هل اللهُ محتاجٌ إلى الملائكة؟

يجيبُ المُسلمونَ بعدّةِ إجاباتٍ عن هذا #السؤال: 1- خلقَهم لكي يعبدوهُ ليلاً ونهاراً كما وردَت الآياتُ في القرآنِ (يُسَبِّحُونَ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفتُرُونَ) اللهُ خلقَ الملائكةَ للعبادةِ لكن لماذا؟ هل يُعاني اللهُ مِن داءِ العظمة؟! أم يشعرُ أنَّ فيهِ نقصاً لذا يخلقُ الملايينَ منَ الملائكةِ فقط لتعبدَه وتقدّسَه؟ 2- القيامُ بتنفيذِ أوامرِ الله، فبعضُهم مُكلّفٌ بتبليغِ الوحي، والبعضُ مسؤولٌ عن الأرزاقِ والبعضُ منهم خزنةُ الجنّةِ وآخرونَ خزنةُ النار ومنهم مَن يحرسُ بني آدمَ ويسجّلُ أعمالَه ومنهُم مَن يقبضُ أرواحَ الناسِ ومِنهم مَن يحاسبُ البشرَ في القبر ... إلخ لكن ألا يبدو هذا التفسيرُ لسببِ خلقِ اللهِ للملائكةِ وكأنّه فيهِ انتقاصٌ مِن قُدرةِ اللهِ المُطلقة؟ مثلاً رئيسُ الدولةِ لا يمكنُه إدارةُ كلِّ شؤونِ الدولةِ وحدَه لذا يحتاجُ إلى وزراءَ ومُساعدينَ كُثر، فهل هذا يعني أنَّ اللهَ أيضاً عاجزٌ عن إدارةِ كلِّ الأمورِ بنفسِه لذا وضعَ لنفسِه خدماً مُطيعينَ لتنفيذِ أوامره؟! وإذا كانَ يستطيعُ أن يُنفّذَ كلَّ شيءٍ لوحدِه من دونِ الحاجةِ للملائكةِ إذن لماذا خلقَهم؟!

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجوابُ:

تبتني هذهِ الأسئلةُ على تصوّرٍ مشوّهٍ لمعنى العبادةِ والقُدرة، حيثُ تصوّرَ السائلُ العبادةَ وكأنّها حاجةُ المعبودِ إلى العابد، وتصوّرَ قدرةَ اللهِ وكأنّها تتنافى معَ وجودِ ملائكةٍ يقومونَ بأمرِه، ومِن هُنا تنحصرُ الإجابةُ عن هذه الإشكالاتِ في مُعالجةِ الفهمِ الخاطئ لمعنى العبادةِ والقُدرة.

أوّلاً: مفهومُ العبادةِ لا يتضمّنُ معنىً سلبيّاً لا مِن جهةِ العبدِ ولا مِن جهةِ المعبود، فاللهُ تعالى غنيٌّ بذاتِه لذاتِه لا يحتاجُ لشيءٍ مِن خلقِه، قالَ تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ)، وقالَ: (وَمَن يَبخَل فَإِنَّما يَبخَلُ عَن نَفسِهِ وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الفُقَراءُ).

