ما هيَ آثارُ العقيدةِ على حياةِ الفردِ سواءٌ التوحيدُ أو النبوّةُ أو المعادُ أو الإمامةُ أو العدلُ وما هيَ المصادرُ التي نستطيعُ الرّجوعَ إليها لغرضِ معرفتِها ؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:  دراسةُ العقائدِ الإسلاميّة تارةً تكونُ بقصدِ إثباتِها وإقامةِ البُرهانِ عليها، وتارةً تكونُ بهدفِ الكشفِ عن آثارِها وما يترتّبُ عليها في مُجملِ حياةِ الإنسانِ، وبالتأكيدِ هناكَ علاقةٌ وثيقةٌ بينَ سلوكِ الإنسانِ وبينَ البناءِ المعرفيّ والتصوّرِ العقائديّ الذي يحملهُ، فالسلوكُ ليسَ إلّا تجسيداً للثقافةِ التي يتبنّاها الإنسانُ، والثقافةُ بدورِها ليسَت إلّا تجسيداً للقيمِ التي يؤمنُ بها، والقيمُ هيَ نتاجٌ طبيعيٌّ للرؤيةِ المعرفيّةِ حولَ فلسفةِ الوجودِ والحياةِ وسرِّ وجودِ الإنسانِ فيها، فالإنسانُ قدمَ إلى الحياةِ منَ الغيبِ ومِن ثمَّ سيخرجُ منها إلى الغيبِ أيضاً، ولا يمكنُ أن تكونَ الحياةُ أمراً مفهوماً إلّا مِن خلالِ رؤيةٍ معرفيّةٍ تشكّلُ مُعتقداً للإنسانِ يبني على أساسِها موقفَه منَ الحياةِ، فعلاقةُ الغيبِ بالشهودِ والحياةِ بالمماتِ والدّنيا بالآخرةِ هي المسؤولةُ عن طبيعةِ القيمِ التي يحملها الإنسانُ، وهيَ بدورِها مسؤولةٌ عن نوعِ الوعي والثقافةِ التي بنى عليها الإنسانُ موقفَه العمليَّ في الحياةِ، ومِن هُنا يجبُ أن لا ننظرَ إلى العقائدِ الدينيّةِ بوصفِها مُجرّدَ مفاهيمَ يحتفظُ بها الذهنُ دونَ أن يكونَ لها انعكاسٌ على قيمِ الإنسانِ وثقافتِه وسلوكِه، ولذا ربطَ الإسلامُ بشكلٍ وثيقٍ بينَ الإيمانِ وبينَ العملِ الصالح، قالَ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَت لَهُم جَنَّاتُ الفِردَوسِ نُزُلًا)، وقالَ تعالى: (ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَلَم يَلبِسُوۤا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ أُولَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلأَمنُ وَهُم مُّهتَدُونَ)، وعليهِ فالعقيدةُ التي لا تؤدّي إلى العملِ الصّالحِ لا تمثّلُ إلّا تصوّراتٍ جوفاءَ، والعملُ الصّالحُ الذي يقعُ اتّفاقاً مِن دونِ مُعتقدٍ يحرّكهُ لا يُرجى منهُ ثمارٌ في عالمِ الآخرة.وما يُؤسفُ له أنَّ الواقعَ القيميَّ والثقافيَّ والسلوكيَّ للمُسلمينَ لا يشبهُ أبداً عقائدَهم التي يتبنونَها، ممّا يؤكّدُ على وجودِ فجوةٍ عميقةٍ بينَ ما يؤمنُ بهِ المُسلمُ وبينَ ما يفعلهُ، والأسبابُ التي ساعدَت في ذلكَ كثيرةٌ لا يمكنُ الوقوفُ عليها في هذا المقامِ، إلّا أنَّ الأمرَ الثابتَ بالعيانِ هوَ وجودُ مساحةٍ فاصلةٍ بينَ معارفِ الإسلامِ وعقائدِه وبينَ واقعِ المسلمينَ، ولا يمكنُ تقديمُ معالجاتٍ فاعلةٍ إلّا مِن خلالِ إعادةِ الوعي بتلكَ العقائدِ، ولا نقصدُ الوعيَ الذي يستحضرُ الأدلّةَ الإثباتيّةَ وإنّما الوعيُ الذي يستحضرُ المحتوى القيميَّ والثقافيّ لتلكَ العقائدِ، وقد عبّرَ القرآنُ عن هذا الوعي بالبصيرةِ، فالعقيدةُ ليسَت مُجرّدَ معرفةٍ للحقيقةِ وإنّما اتّخاذُ موقفٍ يقومُ على تلكَ الحقيقةِ، فالهدفُ منَ المعرفةِ ليسَ مُجرّدَ التعرّفِ على الأشياءِ، وإنّما هوَ تحديدُ مسؤوليّةِ الإنسانِ اتّجاهَها، وعليهِ يمكنُ أن يكونَ الشيءُ معروفاً للمؤمنِ والكافرِ إلّا أنَّ المؤمنَ هوَ الذي يمتلكُ فيهِ البصيرةَ دونَ الكافر، ويبدو أنَّ كلمةَ البصيرةِ في القرآنِ هيَ التي تؤكّدُ على الجانبِ العمليّ للعقيدة، ومِن خلالِها نفهمُ المقصودَ مِن قولِه تعالى (وَيَجعَل لَّكُم نُورًا تَمشُونَ بِهِ)، وقولِه تعالى: (وَجَعَلنَا لَهُ نُورًا يَمشِي بِهِ فِي النَّاسِ)، وقولِه: (أَفَمَن يَمشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجهِهِ أَهدَىٰ أَمَّن يَمشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّستَقِيمٍ)، وهذا لا يتحقّقُ بمُجرّدِ الاعتقادِ بوجودِ إلهٍ وإنّما بحضورِ هذا الاعتقادِ بشكلٍ ملموسٍ في حياةِ الإنسانِ، فالاعتقادُ باللهِ والتسليمُ له يعني التمرّدَ على كلِّ سلطةٍ أرضيّة، وبذلكَ يصبحُ الإنسانُ حُرّاً طليقاً لا تُقيّدُه شهوةٌ ولا يرهبُه طاغوتٌ، قالَ تعالى: (وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلَالَ الَّتِي كَانَت عَلَيهِم) فالإنسانُ في الحياةِ إمّا أن يكونَ فاعلاً فيها وإمّا أن يكونَ مُنفعِلاً بها، والاعتقادُ باللهِ وحدَه هوَ الذي يُحرّرُ الإنسانَ مِن أغلالِ الحياةِ وضغوطِها، والتوحيدُ ضمنَ هذا الفهمِ، هوَ التسليمُ المُطلقُ للهِ تعالى، بحيثُ لا يحقُّ للإنسانِ أن يخرجَ عن سيادةِ اللهِ طرفةَ عين، في فعلِه وسلوِكه وكلِّ شؤونِ حياتِه، ولا يكتملُ هذا الأمرُ إلّا بالاعتقادِ بالأنبياءِ والرّسلِ والأئمّةِ الذينَ يمثّلونَ السّلطةَ العمليّةَ لسُلطةِ اللهِ تعالى؛ وذلكَ لأنَّ التوحيدَ ومعرفةَ اللهِ ليسَت مسألةً نظريّةً ذهنيّة، بحيثُ يكتفي الإنسانُ بمُجرّدِ الاعتقادِ بكونِ اللهِ واحداً أحداً فرداً صمداً، فلا يكونُ الإنسانُ بهذا فحسب موحّداً، فلو اعتقدَ الإنسانُ بهذا الأمرِ اعتقاداً جازِماً واكتفى، لا يصيّرُه ذلكَ موحّداً، وإلّا جازَ أن يكونَ إبليسُ سيّدَ الموحّدين؛ لأنَّ إبليسَ كانَ وما زالَ يعتقدُ اعتقاداً جازماً لا يشكُّ فيهِ بأنَّ اللهَ واحدٌ أحدٌ، فردٌ صمدٌ، لا شريكَ لهُ في مُلكِه، وقد يكونُ علمُه بهذا الأمرِ أكثرَ يقيناً مِن علمِ الإنسانِ، لأنَّ علمَه باللهِ ارتقى إلى أن يُخاطبَه اللهُ ويخاطبَ الله، وهذا ما لم يكُن متأتيّاً للإنسانِ، وعليه فالتوحيدُ الذي يعتقدُ به الإنسانُ لا بدَّ أن يُخرجَه منَ المنظورِ العقليّ والنظريّ إلى التوحيدِ العملي، وذلكَ مِن خلالِ التسليمِ لأولياءِ اللهِ الذينَ يعبّرونَ عن إرادةِ اللهِ في خلقِه، قالَ تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ)، وقد وردَ في الأثر: دعا رسولُ الله صلى الله عليه وآله بطهورٍ فلما فرغ اخذ بيدِ علي فألزمها يدهُ ثم قال إنما أنتَ منذر ثمّ ضمّ يدهُ إلى صدرهِ قال و لكلّ قوم هاد ثمّ قال يا علي أنت أصلُ الدين ومنارُ الايمان وغاية الهدى وقائدُ الغرّ المحجلين اشهد لك بذلك. بصائر