ممكن تبيان حادثة الافك و عائشة

: اللجنة العلمية

السلام عليكم ورحمة الله : وقع خلافٌ فيمن نزلت فيها آيات الإفك على قولين: أحدهما: أنّها نزلت في عائشة بنت أبي بكر.والآخر: أنهّا نزلت في ماريّة القبطيّة.

فأمّا القول الأوّل فيذهب إليه جمهور مفسّري أهل السنّة وأعلامهم باعتمادهم على ما جاء من رواية عن عائشة في هذه الحادثة, وهي رواية طويلة جدّاً مروية في صحيح البخاريّ 3/1484، وصحيح مسلم 4/2129، وغيرهما التي جاء فيها أنّ آيات الإفك نزلت في تبرئة عائشة مما قُذفت به من الزنا مع صفوان بن المعطّل السلميّ.

وهذه الرواية فيها تأمّلات من ناحية سندها، ومن ناحية متنها.

أما من ناحية سندها فإنّها لم ترو إلّا عن عائشة فقط، مع أنّ مثل هذه الحادثة التي نزلت فيها أكثر من عشر آيات من القرآن ينبغي أن تروى فيها رواية واحدة على الأقلّ عن صحابي آخر يوافق فيها عائشة في أنّها هي المرأة المقذوفة بالزنا، ولكنّا لم نر أي رواية من هذا النحو. ولا شكّ في أنّ كلّ شخص يحقّ له أن يفتخر بأنّ الله تعالى أنزل فيه آيات من القرآن تتلى إلى آخر الدهر، فلا يمكن قبول أي ادّعاء إلّا إذا روي من طرف آخر لا يُتَّهم.

هذا مع أن رواية عائشة لفَّقها محمّد بن شهاب الزهريّ من مجموعة روايات يزعم أنّها مروية عن عائشة، ولا ندري كم ضمّنها من إدراجاته وتدليساته التي اشتهر بها كما هو معروفٌ عنه في كتب الرجال.(ينظر ترجمته في كتاب تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلانيّ, وفي كتاب طبقات المدلّسين له).قال الزهريّ: وكلّهم حدّثني طائفة من حديثها، وبعضهم أوعى من بعض، وأثبت له اقتصاصاً، وقد وعيتُ عن كلّ واحد منهم الحديث الذي حدّثني عن عائشة، وبعض حديثهم يصدِّق بعضاً، زعموا أنّ عائشة قالت ... الخ.

وأمّا من ناحية متن الرواية ففيها إشكالات كثيرة، منها: أوّلاً: أنّه ورد فيها أنّ سعد بن معاذ كان حاضراً في المسجد، مع أنّ حادثة الإفك حصلت في السنة السادسة من الهجرة، وسعد بن معاذ توفّي في سنة أربع من الهجرة.

قال ابن حجر العسقلانيّ: قال عياض: في ذكر سعد بن معاذ في هذا الحديث إشكال، لم يتكلّم الناس عليه، ونبَّهنا عليه بعض شيوخنا، وذلك أنّ الإفك كان في المريسيع، وكانت سنة ست فيما ذكر ابن إسحاق، وسعد بن معاذ مات من الرمية التي رميها بالخندق، فدعا الله، فأبقاه حتّى حكم في بني قريظة، ثُمّ انفجر جرحه فمات منها، وكان ذلك سنة أربع عند الجميع، إلّا ما زعم الواقديّ أنّ ذلك كان سنة خمس، قال: وعلى كلّ تقدير فلا يصحّ ذكر سعد بن معاذ في هذه القصّة. (فتح الباري 8/580).

وثانياً: أنّها تصوّر النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله) على أنّه كان يعيش حالة من الرَّيب والشكّ في زوجته , وهذا لا يليق بمقام  النبوّة, ولا يمكن تصوّره في شخص عصمه المولى عزّ وجلّ حتّى قال فيه: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾.

