قرأتُ أنَّ الزرادشتيّةَ قالَ مؤسّسُها: وهو الذي رفعَ السماءَ بلا عمد، وهذهِ الآيةُ تشبهُ آيةً في القرآنِ الكريم، فما هو تفسيرُ هذا التشابهِ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : الزرادشتيّةُ ديانةٌ فارسيّةٌ ثنويّة، تقومُ على فكرةِ الصّراعِ بينَ الخيرِ مُمثّلاً في إلهِ النورِ (أهورا مزدا) والشرِّ ممثّلاً في إلهِ الظلامِ والشيطانِ (أهرامن)، وتعودُ هذهِ الديانةُ إلى مؤسِّسها زرادشت في القرنِ السادسِ قبلَ الميلاد، ويسمّى كتابُهم المُقدّس (بالأبستاق) أو (الأفيستا) وهيَ كلمةٌ فارسيّة تعني الأصلَ أو المتن، وأوّلُ تاريخٍ يوثّقُ ظهورَ هذا الكتابِ هوَ القرن الثالثُ أو الخامسُ الميلادي، أي بعدَ نحوِ ألفِ عامٍ مِن ظهورِ الديانةِ، والثابتُ أنّه لم يبقَ منه ولا مِن شروحِه إلّا ما عثرَ عليهِ عالمُ الآثارِ الفرنسيّ دوبرن، أوائلَ القرنِ العشرين، وقامَ بنشرِه وترجمتِه، ويشتملُ على خمسةِ أسفارٍ لا تتعدّى في جُملتِها رُبعَ الأفستا الأصلي. وقد أصدرَت سلسلةُ عالمِ المعرفةِ الكويتيّة كتاباً مُترجماً لجفري بارندر، (المعتقداتُ الدينيّة لدى الشعوبِ) العدد 173، جاءَ في تعليقِ المُترجمِ الدكتور امام عبد الفتّاح في هامشِ ص 394: (فُقدَت جميعُ نُسخِ الأبتساق (الأفيستا) بعدَ غزوِ الإسكندرِ لفارس عامَ 330 قبلَ الميلاد، وفُقدَت معها تفاسيرُه والمؤلّفاتُ التي كانَت تشتملُ على شيءٍ مِن أجزائِه، ثمَ بدأ ملوكُ فارس في القرنِ الأوّلِ الميلادي في تدوينِ ما بقيَ مِن حوافظِ الناسِ منَ الأفيستا وأكملوا هذا العملَ في القرنِ الثالثِ ثمَّ القرنِ الخامس)، وهكذا يؤكّدُ مجموعةٌ منَ الباحثينَ على أنَّ كتابَ زرادشت الأفيستا لم يصِل منهُ إلّا شذرات. ويقولُ عالمُ الآثارِ والمؤرّخُ الإيراني، مُصطفى بوربيرار: (يوجدُ لدينا في إيران عددٌ منَ النقوشِ على الصخورِ مِن عهدِ الإخمينيّين والساسانيّين، فلا تتحدّثُ هذهِ النقوشُ عن أيّ ثقافةٍ أو حضارةٍ أو فكرٍ أو حتّى عن دين. لا يوجدُ في هذهِ النقوشُ أيّ كلامٍ عن زرادشت وكتابِه أفيستا، فلم تتحدّث هذه النقوشُ عن الشؤونِ الثقافيّة حيثُ كلّها ومِن دونِ استثناء إمّا تتحدّثُ عن قضايا شخصيّة، وإما قضايا عسكريّة… وعلى الذينَ يدّعونَ وجودَ زرادشت وكتابي أفيستا وزند، أن يقدّموا وثائقَ تاريخيّةٍ تثبتُ هذا الأمر. فهؤلاءِ الذينَ يدّعونَ وجودَ أديانٍ أو حكمةٍ في إيران القديمة أو أيّ شيءٍ ثقافيّ أو حضاريّ قبلَ نشوءِ الإسلام، لم يقدّموا أيّةَ وثيقةٍ، ولا أيّةَ نقوش، صخريّة، ولا حتّى مسكوكةٍ نقديّة، حيثُ مِن دونِ هذهِ الوثائق يتحوّلُ الكلامُ في هذا المجالِ إلى أساطير) (الفكرُ الإسلاميّ بينَ النظريّة