هَلْ تأثَّرَ الإسلامُ باليَهوديَّةِ والنَّصرانيَّةِ؟

سُؤالٌ: ومَاذا عن انتشارِ الإسلامِ ومَا يَقولهُ المُلحدونَ مِنْ أنَّ النَّبيَّ مُحمَّداً هُوَ الَّذِي إختلقَ الدِّيانةَ الإسلاميَّةَ وجَوهرُهَا مأخوذٌ مِنَ اليَهوديَّةِ؟

: اللجنة العلمية

الإلحادُ فِي الوسطِ العربيِّ والإسلاميِّ عاجزٌ حتَّى عَنِ ابتكارِ شُبهاتِهِ الخاصَّةِ، ولذَا نجدُهُ يَعتمِدُ على مَا يُثارُ فِي الثَّقافةِ الغَربيَّةِ حتَّى مِنْ دُونِ أنْ يُجهِدَ نَفسَهُ فِي إعادَةِ إنتاجِ تِلكَ الشُّبهاتِ بمَا يتناسَبُ مَعَ البيئَةِ الشَّرقيَّةِ، الأمرُ الَّذِي يؤكِّدُ بأنَّ الإلحادَ العربيَّ لا يهتمُّ كثيرَاً بالمُستوى العلميِّ للشُّبهةِ وكلُّ مَا يُهمُّهُ هُوَ إثارةُ أكبرِ قَدرٍ مِنَ الشُّبهاتِ بقَصدِ خَلقِ بَلبلةٍ وضجَّةٍ مُفتعلَةٍ، ويَبدُو أنَّ الشُّبهاتِ حَولَ القرآنِ تَرجِعُ إلى بَعضِ المُستشرقينَ الَّذينَ يهدفونَ إلى فكِّ الاِرتباطِ بينَ المُسلمينَ وبينَ كِتابهِمُ المُقدَّسِ، ولِذا عَملِوا على إشاعةِ الشُّبهاتِ الَّتِي تُروِّجُ بأنَّ القُرآنَ مُنتَحَلٌ مِنْ ثقافاتٍ أرضيَّةٍ أو مِنْ دياناتٍ سابقَةٍ، والعجيبُ أنَّهمْ لم يُقيمُوا دليلاً واحداً على هذهِ الشُّبهاتِ، فالقولُ مَثلاً أنَّ النَّبيَّ تأثَّرَ بالأحبارِ مِنَ اليَهودِ، والرُّهبانِ مِنَ النَّصارى مِنْ أمثالِ بَحيرى الرَّاهِبِ، ووَرقةَ بنِ نَوفَلٍ، لا يَعدُو أنْ يَكونَ اِتّهامَاً مُجرَّدَاً عَنْ أيِّ بيِّنَةٍ تؤكِّدُهُ، ومِثلُ هَذهِ الدَّعوةِ لا تَرتقِي إلى مُستوى الاِتِّهامِ مَا لَمْ تَقُمْ عليهَا شَواهِدُ تاريخيَّةٌ تُجبِرُ البَاحثَ على مُراجعتِهَا والحُكمِ عليهَا، أمَّا مُجرَّدُ إطلاقِ الكلماتِ والاِتِّهامِ الجُزافِ لا يَنظُرُ إليهِ ولا يَركُنُ لهُ إنسانٌ عاقلٌ، وتَرديدُ الملحدينَ لهذهِ التُّرَّهاتِ يَدلُّ على أنَّ دوافعَهُمْ نَفسيَّةٌ وليسَتْ عِلميَّةً يُحرِّكُهَا الحِقدُ الأعمَى على الإسلامِ ليسَ إلَّا. 

فمُجرَّدُ وجودِ رِوايةٍ يَتيمَةٍ تُثبتُ اِلتقاءَ النَّبيِّ بورقةَ بنِ نوفلٍ أو بَحيرى لا تَصلحُ كمستندٍ للتَّدليلِ على أنَّ النَّبيَّ قَدْ تعلَّمَ القُرآنَ فِي تِلكَ الجَلسةِ العَابرةِ، فعلى الأقلِ يَحتاجُ الأمرُ إلى جَلساتٍ مُتواصِلَةٍ وتعلُّمٍ مُستَمِرٍّ يمتدُّ ثلاثَاً وعشرينَ سنةً فَترةَ نُزولِ القُرآنِ، ولم يَنقلْ لنَا التَّاريخُ ولا صحابَةُ النَّبيِّ مِثلَ هذا التَّواصُلِ بينَ النَّبيِّ وبينَ هؤلاءِ الرُّهبانِ والأحبارِ. 

