حدودِ مقبرةِ وادي السلام

هل يمكنُ تحديدُ حدودِ مقبرةِ وادي السلام التي تمتازُ حسبَ الرواياتِ أنّها تُنجي مِن عذابِ القبر .

: سيد صلاح الحلو

الجوابُ:

لا ريبَ أنَّ اللهَ تعالى خلقَ بعضَ الأشياءِ أشرفَ مِن بعض، زماناً وذواتاً ومكاناً، فليسَت ليالي القدرِ كباقي الليالي، ولا الحجرُ الأسود كسائرِ الأحجار، وأنتَ لو جئتَ إلى قطعةٍ منَ الأرضِ وقسّمتَها قِسمين وأوقفتَ القسمَ الأوّلَ مَسجداً وتركتَ الثاني فلا شكَّ أنَّ القسمَ الأوّلَ أشرفُ القِسمين معَ أنَّ ترابَهُما واحدٌ، ورملُهما واحد.

وكذلكَ شرَّفَ اللهُ تعالى بعضَ الأمكنةِ على سائرِ الأماكنِ فليسَت مكَّةُ كالرّياضِ، ولا كربلاءُ كالقاهرة، وإذا عرفتَ أنَّ كربلاء تواضعَت – كما في الأحاديث – فشرَّفَها اللهُ تعالى بجسدِ السّبطِ الشهيد – عليهِ السَّلام – وأنَّ أميرَ المؤمنين -عليهِ السلام – دعا اللهَ أن يجعلَ قبرَهُ في النَّجفِ ففي الروايةِ "لمّا نظرَ إلى ظهرِ الكوفةِ قال :

(ما أحسنَ منظرَكِ ، وأطيبَ قعرَكِ ، اللهمَّ اجعَلهُ قبري) عرفتَ ما لهاتينِ البُقعتينِ مِن جلالةٍ وشرف.

وكانَ أهلُ الحيرةِ يدفنونَ موتاهُم في "بانيقيا" وهيَ على ما يظهرُ نجفُ الحِيرة، وقد اشتراها نبيُّ اللهِ إبراهيم – عليهِ السلام – بمائةِ نعجةٍ كما في بعضِ الرّوايات، وهيَ في لغتِه "بانيقيا" وكانَ أهلُ الكوفةِ يدفنونَ موتاهم في "الظَهر" وهوَ نجفُ الكوفةِ وخصوصاً الثويَّة ، وهيَ اليوم الحنَّانةُ وما جاورَها, ويبدو أنَّ مقبرةَ وادي السَّلام التاريخيَّة كانَت تبدأ مِنها كما يرى الشيخُ الكورانيّ في كتابِه "قبيلةُ النخع 1/77" ،ولم يبقَ مِن هذهِ المقبرةِ اليوم غيرَ قبرِ كُميلٍ بنِ زياد – رحمَه الله – وكانَت قديماً مُزدانةً بقبورِ الصّحابة، مُزيَّنةً بمراقدِ الصّالحينَ وكذلكَ غيرُهم حتّى أحصى الدكتور صلاح الفرطوسيّ جمعاً ممَّن دُفنَ فيها مِن هؤلاءِ وهؤلاءِ وغيرِهم يربو على السبعمائة والثمانينَ عدداً في كتابِه "الثويةُ بقيع الكوفة" وهذهِ المدافنُ كرَّت عليها الأيّامُ والليالي فأفنَتها مِن بعدُ كما أفنَت أصحابَها مِن قبلُ فلم تُبقِ لها مِن باقيةٍ خلا قبرَ كُميل كما تقدَّمَ القول.

ويُحدّدُ الدكتورُ الأستاذُ صلاح الفرطوسيّ المقبرةَ بقولِه: (سببُ اتّخاذِ بقعةٍ مِنه ما بينَ كري سعدة الذي مثَّلَ الحدودَ الإداريَّةَ للكوفةِ الحديثةِ مِن جهتِها الغربيَّة، وساحةِ ثورةِ العشرين بالنَّجفِ الأشرف مِن جهتِها الشرقيَّة مَدفَناً خلالَ القرونِ الثلاثةِ منَ الهجرةِ النبويَّةِ المُباركة؛ لأنَّ الأرضَ كلَّما قرُبَت مِن نهرِ الفُرات استحالَ الدفنُ بها لكثرةِ مياهِها الجوفيَّة التي لا تسمحُ بالحفرِ أكثرَ مِن مترٍ واحد) أنظُر " الثويّةُ بقيعُ الكوفة 1/43"

