يحكم اكثر الناس على كلام الله من خلال المفهوم اللغوي والمفهوم اللغوي خاضع للرأي وقد قال الله عن كلامه انه باللسان العربي المبين هل هنالك استعداد لدراسة هذ الموضوع؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تُشكّلُ اللّغةُ أهمَّ عاملٍ لفهمِ النّصوصِ سواءٌ كانَت نصوصاً منَ القُرآنِ أو السّنّةِ؛ وذلكَ مِن أجلِ تحديدِ ما تحتويهِ مِن معانٍ وما ترشدُ إليهِ مِن مقاصد، ولِذا كانَ الاهتمامُ بمباحثِ الألفاظِ ودلالاتِ الكلماتِ مِن صُلبِ البحوثِ الإسلاميّةِ، وقد إهتمَّ علمُ أصولِ الفقهِ بشكلٍ خاصّ بدراسةِ الألفاظِ للكشفِ عَن آلياتِها الدّلاليّةِ، ومِن هُنا لا يستغني المُفسّرُ أو المُتدبّرُ في النّصوصِ عَن الإعتمادِ على تلكَ البحوث.
وبالرّغمِ مِن أنَّ فهمَ النّصِّ يبدو للإنسانِ العربيّ أمراً سهلًا، إلّا أنَّ هناكَ أكثرَ مِن عقبةٍ وبخاصّةٍ ما لهُ علاقةٌ بالتّأثيرِ الثّقافيّ على معاني الكلماتِ، مُضافاً إلى أنَّ النّصوصَ الدّينيّةَ ليسَت مُجرّدَ نصوصٍ لغويّةٍ وإنّما لها وضعُها الخاصُّ الذي يتطلّبُ تدخّلَ أكثرِ مِن عاملٍ لفهمِ مُرادِها، ولِذا منَ الضّروريّ أن نُشيرَ إلى بعضِ العقباتِ في طريقِ فهمِها، ومِن ثمَّ نشيرُ إلى بعضِ التّدابيرِ المنهجيّةِ. ومِن بينِ تلكَ العقباتِ:
1- قد يكونُ النّصُّ الدّينيّ واضِحاً في إطارِه العامّ – بحسبِ الدّلالةِ الوضعيّةِ للكلماتِ - ولكنّهُ يبقى غامِضاً أو مُجمَلًا في أبعادِه ومعاريضِه، وما يمكنُ أن يُحقّقهُ النّصُّ مِن معانٍ تتخطّى المعنى الظّاهرَ في الكلماتِ، ممّا يدعونا إلى المزيدِ منَ التّدبّرِ والتّأمّلِ فيه، والكثيرُ مِن بحوثِ الفقهِ تتناولُ هذا البُعدَ.
2- ابتعادُنا عنِ الظّروفِ التّاريخيّةِ المُحيطةِ بالنّصِّ، واضمحلالُ الكثيرِ منَ القرائنِ الحاليّةِ يجعلُ بعضَ النّصوصِ غامضةً وبحاجةٍ إلى المزيدِ منَ الدّرايةِ، ومِن هُنا اهتمَّت بحوثُ علومِ القرآنِ بدراسةِ الكثيرِ منَ العناوينِ التي تُقرّبُنا مِن دلالةِ الألفاظِ وقتَ نزولِ الوحي.
3- باعتبارِ أنَّ اللّغةَ تتّصلُ بالحالةِ الإجتماعيّةِ للإنسانِ، والمُجتمعُ في حالِ تطوّرٍ دائمٍ، ويقيناً إنَّ اللّغةَ العربيّةَ قَد تعرَّضَت لموجاتِ التّطوّرِ عبرَ هذهِ القرونِ المُتماديةِ، فإنّنا قَد نتلقّى النّصَّ الدّينيَّ وفقَ فهمِنا الحاضرِ للّغةِ العربيّةِ والذي قَد يكونُ مُختلِفاً عمّا كانَ سائِداً في ظروفِ ورودِ النّصّ.
4- باعتبارِ أنَّ اللّغةَ مِن جانبٍ آخر تتّصلُ بالثّقافةِ العامّةِ، وأنَّ معارفَ الدّينِ تختلفُ جذريّاً عَن ثقافاتِ البشرِ، ودارسُ النّصِّ الدّينيّ قد يكونُ مُتأثِّراً ببعضِ هذهِ الثّقافاتِ فيكونُ فهمُه للنّصِّ مشوباً بها وغيرَ نقيٍّ بالكاملِ، ممّا يُلقي بظلالِه على النّصّ.
وهذهِ العقباتُ وربّما غيرُها ممّا تعترضُ طريقَ فهمِ النّصّ الدّينيّ مما يجعلُه بحاجةٍ إلى المزيدِ منَ الدّرايةِ والتّدبّرِ، ولعلَّ المُقترحاتِ التّاليةِ تُساهمُ في تجاوزِ هذهِ العقباتِ.
أوّلاً: ضرورةُ استحضارِ مصدرِ النّصِّ الدّينيّ: إنَّ أوّلَ شيءٍ يفعلُه أيُّ مُتلقٍّ لنصٍّ ومتأمّلٍ فيهِ هوَ: معرفةُ المُتحدّثِ، مَن هوَ؟ وما هيَ غايتُه منَ الكلامِ؟ وأيُّ نمطٍ منَ الكلامِ ينتمي إليهِ حديثُه؟ وهذا ما يُؤكّدُه اليومَ علم دراسةِ النّصّ.
وعليهِ فإنَّ معرفةَ النّصِّ القُرآنيّ تكونُ مِن خلالِ استحضارِ كونِه كتاباً منَ اللهِ سُبحانَه العزيزِ الحكيمِ، وفضلُه على سائرِ الكلامِ كفضلِ اللهِ على خلقِه، وأنّهُ لا يأتيهِ الباطلُ مِن بينِ يديهِ ولا مِن خلفِه، ولكَي يقتربَ الإنسانُ مِن هكذا نصٍّ يجبُ أن يكونَ على مُستوىً روحيٍّ ومعنويٍّ يؤهّلُه لتلقّي معارفِه، ومِن هُنا نجدُ القُرآنَ وصفَ نفسَه بكونِه هُدىً للمُتّقينَ دونَ غيرِهم قالَ تعالى: (ذَٰلِكَ الكِتَابُ لَا رَيبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) وعليهِ فإنَّ الإطارَ السّليمَ الذي تُفهمُ بهِ آياتُ الكتابِ ويستضئُ مِن نورِه هوَ تزكيةُ النّفسِ وتهذيبُها لِذا قالَ تعالى: (يُزكّيهِم ويعلّمُهمُ الكتابَ والحكمةَ) فمَن زكى قلبُه وصَفَت نفسُه وتدبّرَ في آياتِه فسوفَ يلامسُ قلبهُ كلماتِ الوحي ويدركُ معانيها وحقائقَها.
وبما أنَّ النّاسَ يختلفونَ في مستوياتِ فهمِهم وحقولِ إهتمامِهم، فإنَّ اللهَ أنزل كتابَه على سبعةٍ أحرُفٍ، وجعلَ فيهِ تخوماً وبطوناً ووجوهاً وأبعاداً. وجعلَ فيهِ مُحكَماً ومُتشابِهاً، وجعلَ فيهِ ناسِخاً ومنسوخاً، لِذا أمرَنا باتّباعِ رسولِه والإهتداءِ بهديه، وجعلَ مِن بعدِه أئمّةً معصومينَ أوصانا بالرّجوعِ إليهم، بحيثُ لا يستغني الإنسانُ في معرفةِ القرآنِ مِن دونِ سؤالِهم والتّتلمذِ على أيديهم فقالَ تعالى: (فَاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لَا تَعلَمُونَ). وقالَ: (ولو ردّوهُ إلى الرّسولِ وإلى أولي الأمرِ منهُم لعلمَهُ الذينَ يستنبطونَه منهُم)
ثانياً: معرفةُ معاني الكلماتِ بالدّلالةِ التي نزلَت بها آياتُ القرآنِ: فبالرّغمِ مِن أنَّ القُرآنَ نزلَ بلغةٍ عربيّةٍ، وبالرّغمِ مِن أنَّ القُرآنَ هوَ الذي حافظَ على لغةِ العربِ إلّا أنَّ تأثّرَ اللّغةِ بدلالاتٍ جديدةٍ بسببِ تداخلِ الثّقافاتِ وتغيّرِ الحضاراتِ حقيقةٌ لا يمكنُ تغافلُها، ولِذا اقترحَ العُلماءُ مجموعةً منَ التّدابيرِ للإقترابِ مِن لُغةِ القُرآنِ، ومنها الوقوفُ على العُرفِ العامّ الذي رافقَ نزولَ الكتابِ، وهُمُ المُعاصرونَ للرّسولِ أو لمَن عاصرَه، وكذلكَ المُعاصرونَ لأئمّةِ الهُدى ومَن عاصرَهم؛ لأنّهُم يُعتبرونَ أقربَ لُغةً وأحسنَ فهماً لمصادرِ الوحي، وهكذا نستفيدُ مِن فهمِهم للنّصوصِ. وهذهِ الإستفادةُ سوفَ لا تقتصرُ على فهمِنا لمُفردةٍ مِن مُفرداتِ اللّغةِ، بلِ الأهمُّ هوَ النّفاذُ إلى منهجيّةِ أولئكَ في فهمِ نصوصِ الوحي بلا تكلّفٍ ولا تأويلاتٍ بعيدةٍ. وعليهِ إذا اجتهدَ الإنسانُ ومِن خلالِ تظافرِ هذهِ الأدلّةِ وغيرِها، فإنّهُ يتقدّمُ خطوةً أساسيّةً في معرفةِ أحكامِ الدّينِ وتجاوزِ المسافةِ الزّمنيّةِ التي تفصلُه عَن عصرِ الوحي ولغةِ ذلكَ العصر.