وثالثاً: أنّ هذه الرواية صوّرت النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بالعاجز عن اتّخاذ أي إجراء مدّة طويلة بعد أن قال: أهل الإفك إفكهم، مع العلم أنّه (صلّى الله عليه وآله) كان مكلّفًا بتوضّيح ومعالجة مثل هذه الظواهر السلبيّة, وخصوصاً أنّ الحدّ الشرعيّ لمن يتّهم مُسْلِمَةً دون إقامة شهود على دعواه قد نزل قبل قبل حادثة الإفك, فَلِمَ لم يقم النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بإقامة الحدّ الشرعي على أصحاب الإفك رغم أنّ الحكم كان قد نزل ووضّحه المولى عزّ وجلّ؟

وأمّا القول الثاني فيذهب إليه طائفة من علماء الإماميّة باعتمادهم على عدّة روايات من طرق العامّة والخاصّة تدلُّ على أنّ المرأة المقذوفة بالزنا هي مارية القبطيّة رضوان الله عليها، فمن روايات العامّة:1- ما أخرجه مسلم في صحيحه 4/2139 بسنده عن أنس: أنّ رجلاً كان يُتَّهم بأمّ ولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعليّ: اذهب فاضرب عنقه. فأتاه عليّ فإذا هو في رَكِيٍّ ـ أي بئر - يتبرَّد فيها، فقال له عليّ: اخرج. فناوله يده فأخرجه، فإذا هو مجبوب ليس له ذكر، فكف عليٌّ عنه، ثم أتى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، فقال: يا رسول الله إنّه لمجبوب، ما له ذكر.

قلت: المراد بأمّ ولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هي مارية القبطيّة رضوان الله عليها؛ فإنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لم تكن له أمّ ولد غيرها، والرجل الذي كان يُتَّهم بها هو ابن عمّها القبطيّ كما دلَّت عليه الروايات الأخرى.

قال ابن حجر في الإصابة 4/405، (ط. ج 8/311): ومن طريق عمرة عن عائشة قالت: ما غرتُ على امرأةٌ إلا دون ما غرتُ على مارية، وذلك أنّها كانت جميلة جعدة، فأعجب بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكان أنزلها أوّل ما قدم بها في بيتٍ لحارثة بن النعمان، فكانت جارتنا، فكان عامّة الليل والنهار عندها، حتّى فزعنا لها، فجزعت، فحوَّلها إلى العالية، وكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشدُّ علينا.

وروى الحاكم في المستدرك (المستدرك 4/41) بسنده عن عائشة قالت : أهديت مارية إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومعها ابن عمٍّ لها، قالت: فوقع عليها وقعة فاستمرت حاملاً، قالت: فعزلها عند ابن عمّها، قالت: فقال أهل الإفك والزور: «من حاجته إلى الولد ادَّعى ولد غيره»، وكانت أمّه قليلة اللبن، فابتاعت له ضائنة لبون، فكان يغذّى بلبنها، فحسن عليه لحمه، قالت عائشة: فدخل به عليَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ذات يوم، فقال: كيف ترين؟ فقلت: من غذي بلحم الضأن يحسن لحمه، قال: ولا الشبه؟ قالت: فحملني ما يحمل النساء من الغيرة أن قلت: ما أرى شبهاً. قالت: وبلغ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما يقول الناس، فقال لعليّ: خذ هذا السيف، فانطلق فاضرب عنق ابن عمّ مارية حيث وجدته. قالت: فانطلق، فإذا هو في حائط على نخلة يخترف رطباً، قال: فلمّا نظر إلى عليّ ومعه السيف استقبلته رعدة. قال: فسقطت الخرفة، فإذا هو لم يخلق الله عزّ وجلّ له ما للرجال شيء ممسوح.

وقد ضعّف هذه الرواية جماعة منهم الألبانيّ، فأنكرها أشدّ الإنكار في سلسلته الضعيفة.قال: وللحديث أصل صحيح، زاد عليه ابن الأرقم هذا زيادات منكرة، تدلُّ على أنه سيِّئ الحفظ جداً، أو أنّه يتعمّد الكذب والزيادة؛ لهوى في نفسه، ثم يحتجّ بها أهل الأهواء. (سلسلة الأحاديث الضعيفة 10/701 ).قال: وأشدّها نكارة ما ذكره عن عائشة أنّها قالت: ما أرى شبهاً! (نفس المصدر 10/702).

