هل الاعتقاد بالإمامة له آثار ثقافيّة وسلوكيّة؟

السؤال: لكلّ عقيدة تجلّي وانعكاس على سلوك الإنسان فكيف تتجلّى وتنعكس عقيدة الإمامة على سلوك الإنسان؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الإجابة:

لتوضيح كيفيّة انعكاس عقيدة الإمامة على سلوك الإنسان، يجب أن نفهم - في بادئ الأمر - العلاقة المتبادلة بين العقائد والسلوك الإنساني بشكل عامّ، فالعقائد ليست مجرّد أفكار أو مفاهيم مجرّدة تعيش في ذهن الإنسان دون تأثير عمليّ على حياته؛ بل هي الأساس الذي يبني عليه الإنسان قيمه وثقافته، فهناك علاقة وثيقة بين سلوك الإنسان وبين ما يحمله من بناء معرفيّ وتصوّر عقائديّ؛ وذلك لأنّ العقائد هي التي تشكّل خلفيّة القيم التي يتبنّاها الإنسان، والقيم بدورها تشكّل الرؤية الثقافيّة التي ينظر من خلالها الإنسان للحياة، وإذا نظرنا للسلوك العمليّ للإنسان نجده نتاج طبيعيّ لتلك الرؤية الثقافيّة، ومن هنا لا يمكن التأثير في سلوك الإنسان ما لم يكن هناك تأثير على رؤيته الثقافيّة، ولا يمكن التأثير على ثقافته ما لم يكن هناك تأثير على قيمه، ولا يمكن التأثير على قيمه ما لم يكن هناك تأثير على عقائده ومنظومته المعرفيّة.

فالإنسان جاء إلى الحياة من الغيب وسيخرج منها إلى الغيب أيضاً، ولا تكون الحياة مفهومة إلّا من خلال العقيدة التي تقدّم تفسيراً حقيقيّاً لفلسفة الوجود والحياة، فعلاقة الغيب بالشهود، وعلاقة الحياة بالممات، وعلاقة الدنيا بالآخرة، هي التي تشكّل البنية العقائديّة للإنسان، ومن هنا يجب أَلّا ننظر إلى العقائد الدينيّة بوصفها مجرّد مفاهيم يحتفظ بها الذهن دون أن يكون لها انعكاس على قيم الإنسان وثقافته وسلوكه.

والإسلام لا يكتفي بإعطاء المؤمن منظومة فكريّة تجيب عن أسئلة الوجود والحياة، بل يقدّم هذه المنظومة كإطار عمليّ يجب أن ينعكس على سلوكه، ومن هنا نجد القرآن الكريم في كثير من آياته يربط بين الإيمان والعمل الصالح، كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا)، وهو ممّا يؤكّد على أنّ العقيدة لا يمكن أن تنفصل عن العمل.

وممّا يؤسف له أنّ الواقع القيميّ، والثقافيّ، والسلوكيّ، للمسلمين لا يشبه أبداً عقائدهم التي يتبنّونها، وهو ممّا يؤكّد على وجود فجوة عميقة بين ما يؤمن به المسلم وبين ما يفعله، والأسباب التي ساعدت في ذلك كثيرة لا يمكن الوقوف عليها في هذا المقام، إلّا أنّ الأمر الثابت بالعيان هو وجود مساحة فاصلة بين معارف الإسلام وعقائده وبين واقع المسلمين، ولا يمكن تقديم معالجات فاعلة إلّا من خلال إعادة الوعي بتلك العقائد، ولا نقصد الوعي الذي يستحضر الأدلّة الإثباتيّة وإنّما الوعي الذي يستحضر المحتوي القيميّ والثقافيّ لتلك العقائد، وقد عبّر القرآن عن هذا الوعي بالبصيرة، فالعقيدة ليست مجرّد معرفة للحقيقة وإنّما اتّخاذ موقف يقوم على تلك الحقيقة، فالهدف من المعرفة ليس مجرّد التعرّف على الأشياء، وإنّما هو تحديد مسؤوليّة الإنسان اتّجاهها، وعليه يمكن أن يكون الشيء معروفاً للمؤمن والكافر إلّا أنّ المؤمن هو الذي يمتلك فيه البصيرة دون الكافر، والذي يبدو أنّ كلمة البصيرة في القرآن هي التي تؤكّد على الجانب العمليّ والثقافيّ للعقيدة.