وكري سعدى هو حدُّ الكوفةِ وكانَ خندقاً بناهُ كِسرى حِفظاً لأهلِه مِن غاراتِ الأعراب، ثمَّ لمّا اندرسَ جدَّدَ بناءَه منصورُ الدَّوانيقي انظُر "اليتيمةُ الغرويّةُ والتحفةُ النَّجفيّة للسيّدِ حُسين البراقي105"

وقد بدأ الدفنُ بها سنةَ 37 للهجرة، حتّى إذا جاءَ القرنُ الخامسُ اختفَت آثارُ تلكَ القبور جميعاً لأنَّ الدفنَ في القرنِ الأوّلِ الهِجريّ لم يعرِف بناءَ الشواهدِ أو القبابِ على قبورِ الموتى، ومعَ دخولِ القرنِ الثالثِ بدأ الدفنُ يتحوَّلُ مِنها شيئاً فشيئاً إلى جوارِ أميرِ المؤمنينَ – عليهِ السَّلام – في الصّحنِ الشريف، ثمَّ لمَّا اتّخمَ الصّحنُ بالأجسادِ صارَ الدَّفنُ مُحيطَ الصّحن، ثمَّ إلى جوارِ الصّحنِ شيئاً فشيئاً حتّى وصلَ الدَّفنُ إلى وادي السَّلام ليكونَ الميّتُ بينَ حِمى أميرِ المؤمنينَ حامي الجار، وبينَ حامي الشريعةِ السّبطِ الشهيدِ – عليهما السَّلام -

"انظُر المصدرَ السّابق نفسَه1/45"

ويحدُّها اليومَ منَ الجنوبِ مرقدُ الإمامِ عليّ -عليهِ السلام - والشارعُ المعروفُ بشارعِ عليٍّ بنِ أبي طالب، ويحدُّها منَ الجانبِ الشرقيّ طريقُ النجفِ المُمتدُّ باتّجاهِ كربلاء، ومنَ الشمالِ حيُّ المُهندسين، فيما تنتهي في الجانبِ الغربيّ بـبحرِ النجفِ القديم.

وأوّلُ مَن دُفِنَ فيها منَ الأنبياءِ آدمُ – عليهِ السلام – فعَن كاملِ الزيارة " أنَّ نوحاً -عليهِ السلام - نزلَ في الماءِ إلى رُكبتيه بعدَ أن طافَ بالبيت ، واستخرجَ تابوتاً فيهِ عظامُ آدمَ -عليهِ السلام - وحملَها حتّى دفنَها بعدَ أن بلعَت الأرضُ الماءَ في أرضِ الغري "

ومنَ الصّحابةِ الصحابيُّ الجليل خبّابُ بنُ الأرَت فقد أوصى أن يُدفنَ فيها لِما سمعَهُ منَ النبيّ ( صلّى اللهُ عليهِ وآله ) في فضلِها ، وقد توفّيَ في حياةِ أميرِ المؤمنينَ ( عليهِ السلام ) ودُفنَ فيها كما أوصى.

هذا منَ الناحيةِ التاريخيَّة.

وأمّا منَ الناحيةِ الروائيَّةِ فقد أثبتَت الرواياتُ لها بُعدين: مادّي: أنّه ظهرُ الكوفةِ، كما في الحديثِ الثاني مِن باب: في أرواحِ المؤمنين، عن أحمدَ بنِ عُمر رفعَه، عن أبي عبدِ الله (عليهِ السلام) قالَ: قلتُ له: إنَّ أخي ببغداد وأخافُ أن يموتَ بها فقالَ: ما تُبالي حيثُما ماتَ أما إنّه لا يبقى مؤمنٌ شرقَ الأرضِ وغربَها إلّا حشرَ اللهُ روحَهُ إلى وادي السلام قلتُ له: وأينَ وادي السلام؟ قالَ: ظهرُ الكوفة، أما إنّي كأنّي بهم حلقٌ حلقٌ قعود يتحدّثون.

ومعنويٌّ: أنّها بُقعةٌ مِن جنَّةِ عدن ، ففي الكافي الشريف، بابُ: في أرواحِ المؤمنين الحديثُ رقم "1" عن حَبَّةَ العُرَنِيِّ قالَ: خرجتُ معَ أَميرِ المؤمنين (ع) إلى الظَّهرِ فوقفَ بوادي السَّلام ....

فقالَ عليهِ السّلام: ما مِن مؤمنٍ يمُوتُ في بُقعَةٍ من بقاعِ الأَرضِ إِلَّا قيلَ لرُوحِهِ الحَقِي بوادي السَّلامِ، وإِنَّها لَبُقعَةٌ من جَنَّةِ عَدن.