هل نفى الإمام علي العصمة عن نفسه عندما قال (إني لستُ بفوقِ أن أُخطئ)؟

عبد الرحمن النفيس/ الكويت/: هل كان علي معصوماً ؟ يقول الإثنا عشرية إن الإمام معصوم من الذنوب والخطأ والنسيان والسهو (عقائد الإمامية للمظفر ص 67 ) . لكننا لم نسمع هذا الكلام من فم الإمام علي! بل قال العكس. فقد روي عنه أنه قال : إني لستُ بفوقِ أن أُخطئ (نهج البلاغة 2/ 201 ) . وكان (ع) خائفاً من تولّي الحكم خشية ألا يعدل بين الناس! فقد قال يوماً:- إني كنتُ كارهاً للولاية على أمة محمد (ص) ،، لأني سمعتُ رسولَ الله (ص) يقول:- أيّما والٍ وليَ الأمرَ من بعدي، أُقِيمَ على حد الصراط، ونشرت الملائكةُ صحيفته، فإن كان عادلاً أنجاه اللهُ بعدله، وإن كان جائراً إنتقض (هوى) به الصراط حتى تتزايل مفاصله، ثم يهوي إلى النار ( البحار 32/ 17 ، 32/ 26 ).

: اللجنة العلمية

  ثبوت عصمته (عليه السلام) أوضح من الشمس في رابعة النهار، فهاهي الأحاديث الصحيحة في مصادر أهل السنة ومسانيدهم تثبت ذلك. 

روى الحاكم في المستدرك على الصحيحين ج3 ص 134 - ووافقه الذهبي على تصحيحه - أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : " علي مع القرآن والقرآن مع علي،  لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ". 

فالذي لا يفارق القرآن ولا يفارقه طرفة عين أبدا هو معصوم جزما ؛ لأن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فكذلك يكون شأن من كان القرآن معه دوما وابدا  .

 وعن المصدر ذاته روى الحاكم في حديث صحيح - صححه الحاكم - ووافقه الذهبي عليه ج3  ص 131- أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : " من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع عليا فقد أطاعني،  ومن عصى عليا فقد عصاني ".

وايجاب الطاعة المطلقة يوجب العصمة ، وهذا مطلب واضح  يعرفه أصغر الطلبة في علم الأصول، وراجع تفسير الرازي مفاتيح الغيب عند تفسير قوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) حتى تدرك كيف أن إيجاب الطاعة المطلقة يوجب العصمة .

ومن الأدلة على عصمته (عليه السلام) أيضا حديث الثقلين الوارد فيه : " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض " صحيح  الجامع الصغير  للسيوطي والألباني  رقم الحديث 1726- 2458.

وهذا الحديث في الدلالة على العصمة كالحديث الأول. 

وهكذا غيرها كثير من الأدلة النبوية .

وإن شئت فاعطف بنا على نهج البلاغة واقرأ كلماته (عليه السلام) حتى ترى أنه كان يرى في نفسه العصمة أو لا ؟!!

 قال (عليه السلام)  : " وإنّي لعلى بيّنة من ربّي، ومنهاج من نبيّ، وإنّي لعلى الطريق الواضح ألقطه لقطاً "..قال الشيخ محمّد عبده في شرحه: اللقط: أخذ الشيء من الأرض، وإنّما سمّى اتّباعه لمنهج الحقّ: لقطاً ; لأنّ الحقّ واحد والباطل ألوان مختلفة، فهو يلتقط الحقّ من بين ضروب الباطل(1).

وقال (عليه السلام) في كلام له وقد جمع الناس وحضّهم على الجهاد فسكتوا ملياً: "... لقد حملتكم على الطريق الواضح، الّتي لا يهلك عليها إلاّ هالك(2)، مَن استقام فإلى الجنّة، ومَن زلّ فإلى النار "(3).

أي: مَن استقام في الطريق الّذي حملهم (عليه السلام) عليه فإلى الجنّة، ومَن زلّ عن الطريق الّذي حملهم عليه فإلى النار، وهذا المعنى دالّ على العصمة، كدلالة الأحاديث النبوية السابقة الّتي تلوناها عليك.

وقال (عليه السلام) في كلام له لبعض أصحابه: " فإن ترتفع عنّا وعنهم محن البلوى، أحملهم من الحقّ على محضه "(4).

وقال (عليه السلام): " ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّي لم أردّ على الله ولا على رسوله ساعة قط "(5).

وقال (عليه السلام) في خطبته المسمّاة بـ: " القاصعة "، الّتي ذكر فيها قربه من

النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وملازمته إيّاه منذ الصغر: "... وكان ـ أي النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل " (6).

وقال (عليه السلام) من كلام له ينبّه فيه على فضيلته ; لقبول قوله وأمره ونهيه: " فو الّذي لا إله إلاّ هو! إنّي لعلى جادّة الحقّ، وإنّهم لعلى مزلّة الباطل "(7).

وقال (عليه السلام) عندما بلغه خروج طلحة والزبير عليه مع السيّدة عائشة وإثارتهم الفتنة ضدّه: " إنّ معي لبصيرتي، ما لَبستُ ولا لُبس علَيَّ "(8).

فهذه الكلمات الواردة عنه (عليه السلام) دالّة بكلّ وضوح على أنّه مع الحقّ والحقّ معه، كما أشار إلى ذلك النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في كلماته السابقة الّتي تلوناها عليك، وهذا هو معنى العصمة الّتي عنيناها.

وقال (عليه السلام): " عزب رأي امرئ تخلّف عنّي(9) ; ما شككت في الحقّ مذ أُريتُه ".