والاعتقاد بوجود إمام معصوم يمثّل الجانب العمليّ للاعتقاد بوجود الله تعالى، وعليه كلّ القيم التي تنعكس من التوحيد لا تتحقّق إلّا عبر الاعتقاد بالإمام الذي يمثّل إرادة الله تعالى، فالاعتقاد بالله والتسليم له يعني التمرّد على كلّ سلطة أرضيّة، وبذلك يصبح الإنسان حرّاً طليقاً لا تقيّده شهوة ولا يرهبه طاغوت، قال تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) فالإنسان في الحياة إمّا أن يكون فاعلاً فيها وإمّا أن يكون منفعلاً بها، والاعتقاد بالله وحده هو الذي يحرّر الإنسان من أغلال الحياة وضغوطها، والتوحيد ضمن هذا الفهم، هو التسليم المطلق لله تعالى، بحيث لا يحقّ للإنسان أن يخرج عن سيادة الله طرفة عين، في فعله وسلوكه وكلّ شؤون حياته، ولا يكتمل هذا الأمر إلّا بالاعتقاد بالأنبياء والرسل والأئمّة الذين يمثّلون السلطة العمليّة لسلطة الله تعالى، وعليه فالتوحيد الذي يعتقد به الإنسان لا بدّ أن يخرجه من المنظور العقليّ والنظريّ إلى التوحيد العمليّ، وذلك من خلال التسليم لأولياء الله الذين يعبّرون عن إرادة الله في خلقه، قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)، فالاعتقادات الإسلاميّة ليست أفكاراً منفصلة بعضها عن بعضها الآخر، وإنّما هي في حالة من الترابط والتكامل بحيث تؤدّي في النهاية إلى نتيجة واحدة، فالاعتقاد بالله وبرسالاته ورسله واليوم الآخر كلّها تعزّز جانباً واحداً في حياة الإنسان وهي الاستقامة على الصراط المستقيم، فاللّحظة التي يخرج فيها الإنسان عن هذا المسار هي ذاتها اللّحظة التي يختلّ فيها التوازن بين العقيدة والسلوك.

فالإمام، وفقاً لهذه العقيدة، ليس فقط قائداً دينيّاً أو شخصاً له مكانة خاصّة، بل هو تجسيد لإرادة الله في الأرض، ومن هنا، فإنّ الاعتقاد بالإمام يدفع الإنسان إلى الامتثال لتعاليم الله، كما يحرّره من الخضوع لأيّ قوّة بشريّة أو دنيويّة، وهو ممّا يجعل الإنسان قادراً على عيش حياة تتوافق مع إرادة الله، دون أن يكون عبداً لشهواته أو مصالحه الخاصّة.

وفي المحصلة يمكن تلخيص انعكاس الاعتقاد بالإمامة في النقاط التالية:

أوّلاً: الإيمان بالإمامة يحرّر المؤمن من اتّباع الطاغوت، والموالي للإمام حقّاً سيكون معارضاً لكلّ سلطة غير شرعيّة وسيكون دائماً ضدّ الظلم والفساد في أيّ شكل من الأشكال.

ثانياً: العمل الصالح والمسؤوليّة الاجتماعيّة، فالإمامة تفرض على المؤمن الشعور بالمسؤوليّة تجاه المجتمع، فالمؤمن المنخرط في خطِّ الإمامة يتكامل مع الأخرين في ضمن نظام اجتماعيّ يتدرّج هرميّاً حتّى الوصول إلى قمّة الهرم المتمثّل في الإمام.

ثالثاً: التقوى والانضباط الذاتيّ، فالاعتقاد بالإمام - على أنّه قائدٌ روحيّ - يدفع المؤمن إلى الالتزام بالتقوى، لأنّه يرى في الإمام تجسيداً عمليّاً للأخلاق الإلهيّة، وهو ممّا يعزّز لديه الرغبة في تقليده والسير على نهجه.

رابعاً: الشجاعة والإقدام، فالإيمان بالإمامة يمنح الإنسان قوّة روحيّة تحثّه على الشجاعة والدفاع عن الحقّ، فالذي يقف في خط الإمام المعصوم لا يبالي بقوّة الشرّ والعدوان مهما اجتمعت وتكاثرت.

وغير ذلك من البصائر التي يجدها المؤمن بوجود إمام معصوم يتصدّر خط مسيره إلى الله.