قلت: وسليمان بن الأرقم لم يتفرَّد بهذه الزيادة، بل تابعه غيره، فقد روى ابن سعد في الطبقات الكبرى 1/137 هذا الحديث بهذه الزيادة عن محمّد بن عمر الواقديّ عن محمّد بن عبد الله عن الزهريّ عن عروة عن عائشة. ورواه بالزيادة أيضاً ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، ص 615: عن محمّد بن يحيى الباهليّ عن يعقوب بن محمّد عن رجل سمّاه عن الليث بن سعد عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة.

وأمّا روايات الخاصّة فمتعدّدة.

منها: ما رواه السيّد المرتضى (قدّس) عن محمّد بن الحنفيّة عن أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: كان قد كثر على مارية القبطيّة أمّ إبراهيم في ابن عمّ لها قبطيّ، كان يزورها، ويختلف إليها، فقال لي النبيّ عليه الصلاة والسلام: خذ هذا السيف، وانطلق به، فإن وجدته عندها فاقتله. قلت: يا رسول الله، أكون في أمرك كالسكّة المحماة، أمضي لما أمرتني، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب. فقال النبيّ عليه الصلاة والسلام: بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب. فأقبلت متوشِّحاً بالسيف، فوجدته عندها، فاخترطت السيف، فلما أقبلت نحوه علم أني أريده، فأتى نخلة، فرقي إليها، ثم رمى بنفسه على قفاه، وشغر برجليه، فإذا إنه أجب أمسح، ما له مما للرجال قليل ولا كثير، فغمدت السيف، ورجعت إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فأخبرته، فقال: الحمد لله الذي يصرف عنّا أهل البيت. (أمالي المرتضى 1/77).

ومنها: ما ورد في حديث المناشدة الذي رواه الشيخ الصدوق (قدّس) في كتاب الخصال 2/563، أنّ أمير المؤمنين عليه السلام، قال: نشدتكم بالله هل علمتم أنّ عائشة قالت لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) : إنّ إبراهيم ليس منك، وإنّه ابن فلان القبطيّ، قال: يا عليّ اذهب فاقتله، فقلت: يا رسول الله إذا بعثتني أكون كالمسمار المحمى في الوبر أو أتثبَّت؟ قال: لا، بل تثبَّت، فذهبت فلما نظر إليّ استند إلى حائط، فطرح نفسه فيه، فطرحت نفسي على أثره، فصعد على نخل، وصعدت خلفه، فلما رآني قد صعدت رمى بإزاره، فإذا ليس له شيء مما يكون للرجال، فجئت فأخبرت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال: الحمد لله الذي صرف عنّا السوء أهل البيت.

قال الشيخ المفيد (قدّس) حول هذا الحديث: والحديث مشهور، وتفصيله عند أهل العلم مذكور. فقال السائل: هذا الخبر عندكم ثابت، صحيح؟ قلت: أجل، هو خبر مسلَّم، يَصطلح على ثبوته الجميع. (رسالة حول خبر مارية: 18).

مرجِّحات رواية قذف مارية

1- أنّ رواية قذف مارية لم ترو عن مارية نفسها، وإنما رُويت عن صحابة آخرين، منهم أنس بن مالك كما في صحيح مسلم، ومنهم: عائشة كما في المستدرك وغيره، وقد رواها الشيعة عن أمير المؤمنين عليه السلام، وعن الإمام محمّد بن عليّ الباقر والإمام جعفر بن محمّد الصادق، والإمام عليّ بن موسى الرضا عليهم السلام. مضافاً إلى أنّ هذه الرواية رواها الشيعة وأهل السنة جميعاً بأسانيد معتبرة، وبعبارات تكاد تكون متطابقة، وهذا يرجّحها على رواية عائشة التي لم ترو إلّا عن عائشة، ورواها الزهريّ ملفّقة من روايات متعدّدة كما قلنا آنفاً.