الدرجات - محمد بن الحسن الصفار - الصفحة ٥١ فالاعتقاداتُ الإسلاميّة ليسَت أفكاراً مُنفصلةً عن بعضِها البعضِ وإنّما هيَ في حالةٍ منَ الترابطِ والتكاملِ بحيثُ تؤدّي في النهايةِ إلى نتيجةٍ واحدة، فالاعتقادُ باللهِ وبرسالاتِه ورسلِه واليومِ الآخرِ كلّها تعزّزُ جانباً واحِداً في حياةِ الإنسانِ وهيَ الاستقامةُ على الصّراطِ المُستقيم، فاللحظةُ التي يخرجُ فيها الإنسانُ عن هذا المسارِ هيَ ذاتُها اللحظةُ التي يختلُّ فيها التوازنُ بينَ العقيدةِ وبينَ السّلوك. أمّا العدلُ فهوَ القيمةُ المُنعكسةُ عن الإيمانِ باللهِ تعالى، بحيثُ لا يستقيمُ الإيمانُ باللهِ من دوِن أن يكونَ العدلُ هوَ القيمةَ الحاكمةَ على كلِّ خياراتِ الإنسان، فالإيمانُ باللهِ وبما خلقَ يعني الاعترافَ بكلِّ حقٍّ في العالمِ ومِن ثمَّ الالتزامَ فطريّاً بهذهِ الحقوق، ومِن هُنا أصبحَ العدلُ قيمةً محوريّةً لا تستقيمُ الحياةُ من دونِه، وقد اعتبرَ القرآنُ الكريمُ العدلَ هدفَ كلِّ الرسالاتِ، حيثُ قالَ سبحانه: (لَقَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسطِ)، وقالَ عن العدالةِ حتّى معَ الأعداء: (يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاء بِالقِسطِ وَلاَ يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلَى أَلاَّ تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوَى)وفي المُحصّلةِ يجبُ على المسلمِ التدبّرُ في المُحتوى القيميّ والثقافيّ للعقائدِ التي يؤمنُ بها، ويربطَ كلَّ ذلكَ بواقعِه العمليّ والسلوكي، ومَن أرادَ أن يختبرَ مدى رسوخِ مُعتقدِه عليهِ أن ينظرَ إلى أعمالِه وخياراتِه في الحياة، فإن كانَت تُحقّقُ قولهُ تعالى: (قُل إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحيايَ وَمَماتِي للهِ رَبِّ العالَمِينَ) فهوَ على خيرٍ حتماً، أمّا إذا كانَ حالهُ حالَ من قالَ اللهُ عنه (أَتَأمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنسَونَ أَنفُسَكُم وَأَنتُم تَتلُونَ الكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعقِلُونَ) فهوَ حتماً غيرُ صادقٍ في اعتقادِه. أمّا المصادرُ التي تساعدُ على ذلكَ، فيبدو أنَّ الإشكاليّةَ في هذا الجانبِ ليسَت إشكاليّةً معرفيّةً فحسب، حتّى نبحثَ عن مصادرَ لتزوّدَنا بذلكَ، وإنّما الإشكاليّةُ الكُبرى هي إشكاليّةٌ نفسيّةٌ لها علاقةٌ بإرادةِ الإنسانِ وكيفَ يستطيعُ أن يجعلَ نفسَه على الهُدى، فالأثرُ الحقيقيُّ للعقائدِ هو تحقيقُ الهُدى للإنسان، وهذا الأمرُ يحتاجُ إلى إرادةٍ وصدقٍ واجتهادٍ ومحاولةِ الثباتِ على الصّراطِ المُستقيم، ومِن هُنا أهمُّ مصدرٍ يمكنُ الرجوعُ إليهِ وبشكلٍ دائمٍ هوَ القرآنُ الكريم وأحاديثُ المعصومينَ عليهم السّلام، فكلّما تدبّرَ الإنسانُ فيها كلّما ازدادَ بصيرةً في دينِه.  ومِن نعمِ اللهِ على الإنسانِ أنهُ لم يجعل عثراتِه في الصّراطِ خاتمةَ المطافِ وإنّما تكرّمَ عليهِ بالعفوِ والتوبةِ طالما كانَ الإنسانُ مُصرّاً على المُضيّ على هذا الصّراط.