والواقع، د عمادُ الدين الجبوري، ص 154) ويشيرُ بوربيرار أيضاً إلى أنَّ الحضارةَ الفارسيّة قد بلغَت ذروتَها تحتَ الحُكمِ الإسلاميّ وليسَ قبله. ومِن ذلكَ يمكنُنا التأكيدُ بأنّه لا وجودَ لمصدرٍ موثوقٍ للزرادشتيّة يمكنُ مقارنةُ ما فيه معَ الأديانِ السماويّة، حيثُ لم يبقَ مِن تعاليمِ زرادشت مِن كتابِ (أفسيتا) إلّا سبعَ عشرَ ترنيمةً تسمّى (الجاثات) ولو سلّمنا جدلاً بوجودِ نوعٍ منَ التشابه، فإنَّ ذلكَ يؤكّدُ تأثّرَ الأديانِ الوضعيّة بتعاليمِ السّماء، فللدّياناتِ الوضعيّة جذورٌ منَ الأديانِ السّماويّة بعدَ أن تمَّ تحريفُها، وقد أكّدَ القرآنُ على وقوعِ مثلِ هذه التحريفاتِ في رسالاتِ الأنبياء، ولذا احتفظَت هذه الأديانُ الوضعيّة ببعضِ المفاهيمِ أو بعضِ المُفرداتِ الأصليّة، كالآلهةِ والربِّ والأرباب، والشيطانِ والملاكِ والوحي، والسّماءِ والأرض، والليلِ والنهارِ والنورِ والظلام ، والكفرِ والإيمان، والخيرِ والشرّ، والحقِّ والباطل، والحلالِ والحرام، والهدايةِ والضّلال، والصّلاةِ والصّومِ والزكاة والحجّ … فكلُّ هذه المُفرداتِ وغيرُها موجودةٌ، لكنّها، بفعلِ التحريفِ، لم تبقَ في سياقاتِها الربانيّةِ التي نزلَت فيها، لذا منَ الطبيعيّ أن تتواجدَ في القرآنِ الكريم باعتبارِها منَ الآياتِ التي احتوَتها الكتبُ السماويّة، وعليهِ فإنَّ وجودَها في القرآنِ لا يعني أنَّ الرسولَ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) قامَ بنقلِها عن تلكَ الأديان.ولعلَّ السّائلَ يشيرُ إلى ما جاءَ في كتابِ الديانةِ المجوسيّة لأحمد الكايد الذي جاءَ فيه: (هذا ما أسألُك عنه فاصدقني الخبرَ يا أهورا مزدا: مَن ذا الذي رسمَ مسارَ الشموس ِوالنجوم؟ ومَن ذا الذي يجعلُ القمرَ يتزايدُ ويتضاءل؟ ... ومَن ذا الذي رفعَ الأرضَ والسّماءَ مِن تحتِها وأمسكَ السّماءَ أن تقع؟ مَن ذا الذي حفظَ المياهَ والنباتات؟ ومَن ذا الذي سخّرَ للرياحِ والسحبِ سُرعتها؟ ومَن ذا الذي أخرجَ العقلَ الخيّرَ يا أهورا مزدا؟) وإذا سلّمنا بوجودِ مثلِ هذهِ العباراتِ فإنّها لا تدلُّ على أكثر مِن كونِها أسئلةً حاولَ الإنسانُ الإجابةَ عليها منذُ أن بدأ التفكير الفلسفي، فهيَ قديمةٌ بقدمِ الإنسان، ورسالاتُ اللهِ والقرآنُ الكريم قد أجابَ عن مثلِ هذه الأسئلةِ بتثبيتِه لعقيدةِ التوحيدِ معَ تنزيهِ اللهِ مِن مُشابهةِ خلقِه بأيّ صفةٍ منَ الصّفات، وعليهِ القرآنُ هو الكتابُ الإلهيُّ الكاملُ الذي يعدُّ مصدراً لمعرفةِ كلِّ الحقائقِ الدينيّة، وهو الكتابُ الذي لا يأتيهِ الباطلُ مِن بينِ يديه ولا مِن خلفه، وما على المُسلم ِأن يعتزَّ بكتابِه دونَ الالتفاتِ إلى تشكيكاتِ المُشكّكين.
اترك تعليق