فمِن جهةِ المعبودِ لا يمكنُ أن ينتفعَ مِن عبادةِ العبد، بل العبدُ هوَ الذي ينتفعُ مِن عبادتِه، وبذلكَ تسقطُ كلُّ المعاني السلبيّة التي يمكنُ تصوّرُها في مفهومِ العبادةِ فيما يتعلّقُ بالمعبود، وفي المقابلِ يصبحُ مفهومُ العبادةِ أيضاً إضافةً إيجابيّةً فيما يتعلّقُ بالعبد، وذلكَ لأنَّ العبادةَ لا تكونُ عطاءً منَ الإنسانِ بقدرِ ما هيَ عطاءٌ للإنسان؛ لأنَّ معناها حقيقةً ليسَ سلبَ شيءٍ منَ الإنسانِ وإنّما تحقيق قيمةٍ له، ففي روايةٍ أنَّ رجلاً سألَ الإمامَ الصّادق (عليهِ السلام) قالَ: لمَ خلقَ اللهُ الخلق؟ فقالَ: (إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى لم يخلِق خلقَه عبثاً، ولم يترُكهم سدىً، بل خلقَهم لإظهارِ قُدرتهِ، وليكلّفَهم طاعتَه، فيستوجبوا بذلكَ رضوانَه، وما خلقَهم ليجلبَ مِنهم منفعةً ولا ليدفعَ بهم مضرّةً، بل خلقَهم لينفعَهم ويوصلَهم إلى نعيمِ الأبد)، وقد شرَحنا هذا الأمرَ بشكلٍ أكثرَ تفصيلاً في إجابةٍ سابقةٍ تناولَت مفهومَ العبادة.

يمكنُ أن يثيرَ هذا الحديثُ بعضَ الشبهاتِ بشأنِ قابليّةِ الملائكةِ للعبادة، إذ أنّها مخلوقاتٌ غيرُ مُجهّزةٍ بالاختيارِ كما هوَ الحالُ في الإنسان، وهُنا يجبُ علينا أن نُفرّقَ بينَ العبادةِ بالمعنى التشريعيّ والعبادةِ بالمعنى التكوينيّ، فالعبادةُ بالمعنى التكوينيّ هيَ الأساسُ الذي تُبتنى عليه العبادةُ بالمعنى التشريعيّ؛ فكونُ الإنسانِ عبداً باختيارِه، يعني بالضرورةِ كونَه عبداً في كيانِه، فلا يكونُ التكليفُ بالعبادةِ حالةً عرضيّة لم ترتكِز على الطبيعةِ الإنسانيّة، وإنّما القولُ بأنَّ الإنسانَ بذاتِه عبدٌ، هوَ تعبيرٌ آخرُ عن القولِ أنَّ الإنسانَ كائنٌ مخلوق.

وبعبارةٍ أخرى، إذا تحقّقَ الخلقُ، لا يحتاجُ الأمرُ إلى مرحلةٍ ثانيةٍ تتحقّقُ فيها العبوديّةُ التكوينيّة، فالمخلوقُ مُعلّقٌ دوماً بخالقِه، والموجودُ محتاجٌ إلى مُوجدِه، بحيثُ يكونُ مُضطرّاً في بقائِه إليه، وتلكَ العُلقةُ الاضطراريّةُ هيَ نفسُها العبوديّة، فسجودُ العبدِ للهِ باختيارِه ليسَ إلّا تعبيراً عن سجودِه للهِ في كيانِه، وهذا الانسجامُ بينَ العبادةِ في التشريعِ والعبادةِ في التكوين، هوَ السّببُ الذي يجعلُ الإنسانَ في تكاملِه مُنسجِماً معَ كلِّ الوجود، فإذا كانَ الإنسانُ في واقعِ كيانِه عبداً لله، تكونُ الحُرّيّةُ حينئذٍ موهبةً ومنّةً إلهيّة، تطوَّلَ اللهُ بها على العباد.

والحُرّيّةُ بهذا الفهمِ لا يمكنُ أن تكونَ تأسيساً لخياراتٍ تبتعدُ عن حقيقةِ العبوديّة؛ فالحدُّ المُشترك، الذي يجمعُ بينَ كيانِ الإنسانِ المُضطرِّ في عبادتِه لله وبينَ الحُرّيّةِ، هيَ المسؤولّية، والمسؤوليّةُ تعني أن تتحرّكَ الحُرّيّةُ فيما ينسجمُ مع الطبيعةِ التكوينيّةِ للإنسان؛ لأنَّ الحُرّيّةَ ليسَت مُطلقَ الترجيحِ بينَ الخيارات، وإنّما الحُرّيّةُ هيَ ترجيحُ الأصلحِ الذي ينسجمُ معَ طبيعةِ الإنسانِ العابدِ بكيانِه لله، وإلّا تكونُ الحُرّيّةُ عقبةً حقيقيّةً في مسيرةِ الإنسانِ التكامليّة؛ لأنَّ بإمكانِ الإنسانِ أن يختارَ بحُرّيّتِه السيرَ عكسَ اتّجاهِ السّننِ الكونيّة.