2- أن قذف واحدة من زوجات النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، ربما لا يقتضي نزول عشر آيات لتبرئتها؛ لأنّه يكفي في الحكم ببراءتها إخبار النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، بأنّها بريئة، بخلاف نفي نسبة إبراهيم ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، له، وإلصاقه بالقبطيّ، ولا سيما أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، لو أخبر الناس بأنّ مارية بريئة، وأنّ إبراهيم عليه السلام ابن له, فإن ّأهل الإفك سيقولون: «من حُبّه للولد ادّعى ولد غيره» كما ورد ذلك في رواية عائشة، وأمّا تبرئة إحدى زوجاته، فإنّه لن يكون متّهماً في ذلك إذا شهد ببراءتها ونزاهتها.

3- أنّه لم تكن هناك دواع مهمّة لقذف عائشة بالزنا، ولا سيّما أنّ عائشة ذكرت في حديثها أنّ الذين قذفوها هم بعض الصحابة، مثل حسّان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، فكيف يمكن تصديق ذلك في حقّ صحابة عدول عاشوا في خير القرون كما يقول أهل السنة؟!وكون عائشة جاءت على جمل يقوده صفوان بن المعطّل لا يقتضي قذفها بالزنا، واتّهامها بالفاحشة؛ لأنّ هذه الحال لا تقتضي عادة الاتّهام بالزنا حتّى في المجتمعات السيّئة، فلم يرهما الناس في خلوة، أو في وضع مريب، بخلاف قذف مارية، فإنّ دواعي الغيرة بين نساء النبي (صلّى الله عليه وآله)، كانت متوافرة، ولا سيّما أنّ عائشة كانت تصرِّح بغيرتها الشديدة في أكثر من حديث، مثل قولها بدافع الغيرة عن خديجة سلام الله عليها: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيراً منها. (صحيح البخاري 3/1168)، وكقولها للنبيّ (صلّى الله عليه وآله)، لما غارت من زينب بنت جحش: «إنّي أجد فيك ريح المغافير»، ودعتها غيرتها لأن تتواطأ مع حفصة على قول ذلك القول للنبيّ (صلّى الله عليه وآله)، كذباً وزوراً. (صحيح البخاري 3/1567).

فإذا كانت قد غارت من شرب النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، عسلاً عند زينب بنت جحش رضوان الله عليها، أفلا تغار من إنجاب مارية ولداً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟!

إشكالات على رواية قذف مارية:

1- أن النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، أمر أمير المؤمنين عليه السلام بقتل جريح القبطيّ، مع أنّ القبطيّ بريء مما قذف به من الزنا، وقتل البريء لا يصدر من النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وعليه فلا يمكن التصديق بهذه الرواية.

والجواب: أن النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، لم يقتل القبطيّ، وإنّما أمر أمير المؤمنين عليه السلام بقتله، وقال له: «يرى الشاهد ما لا يراه الغائب»، أي أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وإنْ أمر بحسب الظاهر بقتل القبطيّ، إلّا أنّه لما أمر أمير المؤمنين عليه السلام بالتثبّت، فإنّه يعلم أنّ القبطيّ لن يُقتل، وأنّ الله تعالى سيبيّن حقيقة الأمر، فلا إشكال في البين.

مع أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، لو أخبر الناس أنّ جريحاً القبطيّ بريء مـمّا قذف به، فإنّ أهل الإفك كما مرَّ سيشكّكون في كلام النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وسيدَّعون أنّ حبّه للولد جعله يبرِّئ جريحاً، لكنّه (صلّى الله عليه وآله) لـمّا أمر بقتله بحسب الظاهر أراد أن يثبت للناس براءته بما يقطع إرجاف المرجفين وقول الأفّاكين، ولذلك أمر أمير المؤمنين عليه السلام بالتثبّت في الأمر قبل قتله.

مع أنّ الأمر بقتل القبطيّ ورد في الرواية الشيعيّة والرواية السنيّة معاً، ولم يختصّ بالرواية الشيعيّة، ولهذا لم أجد من شكّك في صحّة الرواية لأجل ذلك من شرّاح صحيح مسلم كالنوويّ في شرحه 17/118، والقاضي عياض في إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم 8/308، وغيرهما.

