الإمامةُ في القرآن الكريم

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة اللع وبركاته : المُؤكّدُ عندَ أهلِ النظرِ والمعرفةِ أنَّ الأدلّةَ على وجوبِ الإمامةِ مُحكمةٌ لا شُبهةَ فيها، فعلى مُستوى المفهومِ فإنَّ دلالةَ الأدلّةِ جازمةٌ على كونِ الإمامةِ رُكناً أصيلاً لا يستقيمُ الإسلامُ إلّا بها، وعلى ذلكَ لا تكونُ الإمامةُ ركناً عندَ الشيعةِ فحَسب وإنّما عندَ كلِّ عاقلٍ تدبّرَ القرآنَ وتفطّنَ لمقاصدِ الإسلام، أمّا على مُستوى المِصداق فإنَّ الأدلّةَ مُنحصِرةٌ في إمامةِ أهلِ البيتِ خاصّةً دونَ غيرِهم، وهذا ما شهدَت به آياتُ القرآن وأجمعَت عليه مصادرُ المُسلمينَ الحديثيّةُ والتاريخيّة، ولا يكابرُ في ذلكَ إلّا صاحبُ هوىً أو جاهلٌ بمعنى الدليلِ وقيمتِه، وهناكَ عشراتُ الكُتبِ التي اهتمَّت بذلكَ وعملَت على بيانِه بما لا يدعُ مجالاً للشكِّ، ويبدو أنَّ السائلَ تجاهلَ كلَّ تلكَ الأدلّةِ ليقترحَ علينا نمطاً خاصّاً للأدلّة، وهوَ بذلكَ يجهلُ بأنَّ قيمةَ الدليلِ ليسَت في شكلِه أو أسلوبِ عرضِه وإنّما في إفادتِه للعِلمِ والقَطع، وهذا ما توافقَ عليهِ العُقلاء وسارَ عليهِ عُلماءُ الإسلام، فالقرآنُ ليسَ حُجّةً لكونِه نصّاً مُقدّساً وإنّما حُجّةٌ لكونِه يفيدُ عِلماً، ولذلكَ لا يجوزُ العملُ بالآياتِ المُتشابهة لعدمِ إفادتِها للعِلم، وعليهِ فإنَّ الحُجّةَ تدورُ مدارَ العِلم والقطع متى حصلَ ذلك وجبَ العملُ على طِبقه، وبالتالي إذا كانَ الدليلُ بطبعِه مُفيداً للعِلمِ عندَ العُقلاء لا يجوزُ رفضُه والمُطالبةُ باستبدالِه، ولا يفعلُ ذلكَ إلّا مُنكرٌ للحقِّ أو جاهلٌ بطُرقِ المعرفةِ والبُرهان. فقولُ السائل: (هل استدلَّ الإمامُ عليّ رضيَ اللهُ عنه على إمامتِه بآيةٍ منَ القُرآنِ الكريم؟) يقصدُ مِن ذلكَ الإيهامَ بأنَّ الأدلّةَ على إمامةِ الإمامِ عليٍّ (عليهِ السلام) محصورةٌ أوّلاً في القرآنِ الكريم، وثانياً في أن يكونَ عليهِ السلام هوَ الذي يستدلُّ على إمامتِه، وفي ذلكَ مُغالطةٌ واضحةٌ لأنَّ ثبوتَ الحقِّ لصاحبِه غيرُ موقوفٍ على تصريحِ صاحبِ الحقِّ بحقِّه، فإذا قامَ الدليلُ على أنّهُ صاحبُ حقٍّ ثبتَ له ذلكَ حتّى لو لم يُطالِب هوَ بذلك، وقد ثبتَ حقُّ الإمامِ (عليهِ السلام) في الإمامةِ والخلافةِ بأكثرَ مِن دليل، وليسَ بالضرورةِ أن تجري تلكَ الأدلّةُ على لسانِه وإنّما يكفي أن تكونَ مُلزِمةً للمُخالِف، وقد كانَت أخلاقُ أميرِ المؤمنينَ وحُسنُ تواضعِه تمنعانِه مِن إظهارِ قدرهِ وبيانِ شريفِ منزلتِه، ولذلكَ قالَ في جوابِه لمعاوية: (وَلَولاَ مَا نَهَى اللهُ عَنهُ مِن تَزكِيَـةِ الـمَرءِ نَفسَـهُ، لَذَكَـرَ ذَاكِرٌ فَضَائِـلَ جَمَّةً، تَعرِفُهَا قُلُوبُ الـمُؤمِنِينَ، وَلا تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِينَ)، وعندَما طالبَ سلامُ اللهِ عليه بحقِّه اعتبرَه البعضُ طامعاً في السّلطة، فقد جاءَ في خطابٍ له قولهُ: (وقد قالَ قائلٌ: إنّكَ على هذا الأمرِ يا بنَ أبي طالبٍ لحريص، فقلتُ: بل أنتُم واللهِ لأحرصُ وأبعَد، وأنا أخصُّ وأقرب، وإنّما طلبتُ حقّاً لي، وأنتُم تحولونَ بيني وبينَه، وتضربونَ وجهي دونَه، فلمّا قرعتُه بالحُجّةِ في الملأ الحاضرينَ هبَّ كأنّه بُهتَ لا يدري ما يُجيبُني به؟ اللهمَّ إنّي أستعديكَ على قُريش ومَن أعانهم! فإنّهم قطعوا رحمِي، وصغّروا عظيمَ مَنزلتي، وأجمعوا على مُنازعتِي أمراً هوَ لي، ثمّ قالوا: ألا إنَّ في الحقِّ أن تأخذَه وفي الحقِّ أن تتركَه ... إلخ الخُطبة) فليسَ منَ الواجبِ أن يُخبرَهم هوَ بفضلِه ومكانتِه وإنّما الواجبُ عليهم أن يعرفوا هُم ما جاءَ فيه مِن آياتٍ وأحاديث، ومعَ ذلكَ فقد احتجَّ عليهم بالحُججِ الدامغةِ والبراهينِ الواضحة إلّا أنَّ القومَ أبوا واستكبروا ورفضوا أن يذُعنوا للحقّ.  مُضافاً إلى ذلكَ أنَّ حصرَ الاستدلالِ بالقرآنِ دونَ الاستعانةِ بالسنّةِ لا يُؤدّي للتشكيكِ في الإمامةِ وحدِها وإنّما يؤدّي إلى التشكيكِ في مُعظَمِ المُسلّماتِ الإسلاميّة، فمثلاً قولهُ تعالى (أقيموا الصّلاة) لا تُصبِحُ دليلاً مُحكَماً على الصلاةِ التي يؤدّيها المُسلمونَ إذا أبعَدنا السنّةَ النبويّة؛ إذ كيفَ نُثبِتُ أنَّ الصّلاةَ التي أمرَت بها الآيةُ هيَ ذاتُها الصلاةُ التي نعرفَها كمُسلمين؟ وكذلكَ الصيامُ والحجُّ وجميعُ العباداتِ الإسلاميّة، وعليهِ فإنَّ الإحكامَ في الآياتِ لا يعني استبعادَ السنّةِ النبويّةِ والقرائنَ التي يستعانُ بها في فهمِ النصوص، وإنّما الإحكامُ في إفادةِ الدليلِ للمدلولِ مِن خلالِ النظرِ إليه محفوفاً بقرائنِه وشواهدِه، وهذا مُتحقّقٌ في كثيرٍ منَ الآياتِ التي تدلُّ بشكلٍ واضحٍ ومُحكَم على إمامةِ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) كما أكّدَته السنّةُ النبويّة.وبعدَ ثبوتِ ذلكَ يتّضحُ دلالةُ الآياتِ التي استدلَّ بها عُلماءُ الشيعةِ على إمامةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) وهيَ كثيرةٌ ومُفصّلةٌ في محلِّها، وليسَ أمامَ السائلِ إن كانَ صادِقاً في بحثِه إلّا الرجوعُ إلى تلكَ الكُتبِ والوقوفُ على ما جاءَ فيها مِن أدلّةٍ بقلبٍ صافٍ وذهنٍ مُنفتِح. وقد رأيتُ منَ المُناسِبِ ذكرَ جوابِ الإمامِ عليٍّ (عليهِ السلام) على رسالةٍ أتَته مِن مُعاويةَ بنِ أبي سُفيان تدلُّ على جانبٍ مِن احتجاجاتِ أميرِ المؤمنينَ على مَن خالفَه ونازعَه حقَّه في الخلافةِ والإمامة، وقد قالَ فيها الشريفُ الرّضيُّ (مِن محاسنِ الكُتب)(أَمَّا بَعدُ، فَقَد أَتَانِي كِتَابُكَ تَذكُرُ [فِيهِ] اصطِفَاءَ اللهِ تَعَالى مُحَمَّداً (صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ) لِدِينِهِ، وَتَأيِيدَهُ إِيَّاهُ بِمَن أَيَّدَهُ مِن أَصحَابِهِ، فَلَقَد خَبَّأَ لَنَا الدَّهرُ مِنكَ عَجَباً، إِذ طَفِقتَ تُخبِرُنَا بِبَلَاءِ اللهِ عِندَنَا، وَنِعمَتِهِ عَلَينَا فِي نَبِيِّنَا، فَكُنتَ فِي ذلكِ كَنَاقِلِ التَّمرِ إِلَى هَجَرَ، أَو دَاعِي مُسَدِّدِهِ إِلَى النِّضَال. وَزَعَمتَ أَنَّ أَفضَلَ النَّاسِ فِي الإِسلاَمِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَذَكَرتَ أَمراً إِن تَمَّ اعتَزَلَكَ كُلُّهُ، وَإِن نَقَصَ لَم يَلحَقكَ ثَلمُهُ، وَمَا أَنتَ وَالفَاضِلَ وَالـمَفضُولَ، وَالسَّائِسَ وَالـمَسُوسَ! وَمَا لِلطُّلَقَاءِ وَأَبنَاءِ الطُّلَقَاءِ، وَالـتَّمييزَ بَينَ الـمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، وَتَرتِيبَ دَرَجَاتِهِم، وَتَعرِيفَ طَبَقَاتِهِم! هَيهَاتَ لَقَد حَنَّ قِدحٌ لَيسَ مِنهَا، وَطَفِقَ يَحكُمُ فِيهَا مَن عَلَيهِ الـحُكمُ لَهَا! أَلاَ تَربَعُ أَيُّهَا الإِنسَانُ عَلَى ظَلعِكَ، وَتَعرِفُ قُصُورَ ذَرعِكَ، وَتَتَأَخَّرُ حَيثُ أَخَّرَكَ القَدَرُ! فَمَا عَلَيكَ غَلَبَةُ الـمَغلُوبِ، وَلا لَكَ ظَفَرُ الظَّافِرِ! وَإِنَّكَ لَذَهَابٌ فِي التِّيهِ، رَوَّاغٌ عَنِ القَصدِ. أَلاَ تَرَى ـ غَيرَ مُخبِرٍ لَكَ، لكِن بِنِعمَةِ اللهِ أُحَدِّثُ ـ أَنَّ قَوماً استُشهِدُوا في سَبِيلِ اللهِ مِنَ الـمُهاجِرينَ وَلِكُلٍّ فَضلٌ، حَتَّى إِذَا استُشهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ: سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ، وَخَصَّهُ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ) بِسَبعِينَ تَكبِيرَةً عِندَ صَلاتِهِ عَلَيهِ! أَوَلاَ تَرَى أَنَّ قَوماً قُطِّعَت أَيديِهِم فِي سَبِيلِ اللهِ ـ وَلِكُلٍّ فَضلٌ ـ حَتَّى إذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا كَمَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِم، قِيلَ: الطَّيَّارُ فِي الـجَنَّةِ وَذُو الـجَنَاحَينِ! وَلَولاَ مَا نَهَى اللهُ عَنهُ مِن تَزكِيَـةِ الـمَرءِ نَفسَـهُ، لَذَكَـرَ ذَاكِرٌ فَضَائِـلَ جَمَّةً، تَعرِفُهَا قُلُوبُ الـمُؤمِنِينَ، وَلا تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِينَ. فَدَع عَنكَ مَـن مَالَت بِه الرَّمِيَّةُ، فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا، وَالنَّاسُ بَعدُ صَنَائِعُ لَنَا.  