وإذا اتّضحَ ذلكَ يتّضحُ معنى كونِ الملائكةِ عابدةً للهِ تعالى، فالقولُ إنَّ الملائكةَ مخلوقةٌ هوَ ذاتُه القولُ إنَّ الملائكةَ عابدةٌ للهِ تعالى، فكلُّ مخلوقٍ بما فيه الجماداتُ عابدٌ للهِ بالضّرورة، قالَ تعالى: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ)، وعليهِ لا يمكنُ التفريقُ بينَ عبادةِ الملائكةِ وبينَ كونِها مخلوقةً للهِ تعالى، ومِن هُنا لا تكونُ العبادةُ هيَ الغايةُ مِن خلقِ الملائكةِ كما هوَ الحالُ في الإنسانِ وإنّما هناكَ غايةٌ أخرى.

ثانياً: فيما يتعلّقُ بالقُدرةِ وتعارضِها معَ خلقِ الملائكةِ فقد أجَبنا سابقاً عن هذا السؤال، وأثبَتنا عدمَ وجودِ أيّ تعارضٍ بينَ القُدرةِ والهيمنةِ الإلهيّةِ وبينَ نظامِ الوجودِ القائمِ على الأسبابِ والمُسبّباتِ، ولذلكَ سنختصرُ في الإجابةِ هنا.

لابدَّ منَ التأكيدِ على أنَّ وجودَ المخلوقِ دليلٌ على قدرةِ اللهِ تعالى، كذلكَ حاجةُ المخلوقِ للخالقِ وتعلّقُه به واضطرارُه إليه دليلٌ آخرُ على قُدرتِه، وبمعنىً آخر ليسَ الخالقُ علّةً للوجودِ فقط وإنّما علّةٌ للإبقاءِ أيضاً، فلا يكفي أن تكونَ الملائكةُ بحاجةٍ لمَن يخرجُها مِن طورِ العدمِ إلى طورِ الوجود، وإنّما هيَ أيضاً في حاجةٍ إليه لتستمرَّ في هذا الوجود، وعليهِ لا شيءَ مِن مخلوقاتِ الله خارجٌ عن قُدرتِه وسلطانِه، وإذا نظَرنا لشأنِ الملائكةِ ضمنَ هذا المعنى لوجَدنا أنَّ وجودَها لا يتعارضُ معَ قُدرةِ اللهِ فحسب؛ بل هوَ دليلٌ على قدرةِ اللهِ وهيمنتِه.

وإذا ثبتَ ذلكَ يتّضحُ عدمُ التعارضِ بينَ اتّصافِ اللهِ بالقُدرةِ والهيمنةِ وبينَ خلقِه للملائكة، بل خلقُ الملائكةِ يصبحُ دليلاً على أنّه قادرٌ ومهيمنٌ، فلا شيءَ منَ الخلقِ قادرٌ على الخروجِ عن قُدرةِ اللهِ وسلطانِه، وبالتالي لا يصحُّ السؤالُ عن سببِ خلقِ الملائكةِ بقيدِ القُدرةِ والهيمنة. 