ومِنَ المَعلومِ أنَّ النَّبيَّ كانَ يُواجِهُ تيَّارَاً تشكيكيَّاً مِنْ كُفَّارِ قُريشٍ الَّذِينَ لَمْ يَتركُوا وَسيلةً إلَّا واستخدموهَا فِي وجهِ دعوةِ الإسلامِ، فلو صَحَّ هذا الزَّعمُ لكانَ مِنْ بابِ أولى أنْ يَستخدِمُوهُ فِي مواجهتهِ، فِي حينِ أنَّ التَّاريخَ لَمْ يَنقُلْ لنَا مِثلَ هذَا الاِتِّهَامِ، بَلْ على العكسِ مِنْ ذلكَ نَقلَ لنَا إشادةَ فُصحاءِ العَربِ ببَلاغةِ القُرآنِ ومدى اِندهاشِهِم بِنَظمِ القُرآنِ وفصاحتِهِ. ويَبدُو أنَّ تأكيدَ القُرآنِ على كونِ النَّبيِّ أميَّاً لَمْ يُمارِسِ القِراءةَ والكِتابَةَ كمَا يَشهَدُ بذلكَ تاريخُهُ العَمليُّ، القَصدُ مِنهَا سَدُّ الطَّريقِ على مِثلِ هذهِ الدَّعاوي، وهذَا كافٍ لرَدعِ العاقلِ مِنْ تَبنِّي مِثلِ هذهِ السَّخافاتِ طالمَا الظُّروفُ التَّاريخيَّةُ لا تدعمُهُ، والإنسانُ العاقلُ بطبعِهِ يتعامَلُ مَعَ الشَّواهدِ التَّاريخيَّةِ والقرائِنِ المَوضوعيَّةِ، ولكِنْ مَاذا نقولُ للإلحادِ الَّذِي يُصِرُّ على السَّيرِ عَكسَ المَناهِجِ المَعرفيَّةِ. 

والعجيبُ فِي الأمرِ أنَّ القُرآنَ واجَهَ بشكلٍ صارمٍ اِنحرافَ اليَهودِ والنَّصارَى وسَخَّفَ أفكارَهُم وأبطلَ حُجَجهُم كمَا فِي قَولهِ تعالى: (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا في‏ دينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسيحُ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا باللهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى‏ باللهِ وَكيلاً) (النِّساء:171)، ولَوْ كانُوا مُعلِّمينَ للرَّسولِ لمَدَحَهُمُ القُرآنُ، وأثنَى عليهِم.

وقد تنبَّهَ لبُطلانِ هذهِ الشُّبهةِ بَعضُ المُفكِّرينَ الغَربيِّينَ أمثالِ الفَرنسيِّ (الكونت هنري دي كاستري) حَيثُ قَالَ: "ولقَدْ يَستحيلُ أنْ يكونَ هذا الاِعتقادُ وصلَ إلى النَّبيِّ مُحمَّدٍ مِنْ مُطالعةِ التَّوراةِ والإنجيلِ". والخِلافُ الكَبيرُ بَينَ مُحتوىَ رِسالةِ الإسلامِ وبَينَ مَا هُوَ مَوجودٌ عِندَ اليَهودِ والنَّصارى يُدلِّلُ بِشَكلٍ قَاطِعٍ عَلى أنَّ الإسلامَ لَمْ يُنسَجْ عَلى مِنوالِهِم، وبالتَّالِي فالإسلامُ لَيسَ نُسخَةً مُحرَّفَةً أو مُعدَّلَةً عَنِ اليَهوديَّةِ والنَّصرانيَّةِ أو كِلتَيهِمَا، ومُقارَنَةُ جَوهَرِ هَذهِ الدِّياناتِ مِنْ خِلالِ كُتبِهَا المُقدَّسَةِ يُثبِتُ ذلكَ وبِخاصَّةٍ فِي مَوضوعِ تَنزيهِ اللهِ ومَقامِ الأنبياءِ ومنزلتِهِم.