2- أن حدَّ الزنا ليس هو القتل، والنبيّ (صلّى الله عليه وآله)، أمر عليًّا عليه السلام بقتل القبطيّ، والقبطيّ إمّا بريء فلا يجوز قتله، وإمّا قد ثبت عليه الزنا، فإنّ حدَّه أن يُجلد مئة جلدة إن كان غير محصن، أو يُرجم بالحجارة إن كان محصناً، فكيف يأمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، بقتله بالسيف؟!

والجواب: أنّا أوضحنا أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، لم يقتل القبطيّ بالسيف، وما صدر عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، يمكن أن يكون له عدّة محامل صحيحة.

منها: ما قلناه من أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، لم يرد قتله، وإنّما أراد إظهار براءته.

ومنها: ما ذكره القاضي عياض من أنّ القبطيّ لم يثبت أنّه أسلم، وأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، نهاه عن التحدّث إلى مارية، فلمّا خالفه استحق بذلك القتل، إمّا للمخالفة، أو لتأذي النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بسببه، ومن آذى النبيّ بشيء [فهو] ملعون كافر يستحقّ القتل. (إكمال المعلم 8/308).

مضافاً إلى أن هذا الإشكال ليس مخصوصاً بالرواية الشيعيّة فقط، بل إنّه مذكور أيضاً في رواية صحيح مسلم، كما قلناه فيما سبق.

3- أنّ الله تعالى ذكر في آيات الإفك أنّ الذين جاؤوا بالإفك عصبة، والعصبة هي الجماعة، قيل: هم من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: من عشرة إلى أربعين، وقيل غير ذلك. والرواية الشيعيّة في قذف مارية تدلّ على أنّ القاذف لمارية هي عائشة، والمرأة الواحدة لا يطلق عليها عصبة.

والجواب: أنّ الكلام إنّما هو في المرأة المقذوفة، من هي؟ هل هي مارية القبطيّة رضوان الله عليها، أو أنّها عائشة، وهذا الإشكال لا يرد على القول بأنّها مارية؛ لأنّ العصبة هم الذين جاؤوا بالإفك، وكون الذين جاؤوا بالإفك عصبة، لا ينفي أن تكون المرأة المقذوفة هي مارية رضوان الله عليها، وهذا هو محلُّ كلامنا. مع أنّ العصبة الذين جاؤوا بالإفك يراد بهم من افتعل الإفك، ومن روَّج له وأذاعه بين الناس، وإلّا فإنّ كلّ الأخبار إنّما يفتعلها في البداية شخص واحد، ثُمَّ يقوم آخرون بإذاعتها، فيكونون شركاء فيها؛ لأنّ الوظيفة الشرعيّة في أمثال هذه الأمور هو كتمانها وعدم إشاعتها، ومن أشاعها فهو شريك فيها، ولهذا صحّ إطلاق العصبة على أهل الإفك.

هذا ما عندنا في حادثة الإفك. ودمتم سالمين.

الرواية الطويلة جداً عن عائشة التي اعتمد عليها أهل السنّة, وهذا نصّها:

 

