من هو الذي في السماء؟
سؤال: قال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ..}، مَن هو الذي في السماء؟
الجواب:
يجب الإشارة إلى أنّه لا يمكن تفسير الآية بما ذهب إليه المجسّمة والمشبّهة، وهو الاعتقاد بأنّ السماء مكان لله تعالى؛ وذلك لأنّ الجهة والمكان والحيّز كلّها من صفات المخلوق التي لا تليق بالله تعالى، ولذا رفض جمهور العلماء من أهل السنة ما ذهبت إليه الحشويّة والمجسّمة من تحديد الله بالجهة والمكان.
يقول الحافظ النووي في شرحه على صحيح مسلم [5 / 676]: (قال القاضي عياض المالكيّ: لا خِلافَ بين المسلمين قاطبةً - فقيههم ومحدّثهم ومتكلمهم ونظّارهم ومقلدهم - أنّ الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله تعالى : {أأمنتم من في السماء} ونحوه ليست على ظاهرها، بل متأوّلة عند جميعهم).
ومن هذا الباب نجد الكثير من المفسّرين عملوا على فهم هذه الآية بعيداً عن طريقة المجسّمة والحشويّة، وإليك بعضهم:
قال القرطبيّ: (قوله تعالى: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور}، قال ابن عباس: أأمنتم عذاب مَن في السماء إنْ عصيتموه. وقيل: تقديره أأمنتم من في السماء قدرته وسلطانه وعرشه ومملكته. وخصّ السماء وإنْ عمّ ملكه تنبيهاً على أنّ الإله الذي تنفذ قدرته في السماء لا مَن يعظّمونه في الأرض. وقيل: هو إشارة إلى الملائكة. وقيل: إلى جبريل وهو الملك الموكّل بالعذاب. قلت: ويحتمل أن يكون المعنى: أأمنتم خالق مَن في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون) [تفسير القرطبيّ ج15ص231].
وقال الفخر الرازيّ: (واعلم أنّ المشبّهة احتجّوا على إثبات المكان لله تعالى بقوله: {ءامِنتم مَّن فِى السماء}، والجواب عنه: أنّ هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتّفاق المسلمين؛ لأنّ كونه في السماء يقتضي كون السماء محيطاً به من جميع الجوانب، فيكون أصغر من السماء، والسماء أصغر من العرش بكثير، فيلزم أن يكون الله تعالى شيئاً حقيراً بالنسبة إلى العرش، وذلك - باتّفاق أهل الإسلام – محال. ولأنّه تعالى قال: {قُل لّمَن مَّا فِي السماوات والأرض قُل لِلَّهِ}، فلو كان الله في السماء لوجب أن يكون مالكاً لنفسه، وهذا محال، فعلمنا أنّ هذه الآية يجب صرفها عن ظاهرها إلى التأويل.
ثم فيه وجوه:
أحدها: لِمَ لا يجوز أن يكون تقدير الآية: أأمنتم من في السماء عذابه، وذلك لأنّ عادة الله تعالى جارية بأنّه إنّما ينزل البلاء على مَن يكفر بالله ويعصيه من السماء، فالسماء موضع عذابه تعالى، كما أنّه موضع نزول رحمته ونعمته.
وثانيها: قال أبو مسلم: كانت العرب مقرّين بوجود الإله، لكنّهم كانوا يعتقدون أنّه في السماء على وفق قول المشبّهة، فكأنّه تعالى قال لهم: أتأمنون مَن قد أقررتم بأنّه في السماء، واعترفتم له بالقدرة على ما يشاء أن يخسف بكم الأرض.
وثالثها: تقدير الآية: مَن في السماء سلطانه وملكه وقدرته، والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان الله وتعظيم قدرته، كما قال: {وَهُوَ الله فِي السموات وَفِى الأرض}، فإنّ الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين، فوجب أن يكون المراد من كونه في السموات وفي الأرض نفاذ أمره وقدرته، وجريان مشيئته في السموات وفي الأرض، فكذا ههنا.
ورابعها: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد بقوله: {مَّن فِي السماء} الملك الموكّل بالعذاب، وهو جبريل عليه السلام، والمعنى أن يخسف بهم الأرض بأمر الله وإذنه) [التفسير الكبير ج30 ص61].