أمّا لماذا أوكلَ اللهُ تدبيرَ الكونِ للملائكةِ ولم يدبّرها بنفسِه معَ قُدرتِه على ذلك؟ فمنَ الواضحِ أنَّ هذا السؤالَ ينطلقُ مِن ذاتِ الفهمِ الخاطئِ للقُدرة، فالقدرةُ ضمنَ هذا التصوّرِ الخاطئِ تعني إلقاءَ نظامِ الأسبابِ والمُسبّباتِ وهذا نفيٌ لكلِّ الموجوداتِ وليسَ نفياً لوجودِ الملائكةِ وحدِها، فاللهُ خلقَ الكونَ وهوَ محكومٌ بقانونِ السّببِ والمُسبّب، وكونُ اللهِ قادراً ومُهيمناً يعني أنَّ جميعَ تلكَ الأسبابِ والمُسبّباتِ بيدِه وقبضتِه، والملائكةُ بدورِها تقعُ في طولِ خطِّ الأسبابِ والمُسبّبات، ومجرّدُ الحديثِ عن إلقاءِ هذا النظامِ هوَ حديثٌ عن إعدامِ الكونِ وافتراضِ كونٍ آخر، أي لا يمكنُ المحافظةُ على الكونِ وفي نفسِ الوقتِ نُلغي نظامَ الأسبابِ والمُسبّبات، وعليهِ فإنَّ الخلطَ في السؤالِ نابعٌ منَ التلاعبِ بطبيعةِ الشيءِ الذي تتعلّقُ به القُدرة، فاللهُ سبحانَه قادرٌ ولا يتّصفُ بالعجزِ ولكنَّ القصورَ في المَقدور، فالقدرةُ لا تتعلّقُ بالمُستحيلاتِ وإنّما تتعلّقُ بالمُمكناتِ، والمستحيلُ هُنا هوَ أن تنتفي الأسبابُ منَ الكونِ ويبقى ذاتُ الكونِ كما هو.

وفي المُحصّلةِ إنَّ اللهَ قادرٌ ودليلُ قُدرتِه تحكّمُه في نظامِ الأسبابِ والمُسبّباتِ بما فيها الملائكةُ، ولا تكونُ القُدرةُ بمعنى أن تحلَّ محلَّ الأسبابِ والمُسبّبات؛ لأنَّ ذلكَ ليسَ إثباتاً للقُدرةِ وإنّما هوَ نفيٌ للكونِ والوجودِ الذي هو محلٌّ لقدرةِ اللهِ تعالى.

أمّا ما هيَ وظيفةُ الملائكةِ ضمنَ هذا النظامِ الكوني؟ فقد تكفّلَت عشراتُ الآياتِ ببيانِ الأدوارِ التي أوكلَها اللهُ لملائكتِه.

 فمِنها: الاستغفارُ لأهلِ الأرض، قالَ تعالى: (وَالمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمدِ رَبِّهِم وَيَستَغفِرُونَ لِمَن فِي الأَرضِ)

ومِنها: أنَّ اللهَ جعلَ بعضَ ملائكتِه رُسلاً لهُ تعالى، قالَ تعالى: (اللَّهُ يَصطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ)، وقالَ: (يُنَزِّلُ المَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِن أَمرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ أَن أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ)

ومِنها: أنَّ اللهَ يجعلُ ملائكتَه عوناً للمؤمنينَ المُجاهدينَ في سبيلِه، قالَ تعالى: (إِذ تَقُولُ لِلمُؤمِنِينَ أَلَن يَكفِيَكُم أَن يُمِدَّكُم رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ المَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ)

ومِنها: أنَّ اللهَ كلّفَ بعضَ ملائكتِه بتسجيلِ أعمالِ المُكلّفين، قالَ تعالى: (وَإِنَّ عَلَيكُم لَحَافِظِينَ ، كِرَامًا كَاتِبِينَ)، وقالَ: (لكِنِ اللَّهُ يَشهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيكَ أَنزَلَهُ بِعِلمِهِ وَالمَلَائِكَةُ يَشهَدُونَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا)

ومِنها: أنَّ اللهَ كلّفَها بقبضِ الأرواحِ حينَ يحينُ أجلُها، قالَ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِم قَالُوا فِيمَ كُنتُم قَالُوا كُنَّا مُستَضعَفِينَ فِي الأَرضِ)، وغيرُ ذلكَ منَ الآياتِ التي تُبيّنُ أدوارَ الملائكةِ ووظيفتَها التي خلقَها اللهُ مِن أجلِها.