أَنَّ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا، خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَهُ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الحِجَابُ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجٍ، وَأُنْزَلُ فِيهِ، فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ [ص:174]، وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنَ المَدِينَةِ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ، فَلَمَسْتُ صَدْرِي، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ أَظْفَارٍ قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ، فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي، فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، فَأَقْبَلَ الَّذِينَ يَرْحَلُونَ لِي، فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي، فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ، وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يَثْقُلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، وَإِنَّمَا يَأْكُلْنَ العُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ القَوْمُ حِينَ رَفَعُوهُ ثِقَلَ الهَوْدَجِ، فَاحْتَمَلُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الجَمَلَ وَسَارُوا، فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنْزِلَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَأَمَمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَنِي، فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ، فَنِمْتُ وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ المُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الجَيْشِ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَانِي وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ يَدَهَا، فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُعَرِّسِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الإِفْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا المَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ بِهَا شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ، وَيَرِيبُنِي فِي وَجَعِي، أَنِّي لاَ أَرَى مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَمْرَضُ، إِنَّمَا يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُولُ: «كَيْفَ تِيكُمْ»، لاَ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى نَقَهْتُ، فَخَرَجْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ مُتَبَرَّزُنَا لاَ نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ العَرَبِ الأُوَلِ فِي البَرِّيَّةِ أَوْ فِي التَّنَزُّهِ، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍبِنْتُ أَبِي رُهْمٍ نَمْشِي، فَعَثَرَتْ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا، فَقَالَتْ: يَا هَنْتَاهْ، أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالُوا؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ فَقَالَ: «كَيْفَ تِيكُمْ»، فَقُلْتُ: ائْذَنْ لِي إِلَى أَبَوَيَّ، قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لِأُمِّي: مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَى نَفْسِكِ الشَّأْنَ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ، إِلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا، فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَقَدْ يَتَحَدَّثُ [ص:175] النَّاسُ بِهَذَا، قَالَتْ: فَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الوَحْيُ، يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الوُدِّ لَهُمْ، فَقَالَ أُسَامَةُ: أَهْلُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلاَ نَعْلَمُ وَاللَّهِ إِلَّا خَيْرًا، وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَسَلِ الجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ، فَقَالَ: «يَا بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ فِيهَا شَيْئًا يَرِيبُكِ؟»، فَقَالَتْ بَرِيرَةُ: لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، إِنْ رَأَيْتُ مِنْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا قَطُّ، أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنِ العَجِينِ، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَوْمِهِ، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي»، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا وَاللَّهِ أَعْذُرُكَ مِنْهُ إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا، فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَكَ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ - وَهُوَ سَيِّدُ الخَزْرَجِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الحَمِيَّةُ - فَقَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ، لاَ تَقْتُلُهُ، وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ المُنَافِقِينَ، فَثَارَ الحَيَّانِ الأَوْسُ، وَالخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى المِنْبَرِ، فَنَزَلَ، فَخَفَّضَهُمْ حَتَّى سَكَتُوا، وَسَكَتَ وَبَكَيْتُ يَوْمِي لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، فَأَصْبَحَ عِنْدِي أَبَوَايَ، وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا حَتَّى أَظُنُّ أَنَّ البُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي، قَالَتْ: فَبَيْنَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي، وَأَنَا أَبْكِي، إِذِ اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مِنْ يَوْمِ قِيلَ فِيَّ مَا قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ مَكَثَ شَهْرًا لاَ يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شَيْءٌ، قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً، فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ، ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ»، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ، قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، وَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْعَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ لِأُمِّي: أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ص:176] فِيمَا قَالَ، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، لاَ أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ القُرْآنِ، فَقُلْتُ: إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ، وَوَقَرَ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَبَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي، وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا، إِلَّا أَبَا يُوسُفَ إِذْ قَالَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، ثُمَّ تَحَوَّلْتُ عَلَى فِرَاشِي وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَرِّئَنِي اللَّهُ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ أَنْ يُنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيًا، وَلَأَنَا أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِالقُرْآنِ فِي أَمْرِي، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ، فَوَاللَّهِ مَا رَامَ مَجْلِسَهُ وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ، حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الجُمَانِ مِنَ العَرَقِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا، أَنْ قَالَ لِي: «يَا عَائِشَةُ احْمَدِي اللَّهَ، فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ»، فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: لاَ وَاللَّهِ، لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلاَ أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الآيَاتِ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ: وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ مَا قَالَ لِعَائِشَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا} إِلَى قَوْلِهِ {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يُجْرِي عَلَيْهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي، فَقَالَ: «يَا زَيْنَبُ، مَا عَلِمْتِ مَا رَأَيْتِ»، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلَّا خَيْرًا، قَالَتْ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالوَرَعِ قَالَ: وَحَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ مِثْلَهُ.