وقال (عليه السلام) في كتاب بعثه إلى أهل مصر مع مالك الأشتر: " إنّي والله لو لقيتهم واحداً وهم طلاّع الأرض كلّها ما باليت، ولا استوحشت، وإنّي من ضلالهم الّذي هم فيه، والهدى الّذي أنا عليه، لعلى بصيرة من نفسي، ويقين من ربّي "(10).

وقال (عليه السلام) من خطبة له يذكر فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته: " فأدّى أميناً، ومضى رشيداً، وخلّف فينا راية الحقّ، مَن تقدّمها مرق، ومَن تخلّف عنها زهق، ومضن لزمها لحق، دليلها مكيث الكلام، بطيء القيام، سريع إذا قام "(11).

وقال (عليه السلام): " انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم، واتّبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدىً، ولن يعيدوكم في ردىً، فإن لبدوا فالْبُدوا، وإن نهضوا فانهضوا، لا تسبقوهم فتضلّوا، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا "(12)...

إلى غيرها من الأقوال الواردة في نهج البلاغة، والمنتشرة هنا وهناك، الدالّة على عصمته (عليه السلام) وعصمة أهل بيته الكرام (عليهم السلام).

 أما ما ذكرتموه من قوله عليه السلام : " لست في نفسي بفوق أن أخطيء ، ولا آمن ذلك من فعلي " في الكلام يوجد استثناء دال على العصمة لم تذكره ، وهو قوله عليه السلام بعد هذا الكلام مباشرة : " إلا أن يكفي الله من نفسي ماهو أملك به مني ".

قال الشيخ محمد عبده في شرحه للنهج : يقول لا آمن من الخطأ في أفعالي إلا  إذا كان يسر  الله  لنفسي فعلا هو أشد ملكا مني ، فقد كفاني الله ذلك الفعل،  فأكون على أمن من الخطأ فيه .انتهى

والسؤال هنا : هل كفى الله عز وجل أمير المؤمنين عليه السلام ما هو أملك به منه ، ويسر له فعلا هو أشد ملكا منه ينتصر به على نفسه ويأمن الخطأ في فعله ؟!

الجواب : قال تعالى في سورة الأحزاب : " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا "

قال الطبري بسنده إلى سعيد بن قتادة ، الذي قال عند تفسيره لآية التطهير : فهم أهل بيت طهرها الله من السوء ، وخصهم برحمة منه.

وعن ابن عطية - فيما أورده النبهاني عنه  في الشرف المؤبد ولمقريزي في فضل آل البيت - : والرجس أسم يقع على الإثم والعذاب ، وعلى النجاسات والنقائص ، فاذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت .انتهى

ولك أن تراجع الكلمات السابقة لأمير المؤمنين عليه السلام حتى تدرك هل كفاه الله من أمره  ماهو أملك به منه أو لا !!

وأما ما ذكرتموه من كلماته بكرهه للولاية فهو عليه السلام كان يصرح بذلك لما رآه من تكالب القوم عليها ورغبتهم فيها وكانوا يظنون أنه عليه السلام يسعى للإمرة  كما يسعون من حب الجاه والمناصب فكان يبين للجميع أن  طلبه للولاية إنما لأجل إقامة الحق ونصرة المظلومين لا أكثر .

فانظر إلى  كلماته في النهج : "أما والذي فلق الحبة  وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقروا على كظة ظالم ، ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت كأس آخرها بكأس أولها،  ولألفيتم دنياكم هذه عندي أزهد من عفطة عنز ".

 _________________

1- نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ 1 / 189.

2- الّذي حَتَم هلاكه ; لتمكّن الفساد من طبعه وجبلّته.

3- نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ 1 / 233.

4- محض الحقّ: خالصه ; نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ 2 / 64.

5- المستحفَظون ـ بفتح الفاء ـ: اسم مفعول، أي الّذين أودعهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمانة سرّه وطالبهم بحفظها.

ولم يردّ على الله ورسوله: لم يعارضهما في أحكامهما.

نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ 2 / 171.

6- نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ 2 / 157.

7- المزلة: مكان الزلل الموجب للسقوط في الهلكة ; نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ 2 / 172.

8- نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ 2 / 30.

9- أي: لا رأي لمَن تخلّف عنّي، ولم يطعني، وهو كلام في معرض التوبيخ، وقد بيّن أمير المؤمنين (عليه السلام) بما يليه من الكلام أسباب وجوب اتّباعه ; راجع: نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ 1 / 39.

10- " وهم طلاّع... إلخ " حال من مفعول " لقيتهم "، والطلاع ـ ككُتّاب ـ: ملء الشيء، أي: لو كنت واحداً وهم يملؤن الأرض للقيتهم غير مبال لهم.

نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ 3 / 120.

11- مرق: خرج عن الدين، والّذي يتقدّم راية الحقّ هو مَن يزيد على ما شرع الله أعمالا وعقائد يظنّها مزينة للدين ومتمّمة له ويُسمّيها: بدعة حسنة.

زهق: اضمحلّ وهلك.

مكيث: رزين في قوله، لا يبادر به من غير روية.

بطيء القيام: لا ينبعث للعمل بالطيش، وإنّما يأخذ له عدّة إتمامه، فإذا أبصر وجه الفوز قام فمضى إليه مسرعاً ; وكأنّه يصف بذلك حال نفسه كرّم الله وجهه.

نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ 1 / 193.

12- سمتهم: السَمت ـ بالفتح ـ: طريقهم أو حالهم أو قصدهم.

لبد: أقام ; أي: إن قاموا فأقيموا.

نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ 1 / 189.