّصِفًا بِهَا لَا يُمْنَعُ ذِكْرُهُ لَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتْ فِيهِ ظَاهِرًا وَهُوَ فِي البَاطِنِ بِخِلَافِهِ أَوْ لَا يَتَحَقَّقُ اتِّصَافُهُ بِهَا فَيَدْخُلُ فِي المَنْعِ. أَه.
ح- ثُمَّ إنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ أَنَّهَا وَنِسَاءَ الصَّحَابَةِ قُمْنَ باللَّدْمِ أَيْ اللَّطْمِ عَلَى الصَّدْرِ وَالوَجْهِ عِنْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ (ص) وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِ أَبِي بَكْرٍ.
فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ (6 / 274): قَالَتْ عَائِشَةُ: مَاتَ رَسُولُ اللهِ (ص) بَيْنَ سحْرِي وَنَحْرِي وَفِي دَوْلَتِي لَمْ أَظْلِمَ فِيهِ أَحَدًا، فَمِنْ سَفَهِي وَحَدَاثَةِ سِنِّي أَنَّ رَسُولَ اللهِ (ص) قُبِضَ وَهُوَ فِي حِجْرِي، ثُمَّ وَضَعْتُ رَأْسَهُ عَلَى وِسَادَةٍ وَقُمْتُ أَلْتَدِمُ (يَعْنِي: أَلْطِمُ) مَعَ النِّسَاءِ وَأَضْرِبُ وَجْهِي. وَقَالَ الأَلْبَانِيُّ عَنْهُ فِي إرْوَاءِ الغَلِيلِ (7 / 86): وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
قَالَ العَلَّامَةُ العَيْنِيُّ فِي عُمْدَةِ القَارِي فِي شَرْحِ البُخَارِيِّ (12 / 260): وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ الكُبْرَى: عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ أَقَامَتْ عَائِشَةُ عَلَيْهِ النَّوْحَ، فَبَلَغَ عُمَرَ فَنَهَاهُنَّ فَأَبَيْنَ أَنْ يَنْتَهِينَ، فَقَالَ لِهُشَامِ بْنِ الوَلِيدِ: اخْرُجْ إِلَى ابْنَةِ أَبِي قَحَافَةَ - يَعْنِي أُمَّ فَروَةَ - فَعَلَاهَا بِالدُّرَّةِ ضَرَبَاتٍ، فَتَفَرَّقَ النَّوَائِحُ حِينَ سَمِعْنَ ذَلِكَ.
وَقَالَ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (3 / 91) وَ (8 / 127) جَازِمًا: وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ.
فَتَحَصَّلَ أَنَّ النَّوْحَ فَعَلَهُ السَّلَفُ وَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى حُرْمَتِهِ، بَلْ قَالَ الكَثِيرُ مِنْهُمْ بِكَرَاهَتِهِ أَوْ إِبَاحَتِهِ كَمَا فَعَلَتْهُ عَائِشَةُ وَأُمُّ فَروَةَ وَنِسَاءُ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ عُمَرُ فَقَطْ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ مِنْ السَّلْفِ.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ (3 / 577): عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ اجْتَمَعَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ نِسَاءٌ يَبْكِينَ، فَجَاءَ عُمَرُ وَمَعَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَعَهُ الدُّرَّةُ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! ادْخُلْ عَلَى أُمِّ المُؤْمِنِينَ فأْمُرْهَا فَلْتَحْتَجِبْ، وَأَخْرِجْهُنَّ عَلَيَّ قَالَ: فَجَعَلَ يُخْرِجُهُنَّ عَلَيْهِ وَهُوَ يَضْرِبُهُنَّ بِالدُّرَّةِ، فَسَقَطَ خِمَارُ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، خِمَارُهَا! فَقَالَ: دَعُوهَا وَلَا حُرْمَةَ لَهَا. كَان مُعَمَّرٌ يَعْجَبُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا حُرْمَةَ لَهَا.
وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ سَمِعَ نَوَّاحَةً بِالمَدِينَةِ لَيْلًا، فَأَتَى عَلَيْهَا فَدَخَلَ فَفَرَّقَ النِّسَاءَ، فَأَدْرَكَ النَّائِحَةَ فَجَعَلَ يَضْرِبُهَا بِالدُّرَّةِ فَوَقَعَ خِمَارُهَا، فَقَالُوا: شَعْرُهَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: أَجَلْ فَلَا حُرْمَةَ لَهَا.
وَبِالتَّالِي فَهُنَاكَ رِوَايَاتٌ فِيهَا نَهْيٌ، وَأُخْرَى فِي مُقَابِلِهَا تُجِيزُهُ، وَمِنْهَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مُقْتَضَى الجَمْعِ العِلْمِيِّ وَالعُرْفِيِّ يَقْتَضِي حَمْلَ النَّهْيِ عَلَى الكَرَاهَةِ أَوْ التَّفْصِيلِ بَيْنَ النَّوْحِ بِالحَقِّ وَالنَّوْحِ بِالبَاطِلِ، وَاللهُ العَالِمُ.
خ- هَذَا مَعَ عَدَمِ صِحَّةِ أَسَانِيدِ رِوَايَاتِ النَّهْيِ عِنْدَنَا، نَاهِيكَ عَنْ المُعَارَضَةِ بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا مَعَ فِعْلِ النَّبِيِّ (ص) وَالزَّهْرَاءِ (عَ) لِلنِّيَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَالبُكَاءِ الشَّدِيدِ، بِالإِضَافَةِ إِلَى السَّلَفِ عِنْدَكُمْ وَالأَئِمَّةِ (عَلَيْهِمْ السَّلَامُ) عِنْدَنَا، فَلَا يُمْكِنُ بَعْدَ كُلِّ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللهِ (ص) بِخُصُوصِ الإِمَامِ الحُسَيْنِ (عَ)، وَكَذَلِكَ فِعْلُ الزَّهْرَاءِ مَعَ رَسُولِ اللهِ (ص) وَكَذَا عَائِشَةُ وَالصَّحَابِيَّاتُ مِنْ اللَّطْمِ وَالنَّوْحِ عَلَيْهِ (ص) وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَتَبَيَّنَ جَوَازُ ذَلِكَ.
د- أَمَّا بِخُصُوصِ رِوَايَةِ (النِّيَاحَةُ مِنْ عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ) فَقَدْ رَوَاهَا الشَّيْخُ الصَّدُوقُ (قده) مُرْسَلَةً بِلَا إِسْنَادٍ، وَنَقَلَهَا عَنْهُ مَنْ ذَكَرْتُمْ مِنْ المُتَأَخِّرِينَ مَعَ كَوْنِهَا قُرِنَتْ مَعَ أُمُورٍ مَكْرُوهَةٍ قَطْعًا، وَلَمْ تَقْتَصِرْ الرِّوَايَةُ عَلَى ذِكْرِ مَا هُوَ حَرَامٌ فَقَطْ، وَلِذَلِكَ يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى الكَرَاهَةِ، أَوْ التَّقِيَّةِ، أَوْ النَّوْحِ بِالبَاطِلِ، فَتَأَمَّلْ.
وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الصَّدُوقِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ (ص) نَهَى عَنْ النِّيَاحَةِ، وَهِيَ ضَعِيفَةٌ أَيْضًا مَعَ كَوْنِهَا مُسْنَدَةً وَلَيْسَتْ بِمُرْسَلَةٍ كَهَذِهِ، وَلَكِنْ وَقَعَ فِي سَنَدِهَا ثَلَاثَةُ رُوَاةٍ بَيْنَ مُهْمَلٍ وَمَجْهُولٍ.
وَبِالتَّالِي فَلَمْ تَصِحَّ رِوَايَةٌ تَنُصُّ عَلَى تَحْرِيمِ النِّيَاحَةِ عِنْدَنَا، وَالأَصْلُ فِي الأَشْيَاءِ الإِبَاحَةُ، إِضَافَةً إِلَى كُلِّ مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَدُمْتُمْ سَالِمِينَ.
اترك تعليق