لَم يَمنَعنَا قَدِيمُ عِزِّنَا، وَلا عَادِيُّ طَولِنَا عَلَى قَومِكَ أَن خَلَطنَاكُم بِأَنفُسِنَا، فَنَكَحنَا وَأَنكَحنا، فِعلَ الأَكفَاءِ، وَلَستُم هُنَاكَ! وَأَنَّى يَكُونُ ذلِكَ كَذَلِكَ وَمِنَّا النَّبِيُّ وَمِنكُمُ الـمُكَذِّبُ، وَمِنَّا أَسَدُ اللهِ وَمِنكُم أَسَدُ الأَحلاَفِ، وَمِنَّا سَيِّدَا شَبَابِ أَهلِ الـجَنَّةِ وَمِنكُم صِبيَةُ النَّارِ، وَمِنَّا خَيرُ نِسَاءِ العَالَـمِينَ وَمِنكُم حَمَّالَةُ الـحَطَبِ، فِي كَثِيرٍ مِمَّا لَنَا وَعَلَيكُم! فَإِسلاَمُنَا مَا قَد سُمِعَ، وَجَاهِلِيَّتُنَا لا تُدفَعُ، وَكِتَابُ اللهِ يَجمَعُ لَنَا مَا شَذَّ عَنَّا، وَهُوَ قَولُهُ سُبحَانَهُ: (وَأُولُو الأَرحَامِ بَعضُهُم أَولَى بِبَعضٍ فِي كِتَابِ اللهِ)، وَقَولُهُ تَعَالَى: (إِنَّ أَولَى النَّاسِ بِإِبرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الـمُؤمِنِينَ)، فَنَحنُ مَرَّةً أولَى بِالقَرَابَةِ، وَتَارَةً أَولَى بِالطَّاعَةِ. وَلَـمَّا احتَجَّ الـمُهَاجِرُونَ عَلَى الأَنصَارِ يَومَ السَّقِيفَةِ بِرَسُولِ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ) فَلَجُوا عَلَيهِم، (أي فازوا عليهم) فَإِن يَكُنِ الفَلَجُ بِهِ فَالـحَقُّ لَنَا دُونَكُم، وَإِن يَكُن بِغَيرِهِ فَالأنصَارُ عَلَى دَعوَاهُم.  وقد أشارَ أميرُ المؤمنينَ إلى ذلكَ في احتجاجِه على أهلِ السقيفةِ بقوله: (أنا أحقُّ بهذا الأمرِ مِنكم، لا أبايعُكم، وأنتُم أولى بالبيعة ِلي، أخذتُم هذا الأمرَ منَ الأنصار، واحتججتُم عليهم بالقرابةِ منَ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم) وتأخذونَه مِنّا أهلَ البيتِ غصباً؟ ألستُم زعمتُم للأنصارِ أنّكم أولى بهذا الأمرِ مِنهم لمّا كانَ مُحمّدٌ مِنكم، فأعطوكُم المقادةَ، وسلّموا إليكم الأمارة، وأنا أحتجُّ عليكم بمثلِ ما احتججتُم به على الأنصارِ، نحنُ أولى برسولِ اللهِ حيّاً وميّتاً، فأنصفونا إن كُنتم تؤمنون، وإلّا فبوؤوا بالظّلمِ وأنتُم تعلمون) وفي المُحصّلةِ كثيرةٌ هيَ الاحتجاجاتُ التي احتجَّ بها أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) على مَن نازعَه الخلافةَ، وليسَ بالضرورةِ أن تكونَ الأدلّةُ بالشكلِ الذي تنسجمُ معَ السائلِ وإنّما المهمُّ أن تكونَ مُتوافقةً معَ منهجِ الإسلامِ وطريقةِ العُقلاء.