ما هو قوس النزول وقوس الصعود ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : قوسُ النزولِ وقوسُ الصعودِ مُصطلحٌ له علاقةٌ بتفسيرِ المبدأ والمعاد، فقوسُ النزولِ يُمثّلُ المبدأ بينَما قوسُ الصعودِ يُمثّلُ المعاد، وقد يقاربُ العرفاءُ والمتصوّفةُ هذا المُصطلحَ بشكلٍ مُختلفٍ عن مُقاربةِ الفلاسفة، إلّا أنَّ المبدأ الأساسيَّ لهذا الاصطلاحِ هوَ القولُ بوحدةِ الوجودِ، وقد تمَّ تفسيرُ وحدةِ الوجودِ ضمنَ سياقاتٍ فلسفيّةٍ مُختلفة، ممّا أوجدَ بعضَ التبايناتِ حولَ تفسيرِ وحدةِ الوجودِ نفسِها، ومعَ ذلكَ تشتركُ جميعُها على رفضِ الثنائيّةِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ، أي ليسَ هناكَ وجودٌ للهِ مُباينٌ لوجودِ المُمكن، وإنّما هوَ وجودٌ واحدٌ يتجلّى في الواجبِ وفي المُمكن، فمثلاً صدرُ الدينِ الشيرازي يعتقدُ بأنَّ اللهَ بسيطُ الوجودِ وبالتالي هوَ كلُّ الأشياءِ، وفي نفسِ الوقتِ ليسَ شيئاً مِن هذهِ الاشياء، وذلكَ لأنَّ الوجودَ عندَه مقولةٌ مُشكّكةٌ لا تتمايزُ إلّا في درجاتِها الوجوديّة، فالجامعُ بينَ جميعِ الموجوداتِ هوَ الوجودُ والذي يُميّزُ بينَها هوَ الوجودُ نفسُه، فالأصيلُ هوَ الوجودُ الذي هوَ حقيقةٌ واحدةٌ بينَ الواجبِ والمُمكن وما دونَ الوجودِ هوَ عدمٌ محض، فعمليّةُ الخلقِ ضمنَ هذهِ النظريّةِ ليسَت إلّا طوراً مِن أطوارِ الواجبِ وشأناً مِن شؤونِه، وعليهِ فإنَّ وحدةَ الوجودِ تقومُ على نفي الكثرةِ وتُرجعُ الوجودَ كلّه إلى حقيقةٍ واحدةٍ وهيَ الوجود، وما نراهُ مِن تبايناتٍ بينَ الموجوداتِ يعودُ إلى الماهيّة، والماهيّةُ عندَهم أمرٌ عدميٌّ ليسَت وجوداً ولم تشمَّ رائحةَ الوجودِ بحسبِ تعبيرِ ملّا صدرا، وهكذا حاولَت النظريّةُ أن تنفي الكثرةَ بنفيها للماهيّاتِ كما حاولَت أن تُنزّهَ اللهَ مِن أن يكونَ واحداً منَ الأشياء، عندَما قالت: أنَّ بسيطَ الوجودِ هوَ كلُّ الأشياءِ وليسَ شيئاً مِنها، وقد عملَ ملّا صدرا على إيجادِ أرضيّةٍ مُشتركةٍ بينَ الفلسفةِ والعرفان، حيثُ قدّمَ مُكاشفاتِ المتصوّفةِ ضمنَ قالبٍ فلسفيٍّ استدلالي، وقد أقامَ تنظيرُه الفلسفيُّ على التفريقِ بينَ الوجودِ والماهيّة، ومِن ثمَّ جعلَ الوجودَ هوَ الأصيلَ والماهيّةَ أمراً اعتبارياً، وبذلكَ يصبحُ الوجودُ حقيقةً واحدةً مُمتدّةً في هياكلِ الماهيّات، وتصبحُ الكثرةُ المنظورةُ في الموجوداتِ كثرةً غيرَ حقيقيّةٍ لكونِها راجعةً لأمرٍ اعتباريٍّ وهوَ الماهيّة، وفي المُحصّلةِ يكونُ الوجودُ واحداً حتّى لو كانَ مُتكثّراً للناظرِ، وقد عبّروا عن ذلكَ بالقول: الوحدةُ في عينِ الكثرةِ والكثرةُ في عينِ الوحدة. فالعرفانُ ضمنَ وحدةِ الوجودِ يتصوّرُ مِن خلالِ رياضاتٍ روحيّةٍ تنقلُ الإنسانَ وجوديّاً مِن مراتبِ الوجودِ الدّنيا إلى رحابِ الوجودِ المُطلق، أي أنَّ العارفَ يتدرّجُ في درجاتِ الوجودِ حتّى يصلَ إلى درجةِ الوحدةِ الحقيقيّةِ والفناءِ في اللهِ تعالى، وقد عبّرَ عن تلكَ الحركةِ التكامليّةِ بقوسِ الصعود، حيثُ يعودُ العارفُ ضمنَ مراحلح ودرجاتِ العرفانِ إلى مصدرِ الوجودِ، والعرفانُ في هذهِ المرحلةِ يعدُّ خياراً عمليّاً وسلوكيّاً، أي أنَّ العارفَ وضمنَ رياضاتٍ روحيّةٍ وعبرَ وسيطٍ روحيّ يجتازُ هذهِ المراحلَ ليعودَ إلى مصدرِ الوجود، أمّا مرحلةُ الخلقِ والإيجادِ فيعبّرُ عنها بقوسِ النزولِ حيثُ فيه يتنزّلُ الخالقُ أو يتجلّى في خلقِه، وقد بيّنّا في إجابةٍ سابقةٍ بأنَّ نظامَ الوجودِ في التصوّرِ العرفانيّ يشبهُ الدائرةَ التي تنقسمُ إلى نصفين، يمثّلُ النصفُ الأوّلُ قوسَ النزولِ والنصفُ الثاني قوسَ الصعود، والعرفانُ في مرحلةِ قوسِ النزولِ يُعدُّ بحثاً أنطولوجيّاً أقربَ إلى الفلسفةِ النظريّة، أمّا قوسُ الصعودِ فهوَ مِن اختصاصاتِ العرفانِ العمليّ والسلوكي. وفي المُحصّلةِ لا يستقيمُ أيُّ معنىً لقوسِ النزولِ وقوسِ الصعودِ إلّا بالقولِ بوحدةِ الوجودِ ونفي أيّ نوعٍ مِن أنواعِ الاثنينيّةِ في الوجود، وهذا ما جعلَ الفقهاءَ والمُحدّثينَ يتحفّظونَ كثيراً على العرفانِ وعلى القولِ بوحدةِ الوجود.
اترك تعليق