وقال ابن عاشور – في تفسير الآية –: (قوله: {من في السماء} في الموضعين من قبيل المتشابه الذي يعطي ظاهره معنى الحلول في مكان، وذلك لا يليق بالله، ويجيء فيه ما في أمثاله من طريقتي التفويض للسلف والتأويل للخلف رحمهم الله أجمعين. وقد أوّلوه بمعنى: مَن في السماء عذابه أو قدرته أو سلطانه على نحو تأويل قوله تعالى: {وجاء ربك} وأمثاله، وخصّ ذلك بالسماء؛ لأنّ إثباته لله تعالى ينفيه عن أصنامهم .
ولكن هذا الموصول غير مكين في باب المتشابه؛ لأنّه مجمل قابل للتأويل بما يحتمله (من) أن يكون ما صدقه مخلوقات ذات إدراك مقرّها السماء وهي الملائكة، فيصح أن تصدق (من) على طوائف من الملائكة الموكّلين بالأمر التكوينيّ في السماء والأرض، قال تعالى: {يتنزل الأمر بينهن}، ويصح أن يراد باسم الموصول ملك واحد معيّن وظيفته فعل هذا الخسف، فقد قيل: إنّ جبريل هو الملك الموكّل بالعذاب. وإسناد فعل (يخسف) إلى الملائكة أو إلى واحد منهم حقيقة؛ لأنّه فاعل الخسف قال تعالى - حكاية عن الملائكة -: {قالوا إنّا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين} إلى {إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء}) . [التحرير والتنوير ج29 ص33].
وقال أبو حيّان الأندلسيّ – في تفسير الآية –: ({من في السماء} هذا مجاز، وقد قام البرهان العقليّ على أنّه تعالى ليس بمتحيّز في جهة، ومجازه: أنّ ملكوته في السماء؛ لأنّ {في السماء} هو صلة {من}، ففيه الضمير الذي كان في العامل فيه، وهو استقرّ، أي مَن في السماء هو، أي ملكوته، فهو على حذف مضاف، وملكوته في كلّ شيء. لكنّ خص السماء بالذكر؛ لأنّها مسكن ملائكته، وثمّ عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأمره ونهيه، أو جاء هذا على طريق اعتقادهم؛ إذ كانوا مشبّهة، فيكون المعنى: أأمنتم مَن تزعمون أنّه في السماء؟ وهو المتعالي عن المكان.
وقيل: {من} على حذف مضاف، أي خالق من في السماء.
وقيل: {من} هم الملائكة.
وقيل: جبريل، وهو الملك الموكّل بالخسف وغيره.
وقيل: {من} بمعنى على، ويُراد بالعلو القهر والقدرة، لا بالمكان.
وفي التحرير: الإجماع منعقد على أنّه ليس في السماء بمعنى الاستقرار؛ لأنّ مَن قال من المشبّهة والمجسّمة أنّه على العرش لا يقول بأنّه في السماء) [البحر المحيط ج8 ص296].
وقال الشوكاني – في تفسير الآية – (قال الواحديّ: قال المفسّرون: يعني عقوبة مَن في السماء، وقيل: مَن في السماء قدرته وسلطانه وعرشه وملائكته، وقيل: مَن في السماء من الملائكة، وقيل: المراد جبريل) [فتح القدير ج6 ص325].
وفي تفسير الجلالين: ({أأمنتم} بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية وإدخال ألف بينهما وبين الأخرى وتركه وإبدالها ألفا {من في السماء} سلطانه وقدرته {أن يخسف} بدل من (مَن) {بكم الأرض فإذا هي تمور} تتحرك بكم وترتفع فوقكم) [تفسير الجلالين ج1 ص565].
والقول نفسه في تفاسير الشيعة، ونستشهد هنا بتفسير الميزان الذي جاء فيه: (والمراد بمَن في السماء الملائكة المقيمون فيها الموكلون على حوادث الكون وإرجاع ضمير الافراد إلى (من) باعتبار لفظه، وخسف الأرض بقوم كذا شقّها وتغييبهم في بطنها، والمور - على ما في المجمع - التردّد في الذهاب والمجيء مثل الموج.
والمعنى: أأمنتم في كفركم بربوبيته تعالى الملائكة المقيمين في السماء الموكلين بأمور العالم أن يشقّوا الأرض ويغيبوكم فيها بأمر الله فإذا الأرض تضطرب ذهاباً ومجيئا بزلزالها.
وقيل: المراد بمن في السماء هو الله سبحانه والمراد بكونه في السماء كون سلطانه وتدبيره وأمره فيها لاستحالة أن يكون تعالى في مكان أو جهة أو محاطاً بعالم من العوالم، وهذا المعنى وإن كان لا بأس به لكنه خلاف الظاه) [تفسير الميزان ج19 ص358].
اترك تعليق