ثالِثاً فقهُ القرآنِ بالقرآنِ: ونقصدُ بذلكَ فهمَ القُرآنِ مِن خلالِ كلماتِه في مجالِ الخطابِ القُرآنيّ، فللسّياقِ الموضوعيّ أهمّيّةٌ بالغةٌ لمعرفةِ كلماتِ القُرآنِ المجيدِ، ومعرفةِ توظيفاتِه لمعاني الكلماتِ ضمنَ سياقاتٍ مُختلفةٍ، فإنَّ عمليّةَ التّدبّرِ في السّياقاتِ الموضوعيّةِ والموضعيّةِ تتكرّرُ آلافَ المرّاتِ، وفي كلِّ مرّةٍ تُقرِّبُنا إلى المعنى الأدقِّ للكلماتِ، ومِن خلالِ ذلكَ تتكوّنُ لدينا ذخيرةٌ هائلةٌ مِن فقهِ لغةِ القرآنِ وكلماتِه. وهكذا يصبحُ المزيدُ منَ التّدبّرِ في القُرآنِ وسيلةً لفهمِ معانيهِ، ولِذا أمرَنا اللهُ بالتّدبّرِ في آياتِه قالَ تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ وَلَو كَانَ مِن عِندِ غَيرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اختِلَافًا كَثِيرًا)
رابِعاً مرجعيّةُ المُحكماتِ: منَ المعروفِ أنَّ في القرآنِ مُحكماتٌ هُنَّ أمُّ الكتابِ، وهيَ بمثابةِ الأصولِ المُشتملةِ على جوامعِ العلمِ والحِكمةِ، وهيَ بالتّالي تُمثّلُ مرجِعاً للآياتِ المُتشابهةِ، وعليهِ فإنَّ الضّامنَ لسلامةِ الإستفادةِ مِن آياتِ القُرآنِ أن يكونَ التّدّبرُ تحتَ سقفِ الآياتِ المُحكمةِ، فإنّها تُشكّلُ الإطارَ الذي يتحرّكُ فيهِ عقلُ المُتدبّرِ فلا يحيدُ الطّريقَ ولا يُحمّلُ القرآنَ ما لا يحتمِل. وبهذهِ المنهجيّةِ يتقدّمُ التّدبّرُ لفقهِ النّصِّ خطوةً بعدَ خطوةٍ نحوَ كشفِ أسرارِ القُرآنِ ومِن ثَمَّ معرفةِ لغتِه.
خامِساً توافقُ العقلِ والوحي: جاءَ القرآنُ مُنسجِماً معَ فطرةِ الإنسانِ ومُرتكزاتِ العقلِ، حيثُ إنَّ جوامعَ العلمِ، وأصولَ المعرفةِ، وركائزَ الهُدى، وبصائرَ الوحي، هيَ تلكَ الحقائقُ الكُبرى التي أودعَها اللهُ سُبحانَه في كلِّ عقلٍ، وهيَ ميزانُ معرفةِ الإنسانِ، ولولاها لتاهَتِ البشريّةُ، ولما اهتدَت إلى ربّها ولما تعرّفَت على رسولِها والحجّةِ عليها؛ لكونِها الفطرةَ التي فطرَ اللهُ جميعَ البشرِ عليها، وعليهِ هُناكَ مُسبقاتٌ عقليّةٌ يُجْمِعُ النّاسُ عليها على اختلاِف مذاهبِهم وطبائعِهم، وهيَ الحُجّةُ فيما بينَهم. وهذهِ الأصولُ العقليّةُ هيَ التي يوقظُها الوحي في الإنسانِ لتُصبحَ ركيزةً لسائرِ شرائعِه ووصاياه. والتّدبّرُ المُستمرُّ في كتابِه هوَ الذي يُحيي في النّفسِ هذهِ البصائرَ، فكلُّ ما يخالفُ مُقتضياتِ العقلِ وضروراتِ المنطقِ لا يكونُ مُراداً للهِ في كتابِه، وهذا مِن أهمِّ المعاييرِ التي أهملَها البعضُ فوقعَ في ضلالاتٍ مِن أمثالِ الحشويّةِ المُجسّمةِ وغيرِهم.
وغيرُ ذلكَ منَ الضّوابطِ المنهجيّةِ التي تعرّضَ لها العلماءُ في بحوثِهم الأصوليّةِ والتّفسيريّةِ، كلّها تعملُ على ضمانِ الإستفادةِ منَ القُرآنِ من غيرِ إسقاطِ معانٍ منَ الخارجِ عليه.